د. محمود عباس
اليوم 9/9/ 1978 م انتهيت من قراءة القسم الأول من رواية مارسيل بروست، جانب من منازل سوزان، والتي ترجمها ألياس بديوي في السنة الماضية. قبل أن أتصفح الرواية والتي يقال أنها أطول رواية كتبت في التاريخ، ويتهرب منها العديد من زملائي القراء، ومن بينهم الذي أعارني إياها، وجعلني أتخوف منها، وأنا أفكر ما تحتضنه، من سرد لا نهاية له من المواضيع قد تكون مملة، لتصبح بهذه الأجزاء العديدة، ولذلك ظلت مرمية هناك على مدى أكثر من شهر، قرأت خلالها روايات أخرى، إلى أن تشجعت وحملتها، لأنني أملك طبيعة في القراءة بل وفي العديد من الأعمال، أكاد أن أمرض فيما إذا بدأت بكتاب أو عمل ولم أنهيه، وهذه الحالة تبعدني من التقرب من كتب أخرى لمدة طويلة، أي أصاب بحالة نفسية ما بين الإحساس بالفراغ وتقريع الذات وبعض العصبية خاصة إذا حاولت حمل كتاب أخر، ولهذا فكرت أن أقوم بقراءة كتب أخرى مع كتاب من هذا القبيل، فعلتها حتى بعد مئتي صفحة من هذه الرواية، لألتصق بها فيما بعد ويضيع العالم من حولي، وأنسى الكتب الأخرى.
المدهش أنني والأن وبعد أن أتيت على نهاية الجزء الأول، شعرت بفراغ، وجملة من الأفكار المؤلمة، واندفاع غريب للبدء بالأجزاء الأخرى، مع رهبة ليس لأنها ستكون مملة، بل لأنها ربما ستعزلني عن العالم الخارجي لفترة طويلة، فيما إذا كانت بمثل غرابة هذا الجزء، وسوف لن أتمكن من تركها لأكثر من ساعات، سيظل تفكيري معلقا بها حتى عندما أكون مع أصدقائي، فقد كانت هذه رواية غريبة وعجيبة، رمت بي إلى عالم لا دروب فيه واحيانا منه العشرات ولم اعرف أيهم اتبع، فضاء مترامي بالأفكار، وهي الأن مرمية أمامي كمرآة تعكسني من خلال شخصياتها وتحليلاته، وأنا مرمي بين كل الأزمنة التي مررت بها والطبيعة التي عشتها ما بين الريف والمدينة ما بين الطفولة وإلى الأن، من خلال كيفية تلاعبه بإحضار الزمن، ووصف الطبيعة، ومن عدة أوجه، وحياة المجتمع البرجوازي في الفترة التي كان يعيشها مارسيل بروست.
مقتّتُ ومللت لمرات عديدة على مدى الصفحات المائتين الأولى، وأخذ مني الكثير من الوقت، أكثر من أسبوعين، إلى أن بدأت بالمائة الثالثة، ولم انتبه ما الذي تغير وشدني إليها بقوة غريبة، وتتالت أمواج من الأفكار مع كل سطر، وبدأت أتمعن في كل سطر وصفحة، وفكرة، خاصة من الفترة التي توضحت فيها علاقة سوان مع أوديت دي كريسي، وحبه لها، ومن ثم حياة سوان وعلاقاته مع المجتمع، وحيث نمط حياة البرجوازيين، المشؤومة وغرابتها حينها، أو كما يصفها مارسيل بروست، وطريقة عرضه لأدق التفاصيل، بحيث جعلني وكأنني أعيش الزمن ذاته.
تتالت الصفحات بين يدي ونادرا ما خرجت من الدار، كنت أقرأه لساعات طويلة، ولم أنتبه لحالتي النفسية، وهي أن الانتهاء من أية رواية ممتعة تصدمني وتصيبني بكآبة لفترة ما، وفي الصفحات الأخيرة من الرواية ولئلا أنتهي منها، عدت أقلب الصفحات الأولى، وأعيد قراءة بعضها، خاصة تلك التي كنت أمل منها، ولم يفارقني مسألة الزمن، بل أصبحت وكأنها مسألتي الشخصية، أو يتحدث معي عن الزمن، وعن زمني وحياتي مع المجتمع، ورؤيتي للماضي والحاضر والزمن القادم، فهو يشرح الزمن كجراح، بعبقرية غريبة تهت معه مرات ومرات ولم أصل إلى ما يبتغيه، وحتى عندما أنهيتها اليوم، لا يزال أسلوبه في التحدث عن الزمن أو تحليله له يحيرني، وجعلني تائه دون أن استطيع معرفة خفايا هدفه، وأتمنى أن تتوضح لي في الأجزاء الأخرى من الرواية الطويلة، خاصة بعدما لم أجد ما يساعدني في الصفحات المئتين الأولى المملة والتي عدت إليها وقرأتها بتمعن اكثر، والتي حملتني إلى عوالم الخيال بروعتها. قرأت هذا المقطع أكثر من مرة ” أن اندفاعات عاطفتنا لا سلطان لها إلا في القليل على ما يلي من أفعالنا وعلى توجيه حياتنا وأن الاحترام للالتزامات الأدبية والوفاء للأصدقاء وإتمام عمل ما وإتباع نظام معين أساسا أكثر متانة في العادات العمياء منه في هذه الاندفاعات المؤقتة الملتهبة العقيمة…”
عدت ثانية إلى صفحات تحليله الظاهري والخفي، لبلوغ الهدف المبتغى، من خلال الدقائق التي كان يقف على نافذة بيت الموسيقار (فينتوي) والحادثة التي جرت بين أبنته وصديقتها بعد مماته بأيام. والأعمق أثناء الحديث عن نفسه وهو خارج هذا الزمن، وإحضار طفولته، بعيدا عن الحاضر، يعيد الزمن والأحداث بتفاصيلها الدقيقة والطريقة المدهشة، والتي رغم طول الحديث لم أشعر بأي ملل، بل كان يجذبني بعمق، وحيث لا يربطه بذاك الماضي سوى زمن تدرج من تلك الأماكن التي قضى فيها طفولته، وهي تنعاد إليه بومضات من الخيال، كما ويتعمق فيهم من خلال كل حادثة تجري معه، مع إظهاره الأسف على مضيها فيقول ” أن الذكرى صورة معينة إن هي ألا الأسف على لحظة معينة”
لقد سيطر مارسيل بروست على أفكاري طوال هذه الفترة، بإبداعه في إعادة الماضي، وبطرق رائعة، ووصف غريب، وأجاد كبراعة شاعر متميز يكتب النثر ويعشق الطبيعة، ويعيشها بكل حواسه، ولاشك هنا فوصفه للطبيعة يحمل طابعا استثنائيا من بين الروائيين الذين قرأت لهم حتى الأن، علما أنني شككت أنه يكون إحساسه بجمال الطبيعة وهو طفل كما يصفها كانت كما يصفها الأن باسم شخصه وهو طفل، وهنا وجدت أن الإسقاط فيه تضخيم متعمد ربما لإعطاء قيمة لزمن الطفولة التي لا ننتبه لها وهي من صفاتنا كأطفال، أو لتسليط الضوء على قضية الزمن الذي يحتل الكثير من مفاهيم أو غاية الرواية بطرق عديدة، كحالة ربط أحاسيس الكهولة مع اندهاشات مرحلة الطفولة.
” توقفت فجأة لا أستطيع حراكاً مثلما يتفق ذلك حيثما لا يتعلق منظراً بأنظارنا فحسب بل يتطلب صنوفاً من الإدراك أكثر عمقاً ويستحوذ على وجودنا بأكمله…. بما أنني لم أكن أعرف حينذاك ولا تعلمت منذ ذلك الحين كيف أرد انطباعاً قوياً إلى عناصره الموضوعية… ونظرت إليها بادئ الأمر تلك النظرة التي لا تنطق باسم العيون فحسب بل تطل فيها جميع الحواس قلقة تقعدها الدهشة تلك النظرة التي تود أن تلمس، أن تأخذ، أن تحمل الجسد الذي تنظر إليه وتأخذ معه الروح…” هكذا يتعرض مارسيل بروست إلى قضية الزمن، وبعث الماضي المفقود، مع حدث جار قد يكون بسيطا أحيانا، يثير الكاتب هذا الربط في العديد من الأمثلة، كاللحظة التي يغمس فيها كعكته في كوب الشاي وعلى أثرها تنبثق في ذهنه أمواج من الماضي، ماضيه عندما كان صغيرا يجلس على العشاء الذي لم يكن حينها يود أن تنتهي لحظاتها لئلا يغادر مجلس والدته إلى الفراش والنوم. فهنا الحلقة الأقوى أو لربما الرابط الوحيد بين هاتين المرحلتين من العمر هو الزمن الذي لا نشعر بقيمته. ومثلها إلى وصف الطبيعة بل والأجمل عندما يبحث في الجزئيات أو جمال جزئياتها، والأغرب والذي كان يمللني في البداية طول شرح الفكرة أو الحدث الواحد وكأنها لن تنتهي.
أنه روائي مبدع، قدم رواية غريبة فيها الكثير من الرمزية والمحاكمة العقلية، مختلفة عن جميع روائي الرواية الكلاسيكية، كدوستويفسكي أو هوغو، أو برونتي… أحيانا يكتب وكأن كاتب أخر يتحدث، ومرات هو حاضر فيها يتحدث بشكل مباشر، فيملي الطبيعة معظم اهتمامه، ويسخرها كمادة لربط الحوادث، أي لاستمرارية الزمن، أو الأساس لتراكمات تفكيره، وأحيانا يسخر الزمن كمادة أساسية. الرواية هي جملة من الروابط ما بين ذاكرته وذاكرة الإنسان عامة، والحوادث الماضية والحاضرة والطبيعة، وبين الفن والذاكرة، وحين يجعل الزمن رابطهم، بأسلوب مارسيل بروست الممتد على أفاق صفحات طويلة، تبدو في الوهلة الأولى مملة، لكن عند التعايش معها تصبح لذة يخاف عليها من الانتهاء. يبرز الكاتب هذه الروابط بشك جلي، عندما يتحدث عن العلاقة بين سوان وأوديت من جهة وبين تلك المقطوعة الموسيقية (السوناتا) التي كانت ربما لذلك الموسيقار (فينتوى) الذي مات وأبنته تعبث بالحياة مع صديقتها السادية، ومن ثم بين عائلته وزواج سوان من الغانية التي أصبحت زوجته فيم بعد وأبنتهما جيلبيرت ومارسيل وأهله في بداية طفولته، عندما كانا في كامبريه.
كاتب ذو موهبة فذة وخيال واسع عجيب، ورؤية حسية لكل دقائق الطبيعة والعلاقات الإنسانية. لم يكتشف إلى بعد فترة طويلة، وهي التي أدت إلى أن يعتذر منه الأديب الفرنسي الكبير أندريه جيد، برسالة أصبحت من أشهر رسائل اعتذار في تاريخ الأدب.
بعد هذا الجزء من الرواية، أنني الأن في رهبة من الإقدام على الإتيان بالجزء الثاني، وما بعده من الأجزاء التي لا أعرف كم عددها، والذي لا أملكهم بعد، ولم اسأل صديقي عندما أعارني هذه، والأهم كيف سأخوض فيه، هل علي أن أذهب إلى قريتي نصران، لأتفرغ لقراءتها، أم أبقى في المدينة؟
9/9/1978م
قامشلي- دمشق
محمود محمد عباس
ملاحظة: تذكرت أنني كتبت في الماضي عن هذا الجزء من الرواية، عندما قرأت بوست للأخ الدكتور خالد حسين في الفيس بوك، مرفق مع مقال منشور عنها في موقع الحوار المتمدن، بحثت بين أوراقي فوجدت هذه، وقد مرت عليها 41 سنة، صححت بعض الأخطاء الإملائية من النص المكتوب حينها بخط اليد، واقتطعت أجزاء منها. كنت أكتب عن كل رواية ممتعة ملاحظاتي وتقييمي، مع نقد لكتاب وروائيين بعدما أكون قد قرأت مؤلفاتهم، وبلغة عربية كنت أجدها غير مناسبة للنشر أو حتى عرضها على الأصدقاء.
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
1/7/2109م