زهرة أحمد
بريق عينيها ينساب بخجل ضبابي وهي تقص فصولاً لا متناهية من التراجيديا.
طقوس الألم غيرت ملامح البراءة في وجهها، وعلى جبينها حكايات منسوجة من الضياع.
نيركز الفتاة الإيزيدية الجميلة، خضرة عينيها تخفي في أعماقها تاريخاً من السواد، وجدائلها الشاردة تحيل إلى تقرحات الألم في روحها.
قبل أن تنفتح على الربيع، جرحتها أشواك غريبة سوداء، قادمة من عهود العهر والانحطاط، لتكون مع الفتيات الإيزيديات. ضحايا مأساة العصر الإنسانية. ضحايا وحوش آثمة، تزرع الفاجعة والدمار الملوث في كل مكان تحل فيه.
“معاناتنا حطمت إنسانية التاريخ، في صمتها القابع وراء الخذلان”. قالتها نيركز ونظرات عينيها تشع تحدياً كان خافتاً منذ زمن.
بالرغم من فرحتها الكبيرة بتحررها من خفافيش الظلام، إلا أن آثار الذعر لا تزال منحوتة في روحها، فأية ابتسامة ستكون قادرة على رسم نفسها مجدداً على وجه طفولي صفعته نجاسة الوحوش وطبعت كآبته على نقائها؟؟!
أحس كأنني ولدت من جديد، روحي تنبض فرحا لا يوصف بكلمات. لا أعرف كيف أعبر لكم عن شكري وامتناني؟. أشكر ملك طاووس لأنه جعل ولادة حريتي على أيدي أبطال عانقوا روح الشمس.
قالتها بصوت مبحوح لا يتجرأ على الفرح وبلغة تكاد تعبر عن حريتها، ممزوجة بحسرة بدموع الألم والفرح معاً.
بعد انتهاء معركة حاسمة للبيشمركة ضد داعش في إحدى القرى التابعة للموصل، تم تحرير الفتاة الإيزيدية نيركز، والتي بدأت تحكي قصتها الأليمة للبيشمركة في مشهد حزين يكاد ألا يكون له مثيل في تاريخ الإنسانية.
هدوء كئيب يخيم على جبهات القتال والبيشمركة يستمعون إلى تفاصيل قصة فاقت كل تراجيديات العالم. ضحيتها فتاة كانت تحمل ربيعاً من الأحلام، وعالماً زاهياً من الأمنيات، والتي تلاشت فصولها بعواصف إجرامية، لتخلد ذكريات الحزن وتؤرخ لمأساة الإنسانية.
نيركز البالغة من العمر ستة عشر ربيعاً تم خطفها منذ سنتين من قريتها الحالمة في حضن شنكال. بعد أن تنفست عبق الحرية، بدأت بسرد قصتها، وهي تجهد في البحث عن كلمات تعبر بها عن آلامها دون أن يخدش ذلك حياءها:
في ليلة شاردة بسوادها، كئيبة كقلوب هؤلاء، وبينما كانت قريتنا غافية في حضن شنكال، هاجموها. هاجمونا، بكل وحشية، لوثوا هدأة القرية، وشوهوا هواءها، الرايات السوداء خيمت على السماء بالبؤس. أجبرونا على التجمع في ساحة القرية، كل شيء بدا أسود ومرعباً. اختبأ الأطفال خلف أمواتهم وهم يمسكون بطرف أثوابهن، وكأنهم استشعروا بخطر قادم، تناثر صدى بكائهم في سماء القرية عندما بدأ أصحاب اللحى الطويلة بفصل الرجال عن النساء.
دمروا. نهبوا. حرقوا البيوت والمزارع. ذبحوا أمام عيني من عصى أوامرهم، قتلوا من حاول الدفاع عن نسائهم، حتى الأطفال لم ينجوا من بطشهم ووحشيتهم اللامحدودة. أخذوا أبي أيضاً مع الرجال وأجبروهم جميعاً على ركوب السيارة، لتنطلق بهم إلى مكان مجهول. حتى الآن لا أعرف إلى أين أخذوهم!!
أما النساء والفتيات فقد أصبحن تحت رحمة آلة السبي ووحشية الأمراء.
صرخت كثيراً، ناديت أبي حتى تصدعت الجبال بصراخي ولكن دون جدوى، لم يسمحوا لأبي أن يلتفت إلي، ضربوه بقسوة أمام عيني، تمزق قلبي ألماً، بكيت بشدة حتى ضربوني أيضا وهددوا بقتل أبي إن لم أتوقف عن الصراخ، فلزمت الصمت والرعب الشديدين، أبكي بألم، والدموع تغيم على نظراتي وتمنع من رؤية خيال أبي الذي بدأ يتلاشى ويبتعد أكثر فأكثر، راودني شعور غريب بأني لن أرى أبي بعد نظرته الوداعية الدامعة، فبكيت بحرقة صامتة لم أتجرأ حتى على رفع صوتي خوفاً من بطشهم.
بدأت عملية اختيار الفتيات من قبل أولئك الذين أدخلو الرعب في روحي بهيئاتهم المخيفة ولحاهم المقززة، وقلوبهم السوداء ووجوههم المغبرة بغبار الرعب بعض الفتيات تم اختيارهن ونقلن بسيارات مختلفة إلى الرقة في سوريا.
كنت أرتجف خوفاً، أنفاسي تتصارع بعنف، أنتظر برعب ليتم اختياري من قبل أحد أولئك الوحوش، لأكون من نصيب أميرهم في الموصل. ربطوا عيني بقسوة، لم أعد أرى قريتي، ولاجبال شنكال، رائحة البارود تسد منافذ أنفاسي، ولفحات الدخان تصفع وجهي بدون رحمة.
بدأ مسلسل الإرهاب في فصوله الكئيبة، تعجز كل الأبجديات عن ترجمة جرائمه. حاولت الفرار، لكنني لم أفلح في ذلك، شدني ذلك الوحش من جدائلي مسافات طويلة حتى تساقط شعري بين أصابعه الخشنة، حزني على شعري فاق كل آلامي. اقترب مني، دفعته بكل قوتي، وهربت ثانية، إلا أنه ربط يدي وضربني كثيراً، دافعت عن نفسي بقوة، والله شاهد على ذلك، لكن وحشيته دمرتني لتنتهي بعد ذلك حياتي، قالتها وهي تصرخ بصوت مزق خيوط الألم وخدش حياء الليل، وسيل الدموع يغسل الغبار عن وجهها، كاشفاً عن جرح لا يوصف بكل الحكايات ولا حتى بالدموع والأنين. جريمة بشعة بحق فتاة لم تعرف من فصول الحياة سوى رسم فراشات الأمل في الربيع.
مشهد مأساوي بكل فصوله المؤلمة، يشاركها البيشمركة في ألمها الدفين، لتكشف بدموعها ما لم تستطع سرده حياءً ورعباً.
بعد ستة أشهر بين أنياب العذاب التي جرحت روحي، في خدمة الأمير المتوحش الذي أهداني الى أمير آخر أكثر ظلماً، لتتجدد مأساتي، وتنزف جروحي من جديد، فبددت كل أحلامي بالنجاة.
ليال كثيرة تبلل سوادها بدموع الألم، وأنا أفكر بالانتحار، لكن شوقي لحضن أبي ورؤيته ثانية منعاني من ذلك، بكيت حسرة على حلمي وعلى دراستي التي كتبت لها نهاية مؤلمة قبل موعدها، وعدت أبي أن أحقق حلمه وأصبح طبيبته لأخفف من وجع قلبه، لكنني جرحت قلبه المريض!!!
رسمت أحلامي على دفتر مذكراتي التي ضاعت أيضاً بين براثن الظلم والتدمير.
أجبروني أن أنطق بلغتهم القاسية، أبعدوني عن ديني وعقيدتي عنوة، منعوني من التكلم بلغتي التي احتفظت بها في قلبي وروحي، في ثنايا أشواقي وذكرياتي. وضعوني في غرفة مظلمة، قيدت بقايا أنفاسي، صار لي يومان لم أر أحداً منهم. وأخيراً استجاب الله لدعائي وكانت حريتي على أيديكم.
سأكتب عنكم وعن بطولاتكم، سأكتب عن قصة المأساة التي عشتها سنتين ولا تزال الكثيرات من الفتيات الإيزيديات غارقات في دهاليز الألم يصارعن من أجل البقاء.
آلاف القصص المأساوية تخيم على جبال شنكال، وفي أصقاع الشتات. أخوات لكم يذرفن دماً ودموعاً، لن تكفي كل لغات العالم وأبجدياتها في التعبير عن معاناتنا.
لكن!! في البداية وقبل أي شيء آخر سأبحث عن أهلي، شوقي لهم لا حدود له.
انتهت رحلة نيركز المؤلمة بعد أن تركت آثارها الكئيبة محفورة في روحها، وشوهت أحلامها، لتبدأ رحلة أليمة من نوع آخر. رحلة البحث عن أهلها بعد أن تهدمت بيوتهم ودمرت قراهم وحتى آثارهم، تتمنى أن يتكلل بحثها برؤية أهلها، وتكون خاتمة سعيدة لرحلة المأساة.
لكنها في خفايا نفسها تخشى أن تبدأ سلسلة جديدة من المعاناة بفصولها اللامتناهية من الألم.