عرض / حواس محمود
يركز مؤلف كتاب ” الطفولة في التاريخ العالمي ” بيترن ستيرنز – ترجمة وفيق فائق كريسات اصدار عالم المعرفة الكويت – على الطفولة بطرق مختلفة ، فيعرض للموضوع من خلال التغيير ، متناولا ما طرأ على الطفولة بسبب الانتقال من مجتمع الصيد والالتقاط الى المجتمع الزراعي ، فيشير إلى أن بعض المجتمعات الزراعية قد منحت الابن البكر عناية خاصة ، فنقلت الملكية الموروثة والمناصب بمنظومة من حق البكر في الإرث ، تركت الابناء والبنات غير المتزوجات لإعالة مضمونة ، لكن مجتمعات أخرى قد وزعت الميراث على نحو أكثر اتساعا ، بين الصبيان على أقل تقدير ، ويرى المؤلف أنه لا يزال من المهم تذكر أن الزراعة ذاتها قد أدخلت الطفولة بعض اكبر التغيرات التي خبرها النوع البشري في تاريخه ، عملت انساق بعينها من حضارات وأديان مستقلة تعمل داخل هذا الاطار ، مولدة تفاوتات وتغيرات داخل بعض الانساق المشتركة على نحو عريض
ويذكر المؤلف في سياق بحثه ” الطفولة في الحضارات الكلاسيكية ” أنه كان للعقاب ان يشتمل في ” الشريعة اليهودية ” على الاعدام ، وكذلك سجلت حضارات أودية الانهار الكثير من حلو اللحظات مع الأطفال وهم يلهون ويكبرون ، لكن الإطار القانوني كان له مغزى أيضا ، كذلك كان في الحضارات الباكرة من مثل فينيقيا أمثلة قليلة على قرابين الاطفال المتخذة منسكا دينيا ، وكان للطفولة الصينية اطار محدد ومميز ، وقد صمد كثير من جوانبها عبر الزمان ، بيد أنها كانت أيضا عرضة للتحديات وللتعديل ، ولم تترك لنا مجتمعات المتوسط الكلاسيكية رزمة ثقافية مثلما فعلت الكونفوشوسية ، رزمة يعمل من خلالها المعاصرون على تشكيل اطار للطفولة أو يتخذ منها المؤرخون الحديثون نقطة يدخلون منها الى هذا الموضوع الذي يتسم بالخصوصية في كثير من الاحيان .
وكان في الهند الاخضاع لشروط التقشف والتأديب بعد الطفولة الباكرة يوحي بالحاجة العامة الى ثني الاطفال نحو حس الواجب ، بيد انه من الواضح ان الوالدين اذا اخذوا افرادا وإن كانوا يسعدون بالأطفال ولعبهم على نحو جلي ، وان كانت الثقافة الهندية قد شكلت مقاربة خاصة للسنوات الباكرة ، فإن لم يكن ثمة إحساس بأن الطفولة يرتقب لها على نحو إجمالي ان تكون مرحلة سعيدة بشكل خاص .
ويعالج المؤلف موضوع الطفولة بعد ظهور الأديان الكبرى ، فيشير الى أن الأديان الكبرى قد شددت جميعها بطريقة أو بأخرى على وجود عنصر إلهي في كل واحد من بني الانسان ويعني به المؤلف النفس أو شراكة ما مع الجوهر الالهي ، هذا الاعتقاد مع تنوعاته الكثيرة قد عزز من جهة ، حسا بالمسؤولية عن حماية الأطفال بوصفهم مخلوقات لله أو مشاركين في الرابطة الالهية ، وعلى وجه الخصوص ، عارضت الاديان الكبرى بشدة قتل المواليد الذي كان يمارس على نحو ذائع في كثير من البقاع التي كانت تسودها العقائد العلمانية او القائلة بتعدد الالهة ، كذلك تحولت اليهودية تحولا حاسما في هذه الجهة وجاء ذلك جزئيا بمصاحبتها للمسيحية او الاسلام .
واعتنت الاديان العالمية جميعا بالحاجة الى تمرين الاطفال دينيا ( كما نقلت الهندوسية واليهودية قبل ذلك بزمان بعيد ) فجعلت شعائر خاصة لذلك منذ الميلاد ، بغية عقد الصلة بين الاطفال والدين ، ومن ثم اتاحة الفرص لتعليم ديني ذي صبغة اكثر رسمية ، – بعض الاطفال على اقل تقدير -، كان هذا هو التأثير العام الثاني للمد الديني الجديد ، كما ان الاديان الكبرى جميعا قد اتت بعقائد غنية وأحكام اخلاص وقانونية تتيح حفز التبحر العلمي الجاد والتعليم المدرسي الذي يتطلبه ، كما شجعت الاديان العالمية التعليم المدرسي ومنحته ميلا خاصا ، مما ترك اثرا في كثير من الاطفال على نحو ما ، كما انها اتاحت للقليل منهم وصولا الى المهن الروحية والعلمية بحلول سنة 1000 م ، وخارج شرقي آسيا حيث حفزت الكونفوشوسية القدر الأكبر من التعليم المتاح ، وقع التعليم المدرسي كله تقريبا تحت التوجيه الديني ، ولمقاصد دينية اساسا ، من الوجهة الرسمية على الاقل ، استمر الحزم والتأديب البدني في كثير من الاحيان ، فلم يكن هذا دائما تقديرا شاملا للتقاليد التعليمية الباكرة ، بيد أنه قد كان تغييرا حقيقيا ، وكان للبوذية رد فعل على بعض الممارسات القديمة التي تطبق على الاطفال ، والتي نشأت في الهند وسواها من الاماكن ، لقد عارضوا زواج البنات في سن الطفولة لاعتقادهم بأن الزواج تعاقد يتطلب رضا عن نضج ، وفي حالات بعينها ، كان للإخلاص البوذي ايضا ان يزود الاطفال في سن المراهقة بوظيفة دينية ، رغما عن الوالدين ، فيكون بذلك بديلا روحيا عن الترتيبات الاعتيادية من أجل النقلة من الطفولة إلى الرشد .
لقد ثبت ان الطفولة الاسلامية كانت أكمل تحديدا من نظيرتها البوذية بما لايقاس ، ولقد قدمت فروقا مهمة ميزتها ايضا عن المسيحية ، كما أن الإسلام وهو دين من أديان الحقبة ما بعد الكلاسيكية وأسرعها نموا قد اظهر بوضوح بضعة اهتمامات خاصة بشأن الطفولة ، امتزج بعضها بالجوانب الأخرى لحضارة الشرق الاوسط ، لقد ادخل النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – نفسه متعمدا بعض التغيرات على الطريقة التي اتخذها العرب لتعريف الطفولة وتوجهها وشجعت مقاربته المبادرات الواسعة .
لقد عكس كثير من جوانب الطفولة الشرق اوسطية ممارسات أسرية أقدم عهدا ، ليس لها شأن بالدين إلا قليلا ، وان لم تناقضه ، كانت هوية الأبناء تعين بوضوح من جهة أنسابهم ، وتختار لهم الأسماء مقدما ، في معظم الأحوال ، للدلالة على الأسرة التي ينتسبون إليها ، كانت المواليد تقمط – تلف بالقماش – لوقايتهم من الحوادث ولاعتقادهم بأن ذلك أحسن لنمو أطرافهم ، وكان أكثر الأطفال يلزمون أمهم حتى السابعة ، أحدث هذا الامر أواصر عاطفية قوية كان لها أن تبقى بعد الطفولة الباكرة وتستمر في زمان الرشد ، وجاء ذلك مباينا لمنزلة الأب الاكثر بعدا ، لكن في السابق كان الآباء يتولون تنشئة الصبيان ، لقد أدركت السلطة الأبوية من حيث المبدأ تأكيدا شديدا ، وفرض على الأطفال احترام الاب او الاخ الاكبر ،الذي وقع على عاتقه في المقابل أمر إعالة الاسرة ، كانت الحياة الاسرية للأطفال يحكمها ايضا الدور الفعال لأعضاء الاسرة الآخرين ، مثل العمات والأعمام، كان التمرين على العادات الحميدة ومنها الكرم والضيافة يلقى عناية كبيرة .
ويشير المؤلف إلى أن ميل الوالدين الى تدليل الاطفال في الجماعات ذات معدل الولادات المنخفض ، قد نزع الى الارتفاع ، والدليل على ذلك يلاحظ في الغرب ابتداء
من أواخر القرن الثامن عشر الى الصين في اوائل القرن الحادي والعشرين
ولقد حدث نوعان من اعادة التفكير : شجعت الثورة العلمية والتنوير على الاعتقاد المتنامي عند الفلاسفة الغربيين بأن الاطفال ليسوا فاسدين منذ الميلاد ، كما جاء في اعتقادات الخطيئة الاصلية عند المسيحيين ، ولا سيما البروتستانت ، لقد بين العلم امرين الاول : هو انه في الامكان طرح هذه الافكار القديمة جانبا ، والآخر هو أن في امكان الاطفال الوصول الى التفكير السليم ، حاجج جون لوك فقال ان الاطفال سجلات بيض منذ الميلاد ، منفتحون على التعلم وخيرون بالجوهر ، أو هم في حال محايدة على اضعف تقدير ، ما لم يفسدهم مؤثر خارجي ، انتشرت هذه الافكار انتشارا واسعا وشجعت على تنامي الاعتقاد في أنه ينبغي تكريس الطفولة للتعليم
ويرى المؤلف أن المقاربة الشيوعية للطفولة قد تضمنت بالتأكيد إعترافا ، اكثر وضوحا بدور للدولة مما ظهر في الغرب واليابان
ان السيطرة الحكومية الكبيرة على الطفولة ( ولم يكن ذلك بواسطة المدارس فقط بل الزمر الشبابية وغير ذلك من الآليات ) كما كان هدفها تنشئة الاطفال اجتماعيا حتى يكونوا عمالا ( واحيانا ) جنودا ، وان يكونوا مواطنين موالين قطعا ، وهذان هدفان اشتركت فيهما الدول الاخرى الحديثة ، لكن هذه السيطرة قد سعت ايضا الى قولبة الاطفال ليصبحوا مختلفين عن والديهم ولتنشأ فيهم قيم وشخصيات اكثر ملائمة للأهداف الشيوعية
لقد حاق بالأطفال كثيرا ، العنف الذي وقع في امريكا الوسطى في السبعينيات وفي النزاع الذي ثار في كولومبيا بسبب المخدرات منذ عهد قريب ، شكلت الحروب الاهلية في ميانمار ( بورما ) واشتملت على غارات على تايلند ، مركز اخر جلب سقوط الاتحاد السوفييتي السابق العنف والتهجير الى بضع امم جديدة في اسيا الوسطى والقوقاز ، تورط كثير من الاطفال في الحرب في يوغسلافيا السابقة ومعها الهجمات المتعمدة على زمر بعينها باسم التطهير الاثني .
لقد قدر – والتقدير هو كل ما يمكن تقديمه – أن 150 مليون طفل قد قتلوا في الحروب والحروب الاهلية منذ السبعينيات في مختلف ارجاء العالم واقعد 150 مليونا اخر واصيبوا بعاهات دائمة ، اضف الى ذلك ان التقديرات تورد ان 80 % من كل الناس الذين قتلوا في صراعات اواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين كانوا من النساء والأطفال ، سقطوا في صدامات نادرا ما اشتملت على اشتباكات شاملة بين جيوش تقليدية من ذكور راشدين
ويكتب المؤلف في نهاية كتابه انه اجمالا كانت العولمة قوة حقيقية تضاف الى العوامل التي تستثير التغيير في الطفولة في السنوات القريبة من سنة 2000 ، ان العولمة باجتماعها مع الدفع ، القائم من زمان بعيد ، نحو النموذج الحديث في بعض الأحوال ، وبإحداثها بعض مظاهر النفوذ المشتركة الاضافية ، لم تمح صور التنوع قديمها ولا حديثها ، لقد إحتوت القرية العالمية النطاق على أنماط مختلفة من الطفولة .
………………………………………….
هامش
الكتاب: ” الطفولة في التاريخ العالمي ” تأليف بيترن ستيرنز – ترجمة وفيق فائق كريسات اصدار عالم المعرفة الكويت سبتمبر 2015