ابراهيم محمود
في بدء أكثر من بدء
ها نحن ذا مجدداً نستعد للقيام بزيارة جديدة إلى حيث كنّا، حيث تكون قامشلي، لا قامشلو كما أشرتُ إليها في العام المنصرم، في تموزه الملتهب بأكثر من معنى. قامشلي في الانتظار، في أفقه، ودونها من باب الدقة أكثر، وما أكثر انتظارات قامشلي هذه وأفانين تلهفاتها، ما أكبرها قامشلي في حزنها، صبرها، تفجعها، بكائها، تماسكها، قابليتها لأن تشقى ولا ترقى إلى حيث تكون جهتها المأمولة. ما أصغرها قامشلي في عملية حسابية يعلَم بها كل قامشلي مفجوع بالسفر الاضطراري، الهجرة الاضطرارية، والخروج الاضطراري، إذ تثبُ أرقام غير مسبوقة: عشرات الآلاف، مئاتها، والآلاف هنا أرواح شبابية، شيخيوخية، طفلية، نسائية، رجالية، هاموا على وجوههم، وسعوا إلى إبقاء وجوههم في هويات أخرى قسراً، بطاقات تعريف أخرى، علامات فارقة أخرى، خارج المكان الذي لم يعد كما كان، خارج الهواء المتنفَّس الذي لم يعد كما كان، خارج التراب المجبول بالحسرات وجمرات الأمل المقاومة للانطفاء،
وجوه أريد لها أن تكون خلافها، كما أرادت هي ذاتها قهراً، أو تقديراً عاماً أو خاصاً، في أن تكون على غير ما هي عليه، إذ لم يعد ما كان عليه، محتفظاً بالحد المرجوّ لما هو عليه، وجوه مأخوذة بالمرحلة المزمنة بسنواتها الثقيلة الوطء، يمكن تعقبها في الجهات الحدودية الأربع، وهي حدود لا تسمى حدوداً كما هو متعارف عليه في أمكنة أخرى، حدود تعرَف ببواباتها، أعلامها، حرّاسها، والقائمين على إدارتها رسمياً، فتلك نقاط عبور ملغومة، قاهرة، مميتة أحياناً، تعبَر بالمقابل المكلِف، وكل خارج يكون قانون القانون الذي تضعه أيدي المهربين، سماسرة الأرواح، قبضاياتها وهم بوجوه أخرى، تسعّر كل شيء، وتبقي كل شيء بينزنسياً.
تلك هي قامشلي التي عنيتها سابقاً، وهي ليست كذلك راهناً، والمسافة أكثر من عمر زمني يقدّر بعام كامل، حيث الزمن نفسي، وما أعمق جراحات ” النفسي ” بمخاوفه وتحفظاته، وليس بمؤمّلاته وتطلعاته المقصقصة عالياً. فما جرى ويجري إلى اللحظة، يلزِم حتى أعتى الساعين إلى إبراز يافطة المجابهة وزعْم تحقق المأمول، بأن ينظر ضمن زاوية حادة، أمامه، متلفتاً هنا وهناك، إدراكاً منه، من الداخل، أن هناك ما يعلوه قوة وتهديداً ونخْر عزيمة بالذات .
في هذا العمر الزمني الفاصل ” بعامه المحتَسب ” تقفز وجوه إلى واجهة الذاكرة: معارف، أهلاً، أصدقاء، غرباء حلّوا في المكان وتصرَّفوا فيه كثيراً، وجوه يحتُّ في سماتها الغياب القاهر، المفاجآت المتوقعة، أو ما ما لم يحسَب له. وللانتظار أكثر من باع طويل في بلبلة نظراتها، وجوه، لا يخطئها النظر، وهي تعلمنا بشيخوخة ما قبل الأوان: شيخوخة الأمل الذي طال أمده، وجوه تعلِمها خطاها بتعضلات مترجمة من خلال تعثرات، وصدمات، وإحباطات، وفجائع، وجوه أكثر، أكبر من كونها مرايا التي لا تعكس إلا ما هو ظاهر فيها، وليس ما يموز ألماً، كمداً، تحسّراً في الداخل العميق والمنقسم هو الآخر على نفسه .
ها نحن، أنا وعائلتي: زوجتي تحديداً، مجدداً نعد نفسينا المأخوذتين بمرارة الانتظار، والحدود الكثيرة والمرسومة بأمتارها، ومكابداتها، وخبرة التلوع، حتى ضمن مسافة قريبة : ساعات معدودة، لكنها تختزن أكثر من ذاكرة معتقة ومعلَّقة هي الأخرى في دوامة انتظار المأمول المؤجَّل حتى الآن. ومجدداً هذه، ليست كـ ” مجدداً ” قبل عام، إنما ما يشغلها من حساب المستجد، الطارىء، عبر وجوه معروفة يعلوها أكثر من غبار زمني، وسط هواء يعلِمنا بتعكّر مزاجه، وقد تضعضع أوكسجينه واستقوى كربونه بما هو مغذ له هنا وهناك، وفي كل ذلك شهود عيان على أن هذه الوجوه ليست هي نفسها، وقد نزفت بريقها، خسرت الكثير من قوة بصرها، وابتسامتها لمشاهدات تجبرها على الانزواء والتخوف.
ها نحن ذا، أنا وعائلتي، زوجتي تحديداً، كما لو أننا كنا دون أولاد، عاقرين تماماً، وما كنا هكذا ، وعمر زواجنا عقود من الزمن، وخلفنا أولاد لم يعودوا أولادنا، بالمعنى الذي كان، وقد تفرّقوا كغيرهم هنا وهناك، حتى من ظلوا بالقرب منا، لم يعودوا كما كانوا برائحة البنوّة عينها، لم نعد نحن أنفسنا بمدَد الأبوة والأمومة عينها، إزاء هذا المنقلب الزمني: الاجتماعي، السياسي، النفسي، الثقافي، وقد زددنا أكثر انقساماً، فالغربة بمفهومها الكردي تفرّق أكثر مما توحّد، وتعلِن حداداً بأكثر من معنى، وليس مداد الأمل، والابتهاج بالحياة، وفرح الأولاد وأولاد الأولاد وبراءتهم هذه التي- بدورها، خفض منسوبها الحياتي كثيراً، في مسرى لغات أخرى، بيئات أخرى، وضعيات نفسية أخرى، وهو ما يزيد في إثقال خطانا.
زوجتي وأنا، ونحن نحمل وجهين مثقَلين بشوق إلى المكان الأول، وهو شوق ليس على ما يرام، وأمام ناظرينا وجوه من ينتظروننا، وهي بسمات أخرى طبعاً، وجوه من سألونا كثيراً، وهي خارج حدود لغات، أمم، شعوب، وثقافات أخرى، ومسافات قصية جداً، عن لحظة الانطلاق والوصول وزمن البقاء، كما لو أنها تستمد أملاً ما بالبقاء من خلالنا، ونحن نستعد للانطلاق، وما يزيد ذلك من قسوة التوجه، ومرارة التردد. سوى أن الجمرة المتبقية في رماد العمر، والمكان ” الدهوكي، الذي نقيم فيه منذ سنوات، يرفدنا بطاقة التوجه، لعلها رغبة الاستمرار في الحياة لأجل وجوه من يعنونا: أهلاً، أصدقاء، معارف، وها نحن ذا نسلّم وجهينا لريح الرغبة هذه، محرّكي مجذافي شوقنا إلى قائمة وجوه من ذكرناهم، والمكان الذي ينتظرنا، وهو ، كما يعلِمنا خيالنا، مشفوعاً بذاكرة تشكلت به كثيراً، قامشلية طبعاً .
1-الطريق الذي يتشعب ويتشقلب بنا