بسام مرعي
في كتابه بناة العالم الكاتب والناقد النمساوي ستيفان تسيفايج يحاول إماطة اللثام عن شخصيات غاية في الأهمية لكي يضعهم تحت المجهر، ومن وجهة نظر نقدية فنية فلسفية نفسية، مستقصياً بذلك عوالم أولئك العظماء، ومنهم الكاتب والمبدع الروسي فيودر دستويفسكي.
إن الحديث عن عالم دستويفسكي النادر، والغوص في عالمه الداخلي من وجهة نظر ستيفان لا شك يخص عالمنا الداخلي الخاص بنا، وبهذا المعنى فهو يخص الأدب العالمي ككل والإنساني بشكل عام ولذا فهو من بناة العالم الأدبي ويشكل لبنة أساسية في البناء الأدبي الإنساني.
إنه يعطي رسالة أبدية، بأن روح الأنسان عليها أن تتمرد، وعليها أن تبحث عن أحلامها، وتحلق في فضاءاتها الإنسانية المجردة، من المعاناة والمآسي والظلم والإذلال ، في مواجهة السلطة أية سلطة مبتغاها ذلك الإنسان الذي لن يقبل بأي شكل من الأشكال، إلى أن يتحول الى شيء فاقد للكرامة الأنسانية .
ثنائية التفكير لدى دستويفسكي هي حالة إبداعية نادرة، حيث يحلق دستويفسكي دائماً في فضاءات صوفية عذرية غير ملوثة أبدية خالدة حيث الأصل النقي والجذور الممتدة في المعاني الأنسانية النبيلة حيث الأخوة الحقيقية وحيث تمتلكك الرهبة في الأقتراب منها.
هذا التحليق عند دستويفسكي يصارعه دائما ً هبوط وهو هبوط من علو شاهق هبوط إلى العالم السفلي حيث الأرض الصلدة الصلبة حيث الحضيض وقاع المجتمع وحيث المعاناة الإنسانية الأكثر سوداوية.
يبدو أن فضاءات دستويفسكي تعطيه عزاءً عن هذا الحزن الأرضي اللانهائي
أن البحث في أعماق دستويفسكي والتوغل فيها يعني أننا نزداد شعوراً بعمقنا ولن نكون قريبين إليه إلا عندما نصل إلى جوهرنا الحقيقي أي الإنسانية الشاملة شهوده في كل هذا، هذا الثالوث الفنان والمتمثل في جسد وفكر وفي مصير ومحيا دستويفسكي .
حيث أمام محيا دستويفسكي، تجد نفسك أمام لوحة ربانية، مطروقة بمطرقة الرب، محيا فلاحي متسول يسوده الظلام، لون ترابي باهت قريب من لون الموتى، خدود صخرية، ولحية على شكل غابة، عينين غائرتين بصورة عميقة، تشتغل نظراتهما الحادة المنكفية إلى الداخل، وكأنها تبحث في عمقها.
ومايميز هذا المحيا الإنساني الذي يعبر عن عمقه جبهته، ذلك الصرح الفكري الأبيض النقي البراق ولعل هذا هو مايعطيك تصوراً بأن دستويفسكي شكلاً وجوهراً وكتابة ً كل مترابط بشكل عظيم.
إن مصير هذا العظيم مطبوع بطابع الكتاب المقدس كما يقول ستيفان، لا يدعه الزمان أن يعيش بأمان، ولا أن تدعه خاملاً، وهو بمعنى ما يشعر بالإله الذي يعاقبه لإنه يحبه إنه عالم ملتهب بالعذاب القائم على المعرفة.
الرواية عند دستويفسكي هي رواية عن المأساة، والمعاناة البشرية، والتي لا تجد لهذا التوتر، والقلق اية أجوبة، إنه يبحث عن معاني أخرى في تصرفاته المليئة بالحزن والمعاناة ولذلك تجد ذلك المزج مابين الأرضي والسماوي كثير الورود في معظم كتاباته هذا الربط الذي لا يمكن فصله، أي الأرضي بما تحمله الأرض من مآسي وعن السماوي الخالد والساطع النقي الذي لا تشوبه شائبة.
دستويفسكي يبدع بعد كل معاناة كبيرة ليحلق بعدها في سماء الإبداع هكذا بعد سنوات العذاب والألم والمنفى السيبيري، يبدع الليالي المشرقة، وكذلك مذكرات بيت الموتى بعد معاناة أخرى، لتجعل القيصر يبكي ويبلل الكتاب دموعاً، وهكذا كل تحليق يدفع ثمنه انهياراً، والثانية من الرحمة يدفع ثمنها ساعات طويلة من اليأس.
شخصيات دستويفسكي مطبوعة بطابعه، فهي بركانية نارية، تكون خامدة يائسة سوداوية هائمة في الكوابيس، وفجأة تتحول إلى حالة أنفعالية إلى فجيعة وألم هائل، وإلى كتل نارية، ولكنها عاجزة أمام مصيرها إنها تجعلك ترتعد إشفاقاً.
إنها غير مكتملة، فالانسان فلسفياً غير مكتمل لديه ومندفع صوب اللانهائي، شخصياته ليست لها صفات معينة فهي تكسر كل القيود، إنها تبحث عن مصدر إرتواء لا تجده إنها شخصيات عطشى غير مرتوية.
إنه يصوغ شخصيات تحاول تبرير الخديعة والخطيئة والتلاعب وخداع النفس كما في المرأة التي تحاول التلاعب على زوجها ((في الزوج الابدي))، وبأن الحياة لا معنى لها، وغير نبيلة كما في حلم رجل مضحك.
نعم دستويفسكي والألم صنوان، وهو أكثر الكتاب تعايشاً مع ألمه، ومعاناته ومصيره المأساوي الأسود، والمثير إنه يحول مرضه إلى نهفة فكرية حيث يعترف دستويفسكي بأن نوبات الصرع تلقيه في ((ملذات رهيبة))، ولم يوجد كاتب يتوحد مع مرضه، ويحبه ذلك الحب اللانهائي كدستويفسكي، فلديه قدرة هائلة على التحويل كما الفلزة في البوتقة النارية.
كل شي متحول عنده، الحب قد يكون كراهية، او رثاءً او عناداً او قهراً للذات، دائماً هناك شعور أصيل وراء الحب.
ربما لو لم يكن دستويفسكي لكان الأدب الإنساني مختلفاً اليوم .
توفي سنة 1881 لتتحول جنازته إلى حدث عام، وتتحد كل أطياف الأمة الروسية لتمشي مع تابوت العظيم المتوفي جسداً والباقي فكراً.