عودة أخرى إلى الراحل فرهاد عجمو «إلى بهزاد عجمو»

 ابراهيم محمود
لا أكتب مجدداً عن صديقي الذي كان، وهو على قيد الحياة، وصديقي الذي سيبقى، وهو قيْد ذاكرة الروح، فالكتابة مستمرة، دون بداية أو نهاية، حتى أننا عندما ننقطع عنها، فإنما نكتبها بطريقة أخرى، وأن أسمّي ” عودة أخرى ” فلأن ثمة ما يلح علي بتسفيرها خارج ” صومعة الروح “حيث يكون مقر من نحب الراحلين، وفي الواجهة، الراحل فرهاد عجمو، ومن باب الأمانة، كان لِما سطّره أخي بهزاد عجمو، الذي يضمّن مقالاته إلماعات نقدية لا يمكن تجاهلها. وما كانت العودة هذه، لولا تلك ” الطرْقات ” على بوابة الذاكرة، وقد أثار بمقاله عني، والمنشور في ” ولاتي مه،1 تشرين الأول2019 ” العديد من الهواجس ذات الصلة بماض، أعتقد أن كثيرين يجهلونه. وهأنذا أثبتها بخطوطها العريضة:
-كنتُ في بداية المرحلة الإعدادية، ابن قرية، وأتردد على المدينة ” قامشلو “، مع أهلي، وشغف الحرف كان يشدني إليه. وجرّاء علاقات بين المرحومين: عبدالباقي عجمو والد راحلنا فرهاد، ووالدي، كان أول تعرف لي على الكتاب من خلاله، خارج النطاق المدرسي، حيث إن صورة بيته ” الطيني حينذاك، قبل انتقاله إلى عمارة مشيَّدة ” اسمنتية ” على طريق الحسكة “، محفوظة في كامل وعيي الطفولي. إذ كان هناك مكتبة في بيته مثبتة في الحائط ” Du qubale “، لافتة للنظر، لطفل على مشارف سن المراهقة والرغبة في اكتشاف العالم. وكان شيئاً مثيراً للفضول، وجديراً بالدراسة: كيف أمكن للراحل عبدالباقي عجمو، أن يجمع بين الكتاب وعمله في الزراعة ؟ إذ من النادر رؤية من لديه مثل هذا الاهتمام. ليكون أول كتاب أقرأه، من مكتبته، ومازلت أتذكره، وهو يعيرني إياه، وبود” إنما عليك يا ابراهيم أن ترجعه ! ” وكانت رواية ” الجريمة والعقاب” لدوستويفسكي. حيث كان لعنوانها رنين ترددَ صداه في نفسي. واستمرت العلاقة، ولو بشكل متقطع بيني وبينه، حتى رحيله الأخير، إذ كان يحتفظ بتقدير خاص لي، كلما التقيت، وآخر لقاء، زيارتي له مع آخرين في بيته الجديد، وهو على فراش المرض. حيث رائحة بيته القديم لا تفارق خيال روحي ما حييتُ.
-بقي بيت عبدالباقي عجمو، ولازال في ذاكرتي، محمولاً بهذه العلامة، وكان أخي بهزاد، أول من تعرفتُ إليه، وهو طالب إعدادية، ويتقدمني فيها، قبل أن يتم التعارف بيني وبين راحلنا الكبير فرهاد عجمو لاحقاً.
-ولعل فرهاد اكتسب هذه الخصلة من والده، ولو أنه جعل الشعر بُرَاقاً له إلى عوالمه المتخيَّلة المضيئة .
-المفارقة الأخرى، والتي تستدعي نظيرها، هي أن شاعرنا الراحل فرهاد، كان يعيش نشوة الشعر، عدا انشغالاته بما هو فني ” الموسيقا الكردية، الفولكلور الكردي، التراث الكردي…الخ “، وهو في ” محله ” محل قطع غيار” الحصّادات “، أي هذا الجمع اللافت بالمقابل، بين صنعة الشاعر المائية المتموجة، والحديد المصنَّع ” في قطع غياره ” والذي يعرَف بثقله، والتصاقه بالأرض، كما لو أن ثقله حديده قد أودعه ثقل قصائده لتتجذر في بيئته وفي قلوب كرده.
-أنوّه مجدداً، إلى أن فرهاد، وقد أشرتُ إلى ذلك في أمكنة أخرى، كان أول من زارني في بيتي، صحبة الصديق الشهيد مشعل تمو، في مطلع 2004، حين نشرت أول حلقة من ” وعي الذات الكردية ” قبل أن يتشكل من مجموعها كتاب بهذا الاسم، ورغبا مني مرافقتهما للسهر خارجاً، والتباحث حول هذه النقطة، وكانا أول من يشددان على وجوب الاستمرار، مهما كانت العوائق، وتأكيد دعمهما لي معنوياً، وكان هناك كاتب آخر، معنا، أيدهما في ذلك، لكنه لم يلتزم بما نوّه إليه، ربما لأن ” مصلحته ” تأخذ مساراً مغايراً، وحتى الآن .
استمرت كتابة الحلقات حتى النهاية، وأثيرت زوابع، واتهامات، وردود أفعال عنيفة، يمكن النظر فيها، لمن يرغب، ولكن قلة قليلة من الأصدقاء الكتاب، كانوا يشكلون دعماً حميماً معنوياً لي. وهل هناك ما هو أشنع من توجيه اتهامات، يصعب تلفظها، من قبل كم كبير من ” الكتاب ” بزعم أن تصرفاً كهذا، يسيء إلى الكرد وثقافتهم، ولصالح أعدائهم؟
وأعتقد أن ما قمت به، ونشرته في كتاب، إلى جانب مقالات أخرى، لم تبصر النور في كتاب آخر، كان ومازال العمل اليتيم في الثقافة الكردية بإطلاق، من ناحية المساحة الكبرى للموضوع.
وأرى في ضوء ذلك، أن الكثير مما يعرَف ببؤس الثقافة الكردية، وهزال مجتمعها، هو هذا التخوف المريع من النقد.
-مفارقة مرفقة بما تقدم، تتلخص في أن الرافض الأول لما قمت به، ومن خلال الكتاب الرافضين  و” المستهجنين ” له، والمرعوبين منه كذلك، يتمثل في مجمل الأحزاب الكردية، حيث إنها لم تبخل كعادتها، في رشرشة اتهامات تعرَف بها ربما منذ نشأتها .
-بقي فرهاد مؤاسياً كبيراً لما كنت أقوم، إلى جانب آخرين معدودين، أقدّر شجاعة الموقف لديهم. وليس هنا مجال للتذكير بهم. بما أن الموضوع ينصّب على نقطة محددة: فرهادية بجلاء.
-وربما كان رحيل شاعرنا فرهاد أكثر من مأساة من هذا المنطلق: فيما عرِف به، ومن جهة الذين حاولوا تعظيمه وتفخيمه نوعاً صارخاً من المتاجرة، وفيما عرِف به بعد رحيله، وكيفية التعامل المزري مع اسمه .
-في السؤال- مجدداً- عن أعماله، وهو الدال على المأساوية المستمرة، يحزنني وأي حزن، أن أعبّر عن أسفي لما جرى ويجري حتى الآن، ومن قبل أخوته الذين لديهم كامل الإمكانية لأن يصدروا أعمال الراحل الكاملة: المنشورة وغير المنشورة، لأن ذلك يبقيعلى رصيد الراحل والدهم ثقافياً، وفقيدهم فرهاد، وهو دَيْن لا أظنه بصعب عليهم سداده، على أكثر من مستوى، عندما تحفّزهم الرغبة في ذلك .
– ما ينبغي علي التنويه عليه، هو أسفي العميق على تلك العبارات التي تخللت مقال أخي الكاتب بهزاد، ذات الصلة بالوضع العائلي ” بين الأخوة ” وخصوصاً في النهاية. تلك مأساة أخرى. ولا أزيد على ذلك طبعاً .
من هنا، تكون مناداتي لهم، ولكن المعنيين بهذه المسئولية الثقافية والأخلاقية، تعبيراً عن مصلحة وحيدة، لا ترفع من شأن أي كان بمفرده، وإنما تضيء ساحتهم جميعاً، بمقدار ما تريح الراحل حيث يكون مثواه الأخير .
دهوك 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…