نبيل سليمان
هل في مقدور العرب أن يتبصروا حقيقة واقعهم من خلال متخيلاتهم اللغوية؟
ربما كانت مناداة «تقشير البصل» لغونتر غراس (1927 ـ 2005) خير ما تبدأ به الكتابة تحت عنوان هذه المقالة. فهذا الكاتب الذي ازدانت به جائزة نوبل عام 1999 بنى مذكراته على هيئة البصلة: طبقة أو رقاقة أو قشرة تلو أخرى، فكانت لنا نعماء سيرته الذاتية التي يشتبك فيها تاريخ غراس بتاريخ ألمانيا المعاصر على مدى نصف قرن. وأنّى لي أن أنسى تلك الجملة التي ختمت «تقشير البصل» بعد مئات الصفحات، وبعد ما بات عالم غراس الجواني يمور بالشخصيات، ولكن: «لكن لأتكلم عن ذلك كله، فإنني لا أمتلك البصل ولا الرغبة». أما سر هذه الخاتمة فلعله فيما سبقها من قول غراس «ليس للبصل لبّ، ولن تصل في النهاية إلى شيء».
في «الاتحاد الثقافي» (11/4/2019) حدثنا محسن الرملي تحت عنوان «ترنيمة البصل اللاتينية» عن الشاعر ميغيل هيرنانديث (1910 ـ 1942) الذي اشتهر بقصيدة «أغنية البصل». وكان هذا الشاعر الذي قضى في سجن أليكانطي، قد تلقى من زوجته خوسيفينا رسالة تخبره فيها أن وحيده لا يجد ما يأكل غير الخبز اليابس والبصل، فرد عليها الشاعر في 1/9/1939: «كل يوم يزداد شقائي ويعظم يأسي. رائحة البصل الذي تأكلينه وصلتني إلى هنا، وطفلي أحسه ساخطاً من رضع واستخراج عصارة البصل عوض الحليب». ومن القصيدة/ الأغنية الموجعة الشهيرة نقرأ بترجمة عبدالسلام مصباح: «البصل صقيع/ مغلق وضعيف/ صقيع أيامك ولياليّ/ جوع وبصل/ جليد أسود وصقيع/ كبير ومستدير/ في مهد الجوع/ يوجد طفلي/ مع دم البصل/ يرضعه/ لكن دمك مغطى بسكر الصقيع/ بصل وجوع/ حلّقْ يا طفلي بأسنانك».
العرب لا يحبون البصل
من الحق أنني ما كنت لأكتب عن البصل لولا الصديق إبراهيم محمود الذي لا يصح تعريفه بالكاتب، بل بورشة الكتابة، أو ماكينة الكتابة. فعلى الرغم مما شغلني من أمر البصل من قبل، أعشى نظري عنوان الكتاب الطازج لإبراهيم محمود «العرب لا يحبون البصل: دراسة في متخيلات اللغة العربية». هكذا تدفقت الذاكرة بما اختزنت من الأمثال الشعبية البصلية، والتي تتواتر حرفياً أو بفروق لفظية محدودة في البلاد العربية، ومنها في فلسطين: «إن كان أبوك البصل وأمك الثوم، الريحة الطيبة منين تجيك؟» وفي الحجاز: «جيبْ بصل ما بِصل، جيبْ ثوم ما بقوم، قوم تعشى، يا الله» وكذلك: «الزواج أوله عسل، ووسطه كسل، وآخره أكل بصل». ولهذا المثل صياغة أخرى في العراق، هي: «الزواج أوله عسل وتاليته بصل» ومن خزانة الأمثال الشعبية المصرية: «الدنيا بدل: يوم عسل ويوم بصل» و«أفتكرك ليه يا بصلة وكل عضة بدمعة؟» و«يا داخل بين البصلة وقشرتها ما ينوبك غير ريحتها»، و«البصلة عمرها ما تولّي تفاحة، والرخيص ما تبان فيه ملاحة، وناس هاد الزمان ما تفيد معاهم غير القباحة». ومن عهد الجامعة لازلت أذكر قول الأصمعي عندما سأله هارون الرشيد عن حقيقة العشق: «إنه شيء يُذهِل القلب عن مساوئ المحبوب، فيجد رائحة البصل من المحبوب أعظم من المسك والعنبر». وفي ذلك العهد الغرير البعيد قبل أكثر من نصف قرن، اكتشفت كذب الأصمعي، عندما اختلست ذات عشية عناقاً ممن كنت أهوى، ويبدو أنها كانت قد بلغت في عشائها من البصل مبلغاً انتزعني من العناق، وكان أن أتت رائحة البصل على الهوى، فأين المسك وأين العنبر؟
يفتتح إبراهيم محمود كتابه ذا العنوان الاستفزازي أو المغوي – المنفّر في آن معاً، بهذه الجملة التي لها صفات العنوان: «كيف يمكن الربط بين اللغة والبصل؟». ويتوقع أن يلقى سؤاله الاستهلالي السخرية والتسفيه، لذلك يقبل على التفصيل في حديث البصل، وإذا بهذا الذي نيّف عمره على خمسة آلاف عام: البصل، جسد منضّد من طبقات/ قشرات/ رقائق، ولكنْ له روح واحدة، نفس واحدة. إنه بحق جسد حيّ، لكنه سريع التأثر بالمؤثرات الخارجية.
هكذا سيكون لنا أن نمضي إلى أن البصلة مثل الهوية، قل: الهوية مثل البصلة، وبالتالي يمكن الحديث عن بصلة الهوية، فماذا تكون؟ إنها سلسلة من المكونات، من الأصول أو المتعلقات. والجنس مكوّن أساسي هنا، لأنه يشير إلى الاختلافات البيولوجية والفيزيولوجية المرتبطة بتكاثر الأنواع. وللقول هنا أن يشرّق ويغرّب، وأن يشمئل ويجونب، وإذا بالبصل عند لاكان ـ مثلاً ـ بلا نواة، ولن نصل بالبصل إلى نواة، إذ ليس بعد القشرة/ الرقاقة/ الطبقة الأخيرة غير الفراغ. وإذا للبصل عند المتصوفة ـ مثلاً ـ شأن، حتى ليمكن الحديث عن المفهوم الصوفي للبصل. فالمتصوفة يذهبون إلى الإنسان يشبه البصل من حيث التكون في طبقات يكمن جوهرها في أعماقها، وعمقها المركزي الأعمق، عمقها الجوهري هو الحرية.
والأمر كذلك تتفجر الأسئلة من قبيل: كيف لي أن أعرف نفسي بصلياً؟ ماذا يعني أن أقدم نفسي من منظور بصلي؟ ولكن إن كان لي أن (أدعني) جانباً، فلا فكاك من السؤال عن هذا الذي يُسمى البصل وقد استُدرج إلى ساحة ثقافية، لغوية، فكرية، بحثية، أدبية، تاريخية، اجتماعية، سياسية، ليكون في الواجهة؟ كيف يُعطى البصل هذا التقدير وهو الذي لا يُعتدّ به لرائحته، وسرعة تعفَّنه؟
إذا كان يمكن الحديث عن بصلة الهوية، جسد البصل، فبالإمكان إذن الحديث عن النص البصلي، لأن النص في مبتداه وفي منتهاه ذو مفهوم بصلي. وأن يكون النص بصلياً هو أن يمتلك أولاً الأهلية للتجذر في التربة، أي أن يكون سلماً ليتحرك صوب نقطة بروزه، وليستحق أن يسمّى نصاً. ولا يتوقف الأمر عند بصلية الهوية أو الجسد أو الجنس أو النص، فللغة بصليتها أيضاً. وهنا يتأصّل كما يتفتّق القول في تأنيث اللغة، وتعجّل الإشارة إلى الحبل المشيمي الذي يجعل للبصلة وضعية التأنيث، فتبرق هذه الثلاثية: المرأة واللغة و.. البصل.
من الكثير الذي قد يكون الأَوْلى أن يبدأ به الحديث عن المرأة واللغة، ما أرسله عبدالله الغذامي في كتبه «المرأة واللغة» و»ثقافة الوهم: مقاربات حول المرأة واللغة والجسد». ولكن ما دام حديث المرأة واللغة يتثلّث بالبصل، فالأولى أن نمضي إلى إبراهيم محمود من كتاب «الضلع الأعوج» على الأقل، إلى «العرب لا يحبون البصل»، حيث يجهر بيقينه من أن اللغة صنيعة ذكر، وللأنثى نصيب فيها، بل هي في موقع (البديع) من اللغة، منذ كان التاريخ. أما يدور عن أمومية التاريخ، أو أسطورة الأم الكبرى (الطبيعة) فليس غير ملهاة في واعية مدوّن التاريخ وجلاده وضحيته: الذكر. فالمرأة بعامة والعربية بخاصة، ليست غير الضمير المتصل الرغبي في فعل ممنهج للرجل المشبع بما هو ديني ودنيوي معاً. ولا دخل للمرأة باللغة، فاللغة صياغة مبتدعة ذكورياً. وغاية ما يذهب إليه هذا القول هو أن المرأة ليست العورة بل الرجل. وعورة الرجل كانت من اكتشاف المرأة. وجلاء العورة كان خروجاً من العتمة. ومن هنا، بحسب إبراهيم محمود، يمكننا أن نفهم قصدية اللغة/ الأم للكون، من حيث إنها مستولدة من آلام مخاض الأنثى. لكن الكاتبات يسبحن في لغة الرجل «بقواعدها الهادرة وإعراباتها الدواماتية، ومن ثم صرفها المأخوذ بضوابطات نحوية صارمة تصل ما بين السماء والأرض» كما يكتب إبراهيم محمود.
بصلية المتخيّل اللغوي
قد يسرع أحدهم إلى الغمز من قناة إبراهيم محمود فيما يرسله عن العرب واللغة العربية ومتخيلاتها و.. البصل. فالكاتب كردي، وفي زمن الغمز واللمز من كل لون وحدب وصوب، مما نعيش، لن يكون الغمز من كردية الكاتب مفاجأة، على الرغم من الإبداعات اللغوية الكبرى التي للأكراد في اللغة العربية، وحسبي أن أذكر من المحدثين: إبراهيم محمود وسليم بركات وجان دوست وإبراهيم اليوسف وهيثم حسين ومحمد باقي وأحمد العمر ومها حسن و…
بتأصيل بصلية اللغة العربية في التراث، من الطبيعي أن تكون البداية بابن منظور، والسؤال عن كيفية ممارسته تقشير بصله اللغوي في قاموسه الأكبر «لسان العرب»؟ وتبعاً لأي متخيل سلسل مجموعة المعاني الدالة على مفرداته اللغوية؟ ولئن كان القارئ بعامة يتحرى طبقات بصلته اللغوية، دون أن تدمع عينيه، ليرى بنية هذه الطبقات، فقد كان الشاعر الجاهلي خبيراً بتقشير بصلة العالم من حوله، كما يبدو في متخيله الشعري. ومن بعد، هو ذا ابن سلام الجمحي يبدو مأخوذاً بغواية البادية، كأنما يتنشق رائحة البصل البري. وهو ذا ما أورثنا إياه أبو حيان التوحيدي، ليكشف البحث عن طبقات البصلة النثرية ذات البلاغة المؤكدة. ولست أدري لماذا رأى إبراهيم محمود أن بصلة الجاحظ قليلة الطبقات، رغم إثارتها للشهية، بل إنني لأذهب عكس ذلك.
بالمضيّ قدماً إلى زمننا يبدو عبدالفتاح كليطيو لإبراهيم محمود مقشراً للبصلة المتعالية. لكنه، جرَّاء افتتانه بتأويله الخاص، لم يحسن تقشير بصلة تاريخ معين وخطير بمقاييس عديدة، لأنها تطال ما يسمى بالأصول وما يرتد إلى لغة محددة دون غيرها من اللغات. وليس أمر سعيد يقطين بأفضل، إذ كان فيما كتب عن اللغة أسير الآخر السلطوي في ذهنه. ويعلل محمود هذا الذي يسميه بالخلل في المتخيل اللغوي لسعيد يقطين بكونه جاء في موقع المهمش بالطريقة التي قدم فيها صورة اللغة، وهذا يعبر عن تسطيح ما لـ (لصلة الاسم)!
وأخيراً تتفجر الأسئلة، ومنها: هل في مقدور العرب أن يتبصروا حقيقة ما هم عليه من خلال اللغة التي يمكنهم أن يتنفسوا بها، ولكن بمعايير مغايرة لما اعتمدوه سابقاً؟ أين هي اللغة العربية التي يمكنها أن تنهض بكل هذا التضعضع الروحي والعقلي والإيماني والنفسي العربي؟ هل تبددت في العرب شعلة المتخيل الفعلي؟ وهؤلاء الشباب العرب الهائمون الهاربون من بيوتهم وجامعاتهم ومدنهم، هل سينخرطون في مشهديات إيجابية؟ ومتى؟ وأولاء النساء اللواتي تلغّمت فيهن روح الجندر، هل ستعود إليهن هذه الروح؟ ومتى؟
وبالعودة إلى اللغة، وما أدراك ما اللغة؟ وبخاصة عندما تكون اللغة العربية الفصحى المأخوذة في إهاب الديني الإيماني، يتفجر السؤال عن هذا الحاضر الذي يجري لصقه بماض بعينه، ليقوم ركام فوق ركام، حتى بلغ الأمر بمفكر مثل محمد عبد الجابري أن ذهب في (تكوين العقل العربي) إلى أن الأعرابي البدوي هو صانع العالم العربي، وأن العربي (حيوان فصيح). ترانا حقاً في الجهل المسموم الذي تتم تغذيته بالفصحى؟ ترانا الأمة – اللا أمة؟ هل يحسن العرب تقشير البصل حقاً؟ وبعد كل ما تقدم: هل يحب العرب البصل؟
لكي تكون هذه الأسئلة موئسة بامتياز، وكما ابتدأت بالفن (غونتر غراس وميغيل هرنانديث)، أنهي بهذا المقتطف من قصيدة للشاعرة البولندية فيسلافا شيمبورسكا التي ازدانت بها نوبل عام 1996: «البصل ليس هو نفسه، ليس لديه أمعاء/ البصل أساساً/ بصلي في الخارج/ بصلي إلى القلب/ يمكنه أن ينظر إلى نفسه/ البصل بدون خوف ” .
صحيفة ” الاتحاد ” الإماراتية، 20 حزيران 2019.والكانب نبيل سليمان، روائي وناقد عربي سوري معروف