ابراهيم محمود
1-الطريق الذي يتشعب ويتشقلب بنا
يمكن للطريق أن يدل على جمع. هناك طرق تفكير، طرق مناقشة، طرق علاقات، طرق مواصلات.. ويبقى القاسم المشترك الأكبر في الطريق عموماً تسهيلَ عملية الوصل بين بداية ما ونهاية ما. فثمة مرشد، ثمة علامة على وسيلة عبور أفكار، تصورات، بضائع وأشخاص… يبقى الطريق في مفهومه العام شاهداً حياً على خاصية تمدُّن في الفكر، العلاقة، انتقال الأشخاص.. يبقى الطريق المرجع الأصدق إجمالاً ومرئياً على درجة الرقي في المجتمع .
وربما لا يكون من قبيل الخطأ القول: إذا أردت معرفة مدى رقي مجتمع ما، فانظر في طرقه!
الطريق صريح، دقيق، له وجه واحد، دون قناع، لا يعرف الكذب والمواربة، ولا يقلّل من قيمة شهادته العارية والمعرّية، أي تسويغ أو تقديم تبرير ما، أو دليل على ما يجري من خلاله .
وأن أتحدث عن الطريق هنا، فلأنه فارض نفسه، لأنه يوجز الكثير من الأمور، ويظهِر بنيتها.
باختصار شديد: عندما أتنقل في مركب ما على طريق ما، لا أحتاج ترجماناً، لينقل إلي حقيقة بنية تحتية فاعلة في مجتمعه. راحتي القائمة من خلال سوية الطريق وتجاوبه مع المستجدات.
أأكون مبالغاً إن قلت: إن معرفة طبيعة الحرية في مجتمع ما، تتأتى في معاينة طرقه تلك التي تصل بين مناطقه ونواحيه، وأحيائه وضواحيه بالنسبة إلى مدنه ؟
لكم، يعاني المتنقلون عبر الطرقات هنا في إقليم كردستان، سأسمي الطريق الواصل بين مدن من مثل دهوك، وزاخو، ومعبَر سيمالكا ” حيث يتقابل حدان مصطنعان نهرياً: غرب النهر” نهر دجلة “: روجآفا كردستان، كما يُسمى، وشرقه: باشور كردستان، كما يُسمى كذلك.
لكم هو متعب، ومزعج، أو مثير للسخط، هذا الطريق، وهو في التواءاته، صعوده وهبوطه، وضيقه، وقدَمه، وتقطعه يومياً آلاف السيارات بأحجام مختلفة في الاتجاهين، ولنا أن نتصور المخاوف التي ترافق سالكي هذا الطريق، حيث تكثر مشاهدة المركبات الكبيرة، ويضاعف المخاوف هذه، وجود حفر في نقاط مختلفة فيه. ما الذي يبقي طريقاً كهذا مهملاً؟
إنه سؤال، لا أظن أي جواب يمضي بنا إلى” الظروف السياسية ” ومنذ عقود، بمقنع. لأن طريقاً سالكاً بهذا الشكل، يعني أن هناك وارداً مالياً بالمقابل، ويجب إيفاؤه حقه بالتالي.
وفي سؤال المعبَر نفسه، وبوصفه طريقاً هو الآخر، ما يستوقفنا: فأن يتنقل أشخاص بمتاعهم، باعتماد وسيلة تعتبَر بدائية: مركب مائي صغير، أو من خلال جسر آني منصوب على النهر للربط بين ضفتيه، وتسلكه مركبات شتى، فذلك سؤال، لا بد أنه يقلق المعنيين به.
فهذا الطريق ” اللاطريق “: الوقتي، يترجم واقع حال قائماً، وهو عدم الاطمئنان على الجاري، وما هو أبعد: البعد السياسي الذي يضيء ساحة جغرافية مثقلة بالتحديات، واستجابة لها. وربما كان التصميم على مد طريق ” عصري ” يعبّر عن رابطة قوية بفكرة الجغرافية الواحدة.
وحين ننتقل إلى الطرف الآخر، نجد ما هو كارثي، وما يبقينا في دوامة مأساة تقودنا إلى أصل المشكل: فمعاناة الأشخاص ممن يتحركون في الاتجاهين، وضمن مسافة طويلة، حيث يتكفل الغبار بمسحوقه الناعم ” المبودر ” بتغيير معالم المركبات وحتى الأشخاص، وفي طريق لا طريق، متعرج، ترابي، إجمالاً، وجو خانق صيفاً، وصعوبة التحرك، جرّاء ووحل بعمق نصف متر أحياناً شتاء، وحتى الطريق الاسفلتي الذي يمتد طويلاً إلى أبعد من حدود قامشلي، لا يعفى من سؤال بؤس الحال، وما يمكن أن يعيشه سالكو طريق كهذا من هواجس ثقيلة الوطء.
الطريق، بمفهومه، يؤسس لما هو استراتيجي، ويرتبط بمستقبل يعمَل له، أي إن المرئي يعلِم بالحقيقة المرّة للمعنيين به، وهو أنهم لا يضمنون بقاء يمتد بهم إلى مستقبل ” معمَّر “.
لا يبقى إهمال الطريق مجرد إحالة إلى واقع طارىء، إلى التذرع بظروف سياسية، إنما إلى عدم قناعة المعنيين بإدارة الأمور، بأنهم سيكونون من ” أهل الغد ” كذلك .
إن التدهور البيئي، والبؤس المريع في بنية الطريق الموسوم، وشقيقاته الأخرى طبعاً، من العلامات الفارقة على التشظي المجتمعي، والرهان على الآني، أو الوقتي، لتزداد البنية التحتية انخسافاً، وهو ما يقرّبنا من حقيقة مخاوف الناس، وهم يتنفسون هواءاً مكربناً، وأغبرة ذات صلة قربى به، ويرتجون داخلاً وهم يتنقلون عبر هذا الطريق أو ذاك، وهو يفتقد السلامة.
أن أشدّد على الطريق بداية، وبالصورة هذه، فلأنني من خلاله، أُعدِم بوصلة رؤية غد مطمئن !
…… يتبع
2- متى نصبح بشراً ؟