«بدايات… النهاية» المباشرة تقتل متعة السّرد

صبري رسول
تلك عنوان المجموعة القصصية للكاتب عبد الصمد داوود والصادرة حسب التاريخ المسجل في النشر 2009 والموزعة مؤخراً. تقع المجموعة في مئة وثلاثين صفحة متوسطة الحجم، وتتضمن إحدى عشرة قصة قصيرة. 
عتبات الغلاف والعنوان والإهداء:
عنوان المجموعة يثير إشكالية قبل الدخول إلى التفاصيل، حيث يتألف من مضافٍ ومضافٍ إليه، بينهما مجموعة نقاط، فراغات تلقي ظلاً باهتاً على المعنى. فوجود الفراغ الفني (إن صحّ التعبير) يجعل الكلمة الأولى (المضاف) نكرة مفقودة الدلالة، وتبقى الكلمة الثانية (المضاف إليه) صالحة كمبتدأ افتراضي، لايعرّف المضاف قبله، ويمكن تخيل الافتراض بشكل (بدايات كانت، والنهاية هكذا) كما يمكن قراءته بأي افتراضٍ آخر.
غلاف المجموعة أنيقة تظلّله لوحة فنية للفنان لقمان أحمد مقسّمة بشريط من اللونين الأحمر والأصفر، في أسفل الغلاف، وتقاسيم الخطوط العشوائية تشيع قلقاً وجودياً على فضاء الغلاف. والإهداء نفسه مثير للتساؤل (إلى كل كردي رفض ويرفض أن يعبّر عما يجيش في صدره كتابة إلا بلغته الأم…عرفاناً بالأفضلية، واعترافاً واعتذاراً – ربما يكون غير مقبول- بأنني لم أستطع أن أكون كذلك).
فالإهداء يشير إلى أن الكاتب لا يتمكّن من الكتابة بلغته الأم، فكتب عما يجيش في نفسه بالعربية، مما يوحي بأنّه متمكّن باللغة الكتابية التي استخدمها، وهذا ما لا نجده في النصوص، كما ستأتي الإشارة إليه لاحقاً.
كثيرٌ من كتابنا الكرد كتبوا بالعربية وأجادوا فيها، وربما تفوّقوا على أقرانهم العرب، وهنا أحيله إلى مقالٍ لي سابقاً (لماذا أكتب باللغة العربية) رداً على تساؤلات الكثيرين عن عدم كتابتي باللغة الكردية.

فنيات النّصوص:
كثيراً ما يبدأ الكاتب نصوصه بوصف طويل قبل بداية السرد كما في قصص (وبعد ثلاثين عاماً- وبعد أربعين عاماً- الغروب في مزكفت) حيث يمكن الاستغناء عن ذلك الوصف دون أن يؤثر على فنية سرد القصص، ففي قصة (الغروب في مزكفت) يأتي استهلال القصة بـ(الشمس أوصدت باب العصر وراءها، تدب ببطء نحو الأفق البعيد.. قطع من غيوم رقيقة تحوم فوق طوروس لتحتضن برفق مرتفعات باكوكا، حقول القمح تنتظر الحصاد بلهفة قبل أن تتقصف سنابلها تحت جمرات حزيران…..ص35) ألا يمكن أن نستغني عن هذه البداية القصصية دون أن تتأثر فنيتها السردية بحذفها؟ ويبدو أن الكاتب مازال متأثراً بالروايات الروسية الرديئة التي شاعت في أوساطنا قبل عقود.
في نصوص المجموعة يفتقد السرد القصصي إلى الفنية والمتعة، حيث بقي السّرد أسير اللغة المباشرة، واقتربت اللّغة الكتابية إلى اللّغة الحكائية (الحكواتي في المجالس الشعبية) أكثر منها إلى اللغة السردية ذات الفنيات الإيحائية، ففي قصة (بدايات…النهاية) نجد المباشرة تقترب إلى السطحية الفجة، تدور أحداث القصة حول قضية استيلاء الدولة على أراضي الفلاحين لصالح فئات معينة، فيتصدى الفلاحون لتلك المحاولات (اعلموا أيها الفلاحون أن الأرض سنفلحها شئتم أم أبيتم، ولكننا لا نريد إيذاء أحد منكم، وأعدكم بأننا سنعطيكم أرضاً غيرها لاحقاً، فافسحوا المجال لنا، ولا تعرضوا أنفسكم للتهلكة. فهذا قرار دولة ص76).
صحيح أن الكاتب يعالج قضايا تمسّ حياة النّاس ووجودهم، وكيانهم، ومشاعرهم اليومية والحياتية، لكن القضايا الكبيرة لا تصنع نصوصاً فنية، فيمكن للكاتب أن يجعل من موضوع بسيط قصة فنية مذهلة، فالنّص الفني الرفيع يكتسب قيمته الفنية من الأسلوب الكتابي وعناصره الفنية. وعلى السياق نفسه تأتي القصة الاجتماعية (ألغام منتصف الليل) حيث يتنازع سالار وهوشنك على (كزي) ابنة عمهما التي لا رَأْيَ لها فيمَن ستختار، وهي على علاقة عاطفية بـ(كاردو) فتهرب معه عبر الحدود، فيلقيان حتفهما نتيجة لغمٍ يتفجّر بهما. ونرى أنّ السّرد الفني يقترب من الحديث اليومي بين الناس:
(دخل الموجّه قاعة الدرس وبيده ورقة.
من منكم هوشنك عزيز عزيز؟
أنا يا أستاذ..
أنت مفصول من المعهد. تعال إلى الإدارة ليتم ترقين قيدك.
لماذا يا أستاذ؟ ماذا جرى، وماجنيت؟؟
أنت (خطر على أمن الدولة) هذا ما جاء في حكمك بموجب كتاب…ص82)
علاقة السّرد القصصي باللغة الكتابية علاقة جدلية ومتكاملة، فلا يمكن أن يكون السرد ممتعاً دون لغة فنية إيحائية، وبهذين العنصرين ترتبط بقية العناصر القصصية كالشخصية والزمان والمكان، إضافة إلى الاستهلال الفني والخاتمة.
أعترف أنني لم أقرأ للكاتب نصوصاً أخرى إلى تاريخ كتابة هذا الانطباع، خارج هذه المجموعة، ولا أعرف عما إذا كانت هذه تجربته الأولى أم غير ذلك، فالعتب الفني سيكون أعمق لو كانت هذه المجموعة عمله الثاني أو الثالث، لأنه لم يتمكّن من أدواته الفنية بالشّكل المطلوب.
المجموعة لا ترتقي إلى مستوى النّصوص القصصية الفنية، وهي أقرب إلى الحكايات الشتائية منها إلى النّثر الفنّي القصصي، ويبدو أنّ الكاتب غير مطلع على تجارب الآخرين في هذا المجال، كما يمكن القول أن العمل الأول ليس شرطاً للنجاح، ولايمكن التنبؤ بأنه لن يتمكن من أدواته الفنية في نصوصٍ أخرى. فكثير من الكتاب نشروا العمل الأول بأسماء مستعارة، ثم برعوا في أعمالٍ لاحقة، وهذا يبقى على مدى استفادة الكاتب من تجربته الأولى، ومن الملاحظات المسجّلة عليه، ومن تطوير أدواته الفنية. 
——————————-   
ملاحظة: هذا النص مكتوب منذ2012 لكنني لا أتذكّر أنني قد أرسلته إلى النشر لأسباب لا أعرفه. وجدته ضمن ملفاتي الآن.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…