جان بابيير
يسجل إبراهيم اليوسف حضوراً أول في عالم الرواية، وهو الشاعر والصحفي، عبر روايته “شارع الحرية”، والصادرة عن دار “أوراق” للطباعة والنشر – القاهرة، وفي مائتين وثماني صفحات من القطع المتوسط، توزعت على خمسة وأربعين عنواناً مختلفاً، حيث كل عنوان يتألف من كلمتين أو أكثر قليلاً وأحياناً؛ والعناوين برمتها جمل اسمية، ما عدا الأخير منها فهو جملة ناقصة فعلية، إلا أنها هنا وهناك مكهربة بكم من الشعرية، عبر إستراتيجيات يمكن دراستها ضمن منظورها، وحسب ما اقتضته ضرورة السرد والحبكة من قبل الكاتب.
هذا أول عمل روائي أقرؤوه للصديق إبراهيم اليوسف، قراءتي هذه لم تكن بحكم الدراسة أو الانطباع الذي خرجت به، بل كان نتاج متعة القراءة التي كثيراً ما نفتقر إليها بسبب غياب الكتب العربية في غربتنا هنا في المهاجر.
لقد لفت انتباهي في هذه القراءة إلى أشياء مختلفة عن الرواية النمطية السردية، حيث إن المنعطف الأول فيها أن الكاتب وضع روايته على المشرحة، منطلقاً من سؤال إشكالي يفتح أكثر من تأويل وأفق من الميتاسرد اللذين يصلان في بعض الفصول ليصبا في مجرى الذاتية التي لا يستوعبها كثير من القرّاء، إن العمل الميتاسردي لا يتماهى بمفاهيمه الإشكالية مع تلك التي تقوم على الموت المجازي لدى فوكو ورولان بارت، وحتى موت ودفن الرواية لدى فيدلر، إذ يوصف الميتاسرد قراءة منهجية ودراية واضحة بين تجاذبات اللغة ودلالتها، أي إن الكاتب يجنح أحياناً إلى نص آخر وأحداث أخرى سيرذاتية ما بين الواقع والمتخيل، كما في حالة الشبيه لدى إبراهيم اليوسف داخل النص الروائي، أو خلق وظائف لشخص ضمن حركة من العلاقات والأفعال، وهو بكامل عدته الاستعدادية، وقد حقن عضو العمل الرئيس بأفكاره، مثلما يعترف في الصفحة (9): “أمليت على اسمك الصفات التي أريد”، أو بالأحرى تأثر الروائي بالشخصية الرئيسية التي دونها، أحدهما ملبوس بالآخر، شطب منه أشياء وأضاف أشياء منه إليه، وهنا يقع القارئ بين إشكالية أيهما الراوي، وأيهما عضو العمل الرئيس من منطلق المؤلف الافتراضي الذي هو عين المكان والزمان الواقعي، يفتح إيميله يتصفح صفحته يجادله.
وهو يدفع ضريبة التمايز والاختلاف، يحاول جاهداً أن يخرج بحيوات الشخوص التي بنى عليها تحريك القصة. لكنّ هذا العمل لا يريد أن يكون تعريفاً مستهلكاً للاستعمار، أن يخرج القارئ من الباب ويدخل من النافذة، يقدم عمله كإفطار جماعي في “شارع الحرية”، يطحن حنطة الجسد، ويمنح دقيق الروح، يمتلك صورتنا، وعينين تشبهان عيوننا ليقول لنا: “ما أوجه التشابه بين العرق والحليب؟” الاثنان يُسكران، أحدهم الجوع، والآخر القلق، ما أوجه التشابه بين السجن والجسد؟ طحالب في ثرثرة الرغبة، ويعريّ الأفكار في حمام الرأس، أكثر من الشخوص بقدر ما تكون مسافة سيرك في طريق هذا العمل، يجب أن تتمنطق بكميةٍ كبيرةٍ من الاحتياط للسير، هناك جمل سوف تستوقفك بشفاه تجيد النطق أكثر من غاياتها، تجيد الصمت أكثر من رغباتها، تلفظ الوقت أكثر من أوقاتنا.
في هذه المدينة تبدو ابنة سلالة الحجر بريسكا، هذا المكان الذي كان جامعاً يأتي الأهلون إليه من القرى ليسكنوها، أصبح مطارداً بفعل أمراء الحرب، يشرد الأبناء كفراخ القطا يخرجون من العش ولا يعودون، يروق للكاتب أن يقتلنا بالحب ويبتعد عن شارعه ليصل إلى قرى كوباني في القتل، وعامودا وعفرين! أحياناً يحدثنا بهندباء الكلمة وخبّيز العمر عندما يكون مع بريسكا، كما يحمل العصا الغليظة لأصدقائه الذين يسرقون من مكتبته الكتب، وهذا حال أغلب الكتّاب الذين يملكون الكتب، ويرمّم ملامحه بملمس يدي ذاكرته، وينقصُ ملامحنا بسطوة الحبر، حتى تنبت أحلامه بين الجمل كأعشاب طالعة لتوها من الأرض بسيقانها الفضّية كأنه تدوين من النبات.
نوستولوجيا الألم الذي يعانيه البطل – الراوي – الحنين الطاغي الذي يتملكه ويسيطر على عاطفته وحب شديد للمكان الأول الذاكرة الأولى الحب الأول، الذي يصادف هذا الهوس النوستولوجي على مدى فصول كثيرة من الرواية الأم، باحة البيت، الأب، المكتبة، الأرشيف، صفحة (84): “أية زيارة لمسقط أحلامك”، كما الشعراء يقفون على الأطلال، المكتبات، حنا السرياني، مكتبة اللواء، مكتبة جوان كلها مثل شخوص الأبطال تطل بعناوين الكتب، ويخرج منها الكتاب، حمزاتوف، محمود درويش المسروق، هو يبحث عن أرشيفه، أرشيف لذاكرة تتعرض للنهب ويلتجئ إلى الكتابة، كي لا يسرقوا الورود وفوضى الروائح، نرجسة دمه زيزفونة ندمه، في ظل الصور الجديدة والرايات الجديدة، يصور الكائن والكائن الجماد بملامح تشبهنا.
كما هنا عندما يشده الحنين من تلابيبه، ويفلت من عهدته الروائية، النستولوجيا تحول انتمائه العاطفي إلى ماضيه القريب، ذكريات جميلة قد مضت دون رجعة، قطن بيت بيرا آشيتي فيطير بملء أجنحة الحمام، دكانة عصمت اللوز والنعناع، الهندباء من عيشَشان النايات وريشٌ وبستانُ جسد، من فيروز وقمح الجهات قرنفلٌ وبيادرٌ وشجرٌ وسماءٌ تتراءى فيها الصبايا من محمد شيخو والعشبيات الطرية بالشهوة جيكرخوين/الجار.
كل واحدٍ من كتبه طفل قصيدةٍ له، كل واحدٍ منهم فراخ قططٍ تشق الصباح وتطلع إليه تموء حوله: أحبّك بابا، كل فراغٍ يملؤه الأطفال بشغبهم، بعنادهم الفظّ، بهدوء ظلالهم، لينام هو وشبيهه، في تلك الليلة في سريرين مختلفين ومكانين بعيدين يحضنان الخواء والفراغ.
شارع الحرية، أغلب الأماكن فيها واقعية، يسرد فضاء يبدأ منذ فترة السبعينات، حيث الشارع والمكان يمتلكان المشاعر والأحاسيس، يمتلكان أكثر من حاسة حتى يتبادل الشخوص النظرات ويصوغون جمل العتاب وما بعدها ليمتد الزمن إلى الثورة السورية، حيث الشيوعيون، الجبهة التقدمية، والحزب العمال الكردستاني، تدور الكثير من سرديات هذه العناوين في شارع الحرية، والشخوص في هذه الرواية ليسوا كلهم من خيال الكاتب الحبري، بل هناك أشخاص من لحم ودم، محمد شنر المنشق عن العمال الكردستاني، الخزنوي الشهيد، مشعل تمو، شيركو بيكس الشاعر، أحيانا تفلت خيوط القصة، من يد القارئ، أما اللغة فشعرية، ومقاطع منها تصلح لأن تكون نصاً نثرياً جميلاً، وكذلك إسقاط الرمزية، وهذا ما يحسب للكاتب، ومن خلال المونولوج الداخلي العودة إلى الطفولة والانتقال من القرية إلى المدينة، البيت الطيني، الدراسة، رسائل الغرام بينه وبين بريسكا التي انتظرته عشرين عاماً دون زوج.
أما ما يحسب عليه – أي على الكاتب – هو حشر الرواية ما بين الصفحة (7 – 16) أسماء كثيرة، كنوع من الإحصاء الاسمي، والعودة إلى سرد الأسماء للكتّاب والشعراء الذي يعرفهم القارئ ولهم وجود حقيقي، بالإضافة إلى أشخاص آخرين لا يعرفهم القارئ ليست لهم علاقة بالخط التصاعدي في الرواية، فقد أثقل كاهلها، ولم يقدم شيئاً فنياً وأدبياً من خلال ببليوغرافياه الاسمية في هذه الصفحات.
كما تتطرق الرواية للممارسات البغيضة لسلطة البعث، من خلال التفاصيل الصغيرة اليومية، التي أصبغت المجتمع كله، يردد الشعارات اليومية، ومنها المفروضة على طلاب المدارس، وتعريب اللغة والمدن والقصبات والقرى بأسماء عربية، هناك زحمة مرور في شارع الحرية، والذي أخذت الرواية اسمها من الشارع، وهم شيوعيون، بعثيون، آبوجيون، متدينون، مجانين، يطلق صافرة المرور لينظم مرورهم بحنكة ودراية، شارع يعيش خصوصيات القرى والرف أكثر من المدن.
في الصفحة (12) أي في بداية الرواية، يتحدث عن والده وشرائه لبيت من أجل دراستهم الإعدادية لعدم وجود مدارس إعدادية في القرية ولتكرار المضمون نفسه بشراء البيت، في ذلك الشارع، ويعود الكاتب في الصفحة (39) لم أجد مبرراً لذلك في المتن والحدث، في الصفحة (12): “سألت أبي الذي اشترى لنا البيت عن طريق عمنا يوسف قرطمني لنسكنه، بعد أن كبرنا وبات علينا أن نتابع الدراسة الإعدادية في المدينة: لماذا سمي بشارع الحرية؟”.
الموضوع ذاته، موضوع ببليوغرافيا الأسماء يقدم وبطريقة أخرى في الصفحة (39): “لطالما راودني هاجس الكتابة عن شارع بيتي، ليس لأن اسمه شارع الحرية، أتذكر عندما اشترى لنا أبي، لقد كانت المدرسة الإعدادية حكراً على المدينة”، وبالرغم من هذه الملاحظة فإن الكاتب إبراهيم اليوسف يستطيع من خلال الكتابة أن يصف المكان أو بأدق الزماكانية إذ يقول في الصفحة (40): “لا حل أراه إلّا عبر اللجوء إلى الكتابة”.
عودة الكاتب بعد ثلاثة عقود أو البطل الراوي إلى مسقط رأسه أو مسقط وعيه، وبريسكا في الحي الغربي، ليتفاجأ بملامح الحي وساكنيه، أصبح كل شيء فيه غريباً في حيه وشارعه، فيسقط في القالب الروائي، الحكاية والأغنية، والسرد لتكتمل لوحته، ملامح الشخصيات ليست واضحة كثيراً، أي الوصف فيها كان يعاني الغبن والتهميش، وإن كان بعض الكتّاب وبقصد يلتجئون – أحياناً – إلى عدم إظهار ملامح العدو الخصم سواء كان سياسياً أو فكرياً، لا أعلم هل تعمّد الكاتب عدم رسم ملامح بعض شخوصه السلبيين وأعني كتبة التقارير، عنصر الأمن، صناع الحرب، الذين جعلوا نساءنا يأكلن بأثدائهن في الصفحة (168): “حدثتني بريسكا عن أسماء إناث جميلات، قديرات كنا نعرف أصحابهن معاً، وانتقلن إلى بعض المنافي، وبتن يبعن أجسادهن”، فيصب جام غضبه على السياسيين، وأمراء الحرب، والنظام، ومدبري شؤون الأمر الواقع – سلطة الأمر الواقع – وبذلك يفتح الكاتب تساؤلات كثيرة لتأريخ مرحلة زمنية مرت بتغيرات كثيرة، وتمتزج مع كل ذلك آلام الغربة، والأحزان التي تلاحقه كظل، وهاجس الإنسان الوطن، والاغتراب الذاتي من بيئة عاشها وأخرى مفروضة عليه، هروبه من منفاه سراً، إلى احتضان ذاكرته التي يتعثر بها في شارع الحرية، والشبيه هل الشبيه هو الراوي الكلي أم الراوي داخل الرواية؟ يتقمصه يفكر مثله يجادله؛ إنه شبيه إبراهيم اليوسف وقد يكون إبراهيم الكائن الورقي الذي هو الند لإبراهيم الحقيقي.
استطاع الكاتب امتلاك اللغة في عمله الميتاسردي، وفيه من الألم والحب والنوستولوجيا، ليسفح دم الكاتب نفسه ويحقن به الجمل وتوتر الأحداث وتتابعها. في هذه الرواية يقع القارئ في فخ المتابعة، من خلال صفحاتها يعرف أبناء قومه، وتوقهم إلى الحرية، وشخصية العمل الرئيس أو الراوي هما لا ينفصلان، مثلما قلت سابقاً. ويغزو قلبك بخطوات الرّقصِ المتلهّفةِ إلى منتصف الرواية مع الشبيه الذي يؤرقني كقارئ حتى يذهب معه إلى لقائه الحميم مع بريسكا، ويأتي متسكِّعاً بوقته الشريد، ولا يفطم من ملاحقته، لكنه يمنحه مساحة من الحرية، ويلتزم الصمت، ويقف بعيداً عنه أحياناً بسُنن الفراق المُثلى، فيستند ظلّه على حائط بعيد، كما في الصفحة (132): “لقد تركت شبيهك خلف الباب، على الشارع، أنا خائفة”، يجيب شبيه الشبيه بمعنى محدودب أيضاً في الفقرة نفسها من الصفحة (132): “لا تقلقي حبيبتي لم تبدر منه أية إساءة إلى الآن”، يغوص عميقاً في الفعل والحدث حتى تراه بالعين المجردة بريسكا، ليكذب القلب و يخرج من ظهر الظهر الحقيقة ، فينشدُ الراوي خياله المعطوب المعدي المتوعِّك به، أو بحياته التي كانت هنا قبل الغربة ويدوزن وجود الصوري المجسد.
في فصل “سدرة اللهفات”، صفحة ( 137): “سهرنا معاً حتى وقت متأخر من الليل، قالت: القهوة طيرت النوم من عيني، ضع رأسك على صدري ونم. ثم تنهض كما الملسوعة: أين اختفى شبيهك؟ أضحك: إنه مؤدب كلما دنوت منك أبتعد!”، خطوةٌ ويلقي بظلاله على البطل، ويتقاسم الصفحات والوقت معه، ويرافقه كمرض الشقيقة، يعاني الصداع الصدغي منه.
كما أتى سراً فإنه يعود سراً كلصّ، فما آلم أن نكون في أوطاننا كلصوص في صفحة (175): “ما أستطيع فعله، أن أمرّ في الشارع بتؤده أن ننجح في مهمتنا، لئلا يشمت بنا أحد المتربصين كثيرون الناس تغيروا”، وعاد بالسيارة متخفياً عن الأنظار ملاحقاً من أشياء كثيرة، شبيهه حب بريسكا أخوته جيرانه أرشيفه نثر لحناً على شغاف العمرِ الفسيح، وأنتظر بكامل الغياب الممتلئ بالحضور من مواسم الجني من حبر وورق وأرشيف، ممدداً بجسد ذاكرته على حقل قندريس، ليمنحنا لذة الألم والنزف.
غزل حلماً على مقاس أرشيفه أرشيف الحنين، على مقاس روحه التي طالها العث كما أوراقه، يلملم أوراقه في كيس الانتظار الموبوء بداءِ الصّبر ما إن تتحرك السيارة، يعانق ما تبقّى منه ويتكئ بظهره على كرسي العودة، دون أن يتوقف مواله الداخلي، فتختلط ظلّاله مع الحي والشوارع، ويفوح عطر الشهوة من الشوارع بصمت، يوقظه بلهيب أنفاسه المتكدّسة على الطريق، ويعيدُ خلقِ قصّته الأولى بشغفٍ.
في هذه الرواية يمتزج فيها السرد مع السيرة الذاتية، التي لم يغص الكاتب كثيراً في تفاصيلها، تحسبا للخدش والتابوهات، واجتهد حتى لا تطفو على السطور واكتفى بإشارات صغيرة بدراية.
تناولت الرواية بموضوعية، وتعاملت معها كسرد ولغة نثرية وإسقاطات عن مدينة أعرف الكثير من معالمها وشوارعها وأناسها، لم تكن نيتي أن أكتب عنها مثلما ذكرت آنفاً، لكن الشيء الخفي في أذيال الجمل التي مسحت بها عيني، جعلتني أكتب انطباعي عنها، بعيداً عن صديقي إبراهيم اليوسف الذي قدم لنا في شارع الحرية مائدة عامرة بالخيبات، تقع بين الميتاسرد والنوستولوجيا، عندما وجد نفسه في حقبة زمنية غادرها كل جميل.