إدريس سالم
«ميثاقٌ لمخلوق نعذّبُه نحن، اسمُه الحبُّ، موروثٌ لشخصين افتراضاً، أسماؤهما – حوّاء وآدم – افتراضاً، كانا منحوتين على شكل (كوْرُوْ ونَازُوْ)، ويدمنان اللحظاتِ، ويتراشقان بالشهوة، باشتهاء مضافٍ إلى قاعة الشهوةِ، الشهيةُ منذُ الأزل. نادتني عيناها بوضوح؛ لأنهي معها رياضةَ التجديفِ، دخلتُ معها الفراشَ، ألقتْ برأسها على كتفي، تخاصرنا بحياكة الشغفِ المنسوجِ من الحرمان». (ص 598).
«ارتجفتْ، وتأوّهتْ، أن أدخلَها بكلّ حروبِ الدنيا، بكلّ سلامِ الدنيا، لم تكن منذهلةً، بل كان عليّ المضي بإشعال الحربِ، مع حركةِ الجسدِ القويةِ، المشدودةِ والسريعةِ، لم تكن فقط علاقةً مع البدنِ، كان اجتياحاً للفكر، ومضاجعةً للروح، ظلّت تتلقّى الطعنَ المكثّفَ بهدوء وحذرٍ ومتعةٍ، توهبُ أنوثتَها المحتفظةَ المدّخرةَ منذُ ألفِ عامٍ لهذا اليومَ، وفتحتُ لها أبوابَ المتعةِ، مثلما هي منحتني نفسَها». (ص 599).
بعد أن قرأت اثني عشر فصلاً من رواية «فوضى الفوضى»، للأديب الكوردي «جان بابيير»، الصادرة بطبعتها الأولى عن دار «مقام» المصرية عام 2018، والتي بلغت عدد صفحاتها (629) صفحة، اجتاحتني رغبة عارمة (بعد أن كانت ضئيلة)؛ لأن أغوص في عوالم هذه الرواية العاطفية بالنكهة الواقعية السياسية وتقنياتها – إيجابيات وسلبيات – وأكتشف ما فيها من قضايا ورسائل وإسقاطات، والسبب الأكبر الذي جعلني أكتب هذه القراءة النقدية يكمن في الصفحة (187)، من الفصل الثالث عشر، عندما يقول الراوي على لسان كُوْرستان: «تدحرجتْ المسافةُ نحوَ كوباني، بلدةُ الفلفلِ الحادِّ، وشجرةُ الحظوظِ…». ولي قناعة في قراءة الكتب، مفادها «اقرأْ كتاباً، واستفدْ ولو من فكرة أو معلومة واحدة».
جان بابيير، الشاعر والروائي الذي يترجم كلّ ما حوله إلى أدب، أدب يغرس بأشواكه في أرواحنا وقلوبنا، في بداية الألفية الكوردية – السورية التي لم يكن تحضنها آنذاك سوى الشعراء، حيث تنقسم روايته التي نشرها بين عامي (2000م – 2007م)، إلى ثلاث روايات أو أقسام:
الأولى: فوضى الفوضى.
الثانية: صرير الأحد غرفة الأربعاء.
الثالثة: نبوءة اغتالها التدوين.
تنقسم الرواية إلى (43) فصلاً، يبتدئ كلّ فصل بعنوان فرعيّ طويل «هل العناوين الطويلة تفيد الرواية، أم تضرّها؟!» لازمته كلمتي (الفوضى وكُوْرستان)، أما اللاحقة فيشتغل عليها لتكون شاعريّة، تقترب أو تبتعد من الضبابيّة والتغريب، تجمع ما لا يجمع من الكلمات لابتكار صور غير مألوفة، واستخراج تراكيب غريبة، حيث تكون الكلمة هذه ملقية بظلالها وكلّ أعبائها على الفصول، مغلّفة بعباءتها الكارثيّة الأحداث، لينقلب القانون المنطقيّ هنا، إذ لا يؤدّي نفي النفي إلى الإثبات؛ لأنّ فوضى الفوضى تستولد الفوضى، لم تهتدِ إلى هندسة أو تنظيم بحسب القانون، بل أبقت على الفوضى مذرورة، ابتداءً وانتهاءً بها.
«كُوْرستان»: شخصية قروية ثورية اجتماعية مثقّفة، مليئة بالجدل والتعقيد. مختلف جنسياً وفكرياً ونفسياً وحتى جسدياً مع أقرانه، ومكبوت من نفس الاختلافات. فوضوي بروايته هذه، وبأسمائه المعقّدة (كُوْرستان، مهتن، نتهم، هتمن، كوْرُوْ، سليل التراب، وريث الاخضرار…). زرادشتية المذهب والديانة، إذ يقول:
«أنا كُوْرستانُ، مهتنُ، ابنُ الأحدِ ووريثُ الأخضرِ والنارِ، أبو الأربعاءِ وليلِ الترابِ والفلفلِ الحادِّ. الحادُّ كالشفرة، الناعمُ كالقطن المتمرّسِ كالمجابهة، الساقطُ الحضيضُ، إنسانيُّ الذروة، وباءُ المعرفة، الإغرائيُّ الخمرة، الشبقُ الجوهرة، الناشرُ العارُ كالسراويل، المارُّ الظلّ في الحيز. إلا أنني أتأرجحُ بينَ اليقينِ والشكِّ من وجودي، ولي أصدقاءٌ وصديقاتٌ، ومن بينهنّ كانت نَازُوْ، السندُ والسندانُ، وأوهايو المطرقةُ التي تشبعُني أملاً وألماً». (ص388).
ينتقل الراوي «كُوْرستان» بحوّاسه وتقنياته الروائية بين «نَازُوْ» الحبيبة غير الموجودة في الواقع، والمتواجدة في خياله وفوضاه الشاعرية ولوحاته، الثورية المبتورة القدم، و«أوهايو» الصديقة اليابانية، و«هيفاء» الجارة، هؤلاء هم الشخوص الرئيسية في الرواية، إلى جانب الشخوص الثانوية، «بوزان ومنير كَسْكو» صديقاه، «سردار» موسيقيّ وخبير في الإلكترونيات، «نَوْرُوز» شقيقته، «أمّ مِيشيل» مُسنّة بخيلة وصاحبة الغرفة، والعديد من الشخصيات التي كان جَان يستحضرها في الرواية، بتقنيات غير محكمة وأساليب غير قوية.
اللغة التي اختارها الكاتب تشعرنا بالصدق والنبالة، بالمنطق واللامنطق، بالمعقول واللامعقول، والسؤال «هل في الأدب منطق؟». لا يمكن أن يكون هناك منطق يفرض على أبطال الرواية، فهم يتحرّكون كمراوغين هنا وهناك، ويُحدِثون الفوضى في عالم لا يمكن أن يكون منطقياً بالمرّة.
اتّسمت شخصيات «فوضى الفوضى» بانتقائها بحكمة وواقعية، ببنية فلسفية ونفسية لمعظم الشخصيات، التي تصلح لأيّ زمان أو مكان من جغرافية الشرق الأوسط منذ العصر الحديث، وحتى هذا التاريخ، فالشخصيات كانت صادقة، مثّلها مجموعة بشرية من خلال ظهورهم – رئيسيين وثانويين – في متن الرواية، فجَان عمل بدقة واضحة على البعد التكويني والاجتماعي والوجداني أو النفسي لشخصياته، من خلال الاشتمال على الجانب الخَلْقي – الداخلي (مونولوجاً) والخارجي – وما يرتبط بها من محيطها الخارجي، من جوانب ثقافية ومكانة اجتماعية وعلاقات مختلفة، وأيضاً كل ما يؤثر على الشخصية من مكنون نفسها، كالرغبة والتقلبات والمشاعر المختلفة.
يؤسّس جَان لنفسه وعوالمه حالة خاصّة، «حتى عندما تسلّم عليه أو تصافحه، يردّ عليك بصورة شعرية – تضمّنية»، فتتصف روايته بالشاعرية الفكرية، الخطيرة والجميلة، البسيطة والواضحة، وحتى تقرأها جيداً وبلغة سلسة وهادئة وغزيرة عليك أن تكون بطيئة الحركة، وتعيد على نفسك مراجعة قواعد البلاغة؛ بفعل الزخم البلاغي المقيّد للتطوّر الدرامي الملحوظ، فهو في الرواية كان شاعراً بالمصافحات، شاعراً في العناوين والفصول، شاعراً في الحوارات، شاعراً في الحبكة والسرد، شاعراً في الأسلوب والخيال، شاعراً في الدراما والتشويق، شاعراً في الرغبات والملذّات، شاعراً في تجلّياته وفلسفته، إذ يصنّف أنه من أتباع المدرسة الرمزية والإبداعية معاً؛ ذلك أنه يخلق لك من كلّ تشبيه أو استعارة أو كناية آلاف الإسقاطات الفكرية.
وهذه الشاعرية الفاضحة والجميلة تتفرّع في حالتين متناظرتين، أولها، التقاءً مع الأديب الكوردي «سليم بركات» من ناحية تغريب الكلمة، والشاعريّة المحاوَل إضفاؤها على النصّ، والتي نجحت في بعض المرّات، وفي الأخرى المرغم فيها الكلمات إرغاماً على الانصياع لجبروت البحث عن ابتكار غير مسبوق إليه، بعدم الاكتفاء بوضعها في غير مكانها، بل في العبث البادي في تصفيف الكلمات، وإدخال القارئ في دوّامة اللغة التي قد تنتهي به إلى إغراق الكتاب في نوع من اللامبالاة به، والآخر يأتي شكلاً ومضموناً مع الروائية الجزائرية «أحلام مستغانمي»، فالعنوان «فوضى الفوضى»، الذي هو بداية ثلاثيّة جَان، فإنّه قريب جدّاً من الرواية الثانية في ثلاثيّة أحلام «فوضى الحواس».
ومن جانب آخر تعاني الرواية ضعفاً في العديد من تقنياتها، من فوضى متفاقمة ومبعثرة في السرد والحبكة والحوار. فالسرد اللساني كان حاضراً بقوة فوضوية رهيبة في الرواية، خاصة وأنه الأكثر حداثة وارتباطاً بالنصوص الروائية، على خلاف السرد الدلالي، الذي كان ضعيفاً أو الأصحّ غائباً، إذ كان العديد من الفصول مكثّفة بالفوضى السردية الخاوية من الفكرة والهدف وحتى الحلّ، كان الأجدر عليه أن يجعلها نصوصاً شعرية أو دواوين من الشعر. فالترابط الفكري لا يخدم السرد، ولا الحبكة، ولا حتى الفكرة الأساسية؛ لكونها مزيجاً من الشعر والشعر الغامض.
ومن هنا يمكن القول، أن مفهوم السرد الروائي من وجهة نظر (الشعرية البنيوية – البابييرية) يعني الطريقة أو الكيفية التي تحتاج إلى راوٍ ينقل المرويّ إلى المرويّ له، وهو جهاز استقبال النصّ الروائي، ونقصد به (المرويّ له)، مع ملاحظة أن الراوي بالمفهوم البنيوي له، ليس بالضرورة، أن يكون المؤلف؛ ذلك أن الراوي – باتفاق النقاد على مفهومه – هو كائن من ورق، أيّ شخصية مصنوعة من المتخيّل السردي، وجَان أراد وسيلة أو تقنية للبوح الروحي والحياتي.
حيث يظهر في الرواية ساردان – راويان (صوتان)، الأول للراوي، والذي يظهر على شكل بطاقات ومضاتية، ليترك زمام سرد الوقائع والأحداث لبطله «كُوْرستان»، ليختار بدوره الغوص في دهاليز فوضاه المتشعّبة والمتشبّثة بالفوضى، وهو الصوت الرئيسي في الرواية، حيث يستخدم صيغ مونولوجية – شعرية طاغية، إذ تحتاج على استنفار العشرات من الحوّاس، لفكّ الصور الرهيبة والاستعارات والكنايات…
أما الحبكة، التي بحسب المعاجم التنظيرية «فاعلية تُهيكل النصّ بغرض شدّ انتباه القارئ والاستحواذ على وعيه ووجدانه»، أو زرع التشويق والهيمنة التماسكية بالقراءة والغوص فيها لأكثر مدة زمنية ممكنة، مع ملاحظة أنها «فاعلية بنائية أكثر مما هي هيكلة شكلية»، إذ كانت الحبكة أيضاً بعيدة عن التشويق والارتباط بالعامل الزمني – القرائي، خاصة أنها ابتعدت عن الصراعات الرئيسية، واكتفت بصراعات ذاتية غير مفهومة، وسط ضعف نسيج الأحداث وترابطها في مواضع كثيرة، وفوضوية الانتقال فيما بينها.
فلكلّ رواية سؤال مركزي يمكن أن يُجاب عليه، وهنا مكمن الحبكة التي تشكّل العمود الفقري للرواية، حيث ينبغي أن تطرح رواية «فوضى الفوضى» سؤالها المتضمّن داخل الحبكة بمنتهى الوضوح، أو التركيز على قضايا جوهرية، كقضية قتل النسوة بداعي الشرف، والقومية المهمّشة، والتخلف والإيمان والاتجار بالخرافات. وحتى هذا السؤال فُرض عليه حدود الحيرة والضياع، لدرجة أنها أدّت بالقارئ في كثير من الأحيان وكأنه يقرأ رواية أخرى، كقضايا قتل النسوة بداعي .
سَار جَان بحواراته عبر شخوصه بتقديم العُقدة وتدرُّجها وتسلسلها، وكشف عن شخصياته، إذ تميّز الحوار بالجودة والفوضى معاً، إذ كانت الحوارات مختصرة وفصيحة، وانتقاء خير الأساليب والجمل والألفاظ المعبّرة عن شعوره وعاطفته، والإشارة إلى الواقع، وعدم نقله بكامله. لكنه لم يراعِ طبيعة القارئ أو المستمع للحوار؛ وذلك بسبب الفوضى اللغوية في توضيح الحوارات بين الشخصيات، ولعل القارئ قد يجد غزارة الحوار المفعم بالفكر والقضايا الفلسفية عندما تعرّف «كُوْروْ» على الفتاة اليابانية «أوهايو».
إن التفكّك النحوي – الإملائي كان واضحاً، وخاصة في تسلسل الحوار الداخلي (المونولوج) والحوار الخارجي، وكأنها حظيت بأكثر من مُراجع – مدقّق لغوي، فكثيراً ما كنّا نقرأ حوارات بين كُوْرستان وسردار، أو كُوْرستان وأوهايو، أو كُوْرستان ونَازُوْ، وهيفاء ونيلوفر ومنير كَسْكو وآخرون، لدرجة أن القارئ يصاب بحمّى الحوارات الضائعة في اللغة، وظهر ذلك جلياً في القسم الأخر أو الرواية الأخيرة.
«وأنا كنت أترنّحُ في هذه اللحظة بين جحيمِ امرأتين، متثاقلاً في الفكر والقرارِ، نعم! المرأةُ التي تعذّبُنا أكثر نحبُّها أكثر، نَازُو فائزةٌ بجائزة كبيرةٍ، جائزة رجلٍ مهزومٍ يشبهُ الأنقاضَ». (ص 501).
يتحدث هنا الكاتب عن المهزومية العاطفية لدى أبناء الشرق الأوسط، وخاصة أبناء كوردستان، وسط خياب الثقافة الذاتية والوعي المجتمعي.
«أعطيك العالمَ كلّه، الإمبراطورية الأمريكية، واليابان، وكوباني، وجميع الأمم، مقابل رؤيتها ثانية، وفي أيّ بقعةٍ من العالم، سأبحثُ عن أسباب رحيلي، وجنوني…». (ص 332).
قد يتهم جَان بالإيروتيكية – الجنسانية، مستشهدين الاتهامات بممارسات شخوصه الجنسية وقصص اللذة والشهوة مع بطلاته، أما الحقيقة فهو يحاول زرع ثقافة الوعي؛ للخلاص من الكبت الثقافي والاجتماعي والجسدي والنفسي، وضرورة أن يفهم الإنسان حياته، ويعيشها بشكل طبيعي، بعيداً عن الشوائب والشذوذ.
تنتهي الرواية بمصير مأساوي لكُوْرستان؛ بعد صراع مع الأسرّة والتفكير بالموت والثورة وشرب العَرَق والسجائر، بحثاً عن نازْنين أو نازُوْ، إذ يختفي فجأة دون سابق إنذار، فيقرّر أصدقائه دفنه، لكن بعد عام يظهر مجدداً مجنوناً متسوّلاً فاقداً عقله، تلتقي به حبيبته صدفة، وهي تمسك بيد ابنه «كُوْ» من أوهايو، التي عادت إلى دمشق، حيث رأته جالساً يبيع نصوصه ورسوماته مقابل سيجارة، أو وجبة طعام. عادت نازُوْ إليه، وقدمت له ابنه، لكنه بقي صامتاً مستهزئاً ضاحكاً كالمجانين، لتشتري أوراقه ونصوصه، وتقرأ على أحد الأوراق عبارة: «نازْنين أنا عاقر».
أخيراً، تعتبر رواية «فوضى الفوضى» إعلاناً لقيام ثورة عارمة على اللغة والفكر وتأجيجهما، ومن خلالهما يحارب عفونة المجتمع وخيانات الجبال وحماقات الأقدار، صاحبها كان أديباً، اختار واقعه ووقائعه مادة خصبة، وأعاده للناس والمجتمع بطريقته الثائرة، علّ وعسى يجد مخرجاً لما في المجتمع من شذوذ وشوائب.