مرويات الوجع السوري في رواية “شنكالنامه” لإبراهيم اليوسف

جبر الشوفي
رواية “شنكالنامه” الصادرة حديثاً هي الرواية الثانية للشاعر إبراهيم اليوسف، بعد رواية الأولى “شارع الحرية” الصادرة2017  التي أهلته ليحقق حضوراً روائياً ، يجسد فيه القلق الوجودي الكردي، في منطقة حدودية شديدة الحساسية، وفي مرحلة الاضطراب السياسي، وسيطرة قوات “بي دي” في القامشلي، في “شارع الحرية” وسيطرة “داعش” وجرائمها في “شنكالنامة” (سنجار) في معركة تثبيت الهوية وحقّ البقاء والحرية.
“شنكالنامة” أو (رسالة  سنجار) رواية تنطوي على مرويات شفهية لضحايا الحدث الداعشي وشهوده، تتشكل في هيئة رسائل صحافية وإعلامية، يبثها راو يقوم بدوره نيابة عن الكاتب من أفواه ناسها وضحاياها، ومن موقع الجريمة مرفقة بتعليقاته، 
محققاً بذلك نوعاً من التوازن والتكامل بين مهامه المتعددة (المربكة) سواء كصحافي يوثق ويواسي جروح الذات المغتصبة، أو المعدة للاغتصاب الجنسي القهري، أو كمراسل ميداني، يقوم بالبثّ الحيّ والمباشر للوقائع، أو في إنجازه رواية جامعة تجسّد في فصولها الغزيرة ملحمة الذات الأزيدية المفردة والجمعيّة المسالمة، في إطار محنة الجماعة العامة (الإثنية /الدينية) وشهوة افتراسها من الذئاب الداعشية المهوّوسة بالدم والجنس، ومحاولات اجتثاث هويتها من جذورها، بعد أن جرّدها التنظيم من أي وسيلة للدفاع عن النفس، حتى لو بالموت انتحاراً صوناً للعرض والكرامة، في رقعة ديمغرافية تعاقب عليها غزاة محتلون، وأشباههم فصدت بتكاتفها وصلابة أهلها كل حملاتهم، وخرجت منتصرة مؤكدة ما اختصره الأب، بقوله “بنيّ سنمرُّ بمحن كثيرة، لكننا لن نفنى”.
في “شنكالنامة” الرواية الملحمية، يُستدعى الفعل السردي كفعل مواز للواقعي الإجرامي، ليحضرا معاً بقوة وكثافة حضور كاتبها إبراهيم اليوسف، وتوغله في تفاصيل الجرح وتجرّعه عميقاً آلامه، مؤكداً على الهوية القومية الجامعة للكرد “الأيزيدية وكردستان كالجسد والروح”، حتى ليخال للقارئ أنّ الكاتب أو الراوي الذي ينوب عنه أحد أبطال الرواية الملوثين بدم الفجيعة، والمندفعين بغريزة الدفاع عن الهوية في لحظات مفرطة في حرجها، وخانقة في ضيق خياراتها، حيث الخيار بين أشكال الموت الفجائعي، وتسليم الجسد المكرّم عند الله والإنسان إلى غاز قذر جبان، يمارس فيه كل موبقاته، ويفرغ كل عقده، فلا يزداد إلا تعقيداً وغرابة وإيغالاً بالتوحش الغرائزي، الملوث بدماء المغتصبات والمقتولات تشفياً من ذوات، تحصّنت بكبريائها وتمنّعها على طقوس جنسية بوهيمية للتعرية الماجنة واستباحة الحرمات، وحيث لا تستثنى منها أم أو أخت وزوجة، أو حتى طفلة أو طفل، وكل من ساقه حظه للوقوع في أيدي من جعلوا من التدّين المنافق طقساً خبيثاً للهيمنة المطلقة بقوة السلاح وشهوة الدم.
وفي الرواية هنا، لستَ مخيراً بين ملحمة الواقع الأوجع، بكلّ همجيتها وبدائيتها، وملحمة الأدب وهي تضفي على الفجيعة، كلّ ما يجعل من رعبها وقسوتها فناً مستساغاً مرشحاً إلى الخلود، فعلى حين يذهب القاتل بعد المقتول، يبقى الإبداع إرشيفاً لمأساة عصر العولمة والفضاء المفتوح، حيث (حسوة الماء) وكسرة الخبز العزيزة تعدل الحياة، فإن توفّرت تعذّر على الأسير/ة  (السبية) ابتلاعها، وهي في أقصى حالات التشنج العصبي والنفسي، في ظلّ إعدادها لطقس افتراس شبقي كلبي ممزوج بالرقص الماجن، لتهييج الغرائز، وحيث مطلوب من الضحية أن تقهر أعماقها الرافضة، لتستقبل كلّ تلك القذارات مكرهة لافتداء حياتها، ولتتحمّل زناخة الخنازير وفعل الثيران الهائجة بجسد ماتت كلّ أحاسيسه وغرائزه.
إبراهيم اليوسف في “شنكالنامة” روائي، يبحث وينقّب في الاجتماع المدني والسياسي، ليخوض تجربة اكتشاف مجتمع الأيزيديين من كل جوانبه، وفي أحرج ظروفه، لذا نراه يلتقط الخيوط والدقائق في الوعي الشنكالي، وكل ما يجمع وما يفترق من تقاليده وعاداته ومكونات ثقافته، ويبدي قدرة وبراعة في التعامل مع مفردات واقع الإيزيديين اليومي، ومعتقداتهم الدينية، ويتماهى مع مخيالهم الديني والأسطوري، ولكنه يظلّ رغم ذلك محتفظاً بمسافة تمكنه من الاستماع والتعليق من خارج الحدث، قبل أن ينخرط فيه، ليظلّ جامعاً بين مصداقية التوثيق ونسج الخيال، بما يتوافق وينسجم مع خيوط السرد المفتوحة على مسار الزمن الخطّي تارة، والمتبدل وفقاً لمناورات ظرفية، تمليها حيل الكاتب ومهاراته الفنية، لتندرج في مسارها السردي العام، وتجعل من بشاعة المحمول السردي وقسوته متنوعاً مستساغاً، فلا تنقصه دقة الوصف وتلوين المشاعر والانفعالات، تبعاً لتبدل المواقف وتنوعها.
يبدو لي أن الكاتب إبراهيم اليوسف، وقد توخّى مواساة الضحية وبلسمة كبريائها الجريح، قد تماهى مع ما أشاعه من مناخ شعبوي عام مطعّم بالشعر والثقافات، بما يليق بطبيعة الحدث ومروياته ومستوى شخوصه الثقافي والمعرفي، وفي ظنه أو في وهمه، أنه يهيّئ حاضنا طبيعياً لحكايا البطولة التي تمازجت مروياتها بالمخيال الشعبي، وقد غدا نكوصياً ومأزوماً، شأنه في ذلك شأن أي مخيال في أقلية مستهدفة بوجودها، وفي ظلّ محنتها القاسية، وهو ما دعاه  ليعزف للجماعة المنتهكة أعراضها وبيوتها ودماؤها، على وتر العزة القومية واللحمة الاجتماعية منوهاً بدور البيشمركة في حمايتهم وتخليصهم من أنياب الوحش، وبسوق كل ما يدعّم ثقتهم بأنفسهم كفرقة ناجية، تنسب الخوارق لمعتقدها بـ(طاووس ملك) ومتنقلاً في السرد من تفاصيل الوقائع المرهقة إلى الغوص في تفاصيل التفاصيل، كاشفاً النقاب عن جوهر المرأة الإيزيدية المفاجئة بشجاعتها وتحديها، وكأنما المحنة قد حررتها من حشمة مصطنعة، فاندفعت تروي بحرية وجرأة، ما تعرضت له من اغتصاب ومهانات وإذلال، لتلقيه في وجوه الرجال، وكأنها لا ترى في “داعش” إلا تكثيفاً، لما قرّ في أعماق مجتمع الذكورة ووعيه النرجسي المرضي، وكان من حقها أن تصرخ.
وفر الكاتب لروايته عناصر مهمة، حفظتها من التشتت بين موضوعات متعددة، وثبتت المحور السردي على سكة الحدث الروائي مفسحاً في المجال لتقاطع الشخوص الافتراضيين والأحداث في فضاء الرواية باعتباره فضاء سائلاً، في بيئة اجتماعية وطبيعية، رسم الكاتب ملامحها الواقعية المعبرة من خلال مشاعر الرواة وأحاسيسهم، كما في أحد فصولها “الشمس الحمراء” حيث تقدم إحداهنّ صورة قاتمة راعبة لما شاهدته في فضاء المدينة أثناء اجتياحها الفاجع فتقول: “لكنّ قراءتي لوجوه كبار السنّ، ورجال الدين الذين طالما أستعين بهم، جعلتني أكثر اضطراباً. لم أكن وحدي من تشعر بضيق التنفس، فكأنّ سرب الطيور الذي صار يحلق فوق المدينة، جاء يسرق منا الهواء، حتى نختنق” (الشمس الحمراء).
محيط من وجع واضطراب وكبرياء، يمتد على 470 صفحة، أجد أنّ هذه الرواية الغزيرة، والغنية بموضوعها وبتعدد الرواة فيها وتنوع أساليبهم، وبمزاوجة الكاتب فيها بين الشعر والسرد والريبورتاج الصحافي، قد تشكل نمطاً مستحدثاً يقترب فيه الكاتب أكثر فأكثر من الوعي الشعبي العام، ويقوم بمهام تنويرية تلقى ضوءاً أخلاقياً كاشفاً على محيط إقليمي محوره أنظمة الاستبداد في العراق وامتداداته وتفاعلاته السورية والتركية، وحاضنته الوعي العروبي الديني المخطوف، لتكون ضحيته أقلية دينية وإثنية عزيزة، تجسدت محنتها سردياً في مغامرة روائية مبكرة، تنبّه الوعي إلى خطر تلك الجماعات الإرهابية وأمثالها على الجميع، في ظلّ الفراغ الوجداني والقيمي، الذي نفذت منه وبنت عليه، منظومة عصر العولمة وقيمها الأخلاقية والثقافية والسياسية السلعية، وقد أعادت هذه الرواية استنفار الكرامة والنبل الأيزيدي والإنساني العام، حيث يتكامل فيها الشعر الوجداني مع واقعية السرد وتكاليفه الثقيلة، بوصفهما معاً قوى الروح والعقل، لا جزراً معزولة مسورة.
المصدر: القدس العربي

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…