كتابة: عبد الستار نورعلي
يقول سقراط:
” إنَّ على الشاعر حتى يكونَ شاعراً بالفعل أنْ يستقيَ مادةَ شعرهِ من بعض الأساطيرِ لا منَ المحاججاتِ والأدلةِ.”
اشتغلَ الشعراء المعاصرون المجدّدون في بنية القصيدة شكلاً ومضموناً على توظيف الأسطورة في قصائدهم، فاستلهموا أساطيرَ وادي الرافدين، والأساطيرَ الإغريقيةَ والرومانيةَ والفينيقية والعربية، ومدلولاتها وشخصياتها من آلهةٍ وأبطال وأحداث، وذلك لإضافة غنىً على مضامين قصائدهم.
وهناك مَنْ يرى أنَّ البعضَ منْ هؤلاء الشعراء أستخدموا الأساطير كنوع منَ التجريبِ الجماليّ، أو لإظهار سعة ثقافتهم وعمق مضامينهم، ولا تأتي من خلال نسق القصيدة وما تحويه من تجربة ومعنىً وعلاقةِ الغرضِ بالأسطورة، فهو والحالةُ هذه استخدامٌ خارجيّ، ومجردُ زخرفةٍ وليستْ دليلاً على الشاعرية، لذا يشعرُ القارئ أنّها مُقحمَةٌ إقحاماً. في الوقتِ نفسهِ كان البعضُ الآخر من الشعراء يستخدم الأسطورةَ مستلهماً بعضَ موضوعاتها وشخصياتها فيحوّلها شعراً، ومن خلال تجربةٍ معاشةٍ وترميزاً لحالةٍ ذاتيةٍ تلتقي في إرهاصاتها مع مضمون الأسطورةِ أو شخصيةٍ منْ شخصياتها، مثلما استلهمَ أبو القاسم الشابيّ اسطورةَ “برومثيوس”، فسمّى قصيدته الهمزية “هكذا غنّى برومثيوس” ، وهي تعبّرُ عمّا كان يعانيه الشابيّ في مرضه العضال من آلام مثلما عانى “برومثيوس” في الأسطورة:
سأعيشُ رغمَ الداءِ والأعداءِ
كالنسرِ فوق القمّةِ الشمّاءِ
أرنو إلى الشمسِ المضيئةِ هازئاً
بالسُـحْبِ، والأمـطارِ، والأنـواءِ
في ديوان يحيى السماوي “نهرٌ بثلاث ضفاف” ـ موضوع هذه القراءة ـ نجدُ توظيفاً فريداً للأسطورة من خلال استلهامها، والتلبُّسِ بشخصياتها لحدِّ الذوبان (الصوفيّ) في الرموز التي تعبّر عنها، بحيثُ يحسُّ المتلقي كأنّه أمام أسطورة حقيقة، تتمثّلُ بشخصيّةٍ معاصرةٍ أرضيةٍ متجسِّدةٍ ماثلةٍ أمامنا ” يحيى السماوي” يعشقُ إلهةً سومريةً متخيّلةً، تخرجُ منْ بين الأسطورةِ لتهبطَ إليه: هو غيرُ القادرِ أنْ يصعدَ إليها وهي في أعالي السماء، تهبطُ ليتواصلا ويلتحما في ذاتٍ واحدةٍ. لنقرأْ له مُنشِداً في قصيدة “هبوط إينانا”:
ميلادُ إينانا
البعيدةُ بُعدَ قلبي عنْ يدي
ميلاديَ المكتوبُ في اللوحِ المُقرَّرِ
قبلَ يومِ ولادتي
وغوايتي في نشرِ أشرعةِ الرحيلْ
إصعَدْ إليها ـ قالَ هُدهُـدُها ـ
لِتُبعَثَ من جديدٍ عاشقاً..
طفلاً رضيعَ اللثمِ..
مشبوباً فتىً..
فاهنأْ بفردوسِ الملاكِ السومريةِ
أيُّها الشيخُ الجليلْ
كيف الصعودُ ـ أجبْتُ ـ مولايَ البشيرَ
الى جنائنِ ربَّةِ المطرِ/الجمالِ
الحبِّ إينانا؟
أنا الحيُّ القتيلْ
فبدلاً من أنْ يصعدَ إليها ـ هو الذاتُ الأرضيةُ ـ هبطَتْ إليهِ ـ هي الذاتُ الإلهية السماويةُ، طارقةً بابَ روحهِ، لتُقدّمَ إليه الحبَّ والجمالَ والخصبَ والولادةَ، وتُقيمَ في قلبِهِ معشوقةً أبديةَ السحرِ، فتخضرُّ بساتينُ الهوى فراديسَ تنشرُ عطرها في الكونِ شعراً ساحرَ الغناءِ، فرحاً وبهجةً، فيغيبُ ثملاً خَدَراً منْ بشرى هبوطِ معشوقته “إينانا” التي اختارتْه دونَ غيره منْ عشاقها:
هبطتْ إليَّ إلهةُ العشّاقِ إينانا
فأشمسَتِ الطريقَ إلى مضاربِ “عروةِ بنِ الوردِ”
وابتكرتْ لإسرائي “بُراقاً”
فالسماءُ قريبةٌ مني..
وكنْتُ أُقيمُ في “قصرِ الغديرِ”
أمامَ جُرفِ النهرِ
في أرضِ السماوةِ
يومَ حطَّ على سريري
هدهدُ البشرى بأولِ زخَّةٍ عذراءَ
من مطرِ الهديلْ
فثمِلتُ منْ خَـدَرٍ
فما أدري أكانَ الوقتُ صبحاً
أم أصيلْ؟
ربما لم يسبقْهُ شاعرٌ في عمليةِ التوظيف والاستلهامِ هذه. إنّه يتوحَّدُ بالكامل في شخصيةِ “إينانا” ربةِ الحبّ والجمالِ، والخصبِ، والحربِ عند السومريين، التي معادلُها “عشتار” عندَ البابليين والأكديين، و”عشتاروت” عند الفينيقيين، و”فينوس” عند الرومان، و”أفروديت” عند الإغريق. هذا التوحُّدُ توحّدُ عاشقٍ ملتاعٍ، وجدَ في الحبيبةِ النجمةَ التي تضيءُ دواخلَهُ، ليُشرقَ مُتبَـتِّلاً في محرابها الضوئي، غارقاُ في هديلٍ ساحرٍ من البثِّ الروحي، ليُقدِّمَ للعشاقِ أجملَ تراتيل حبٍّ، تخلدُ مادامتِ الأسطورةُ حيّةً، وشعرُهُ خالداً بخلودها. إذ يقول في قصيدة “تضرّع في محرابها” :
لـلـسومريَّةِ رَبَّـةِ الأمطارِ / والـعـشبِ /
الـجمالِ / الـعـشقِ ” إينانا ” طباعُ النهـرِ
حين تـسيرُ
تأبى الإلتفاتَ الى الوراءِ ..
ومثلُ سهمٍ غادرَ القوسَ الأصيلَ
تغذُّ سيراً للأمامِ ..
لها جنونٌ عاقلٌ
فهيَ الدواءُ لعقليَ المجنونِ
إنْ عصفَتْ رياحي العاتيةْ
ترفو فتوقَ حماقتي بخيوطِ حكمتِها ..
وتنسجُ ليْ قميصاً
من حرير هديلِها ..
فأنا و” إينانا ” لِثَغرٍ واحدٍ
شـفتانِ ..
نخبزُ من طحين العشقِ
خبزَ العافيةْ
هذا العاشقُ ينهلُ من دنانِ الصوفيةِ خمرَ الذوبانِ في ذاتِ “إينانا”، ليغيبَ معها في رضابِ التجلّي موجوداً بالسحر، فيكونا قلباً واحداً في جسدين، وثغراً بشفتين، وكوناً فسيح البحر والضفاف، هو السفينة وحبالها وجيدُها الفنار والمدى والصارية. هي ترفو رداءَ وعيه بالحكمةِ، وتنسج هديلها قميصاً، وعشقها خبزَ عافيةٍ، ليذوبا في عناق روحيٍّ يعودان منه جدولين بداليةٍ واحدةٍ، الجدولان هما الشاعر العاشق والمعشوقة “إينانا”، والدالية هي العشق السامي الجامع روحاً في جسدين:
ولنا معاً نفسُ العِنادِ
ونفسُ إصرارِ الحَمامِ على الهديلِ
إذا شدوْنا أو بَكيْنا ..
لا نرى سَـبباً
لنطويْ نحوَ ميناءِ السماءِ شِـراعَنا
فأنا السفينةُ والحِبالُ
وجيدُ ” إينانا ” فناري والمدى
والصّاريةْ
نغتاظُ أحياناً لِندفعَ فِديةً :
ثوباً من القُبلاتِ ..
عِقداً من زهور اللوز ..
طوقاً من عناقٍ ..
رحلةً في اللامكانِ
نعودُ منهـا جَدوَلَينِ
وداليةْ
في الأسطورةِ كانتْ “إينانا” متوحِّدةً عشقاً مع ديموزي (تموز) رمزِ الذكورةِ والحياةِ والخصبِ. واليوم تتلبّسُ “إينانا” شاعرَنا السومريّ “يحيى السماويّ” لتنسجَ معَهُ روحاً واحدةً بجسدين، ولتُبعَثَ معهُ منْ جديدٍ حيةً طليقةً محلِّقةً، فتكونَ “إينانا” الجديدة لديموزي الجديد المنبعثة منْ رماد القرونِ، فينتشرَ ريحُها في الآفاقِ ثانيةً من خلال أجنحة الشعر المحلّقة. هذا العاشق الذي كان يجوبُ الآفاقَ سوّاحاً يبحثُ عن محرابٍ سحريٍّ ليتبتّلَ ويهدلَ، فيمنحَ خِصبَهُ الشعريَّ للبوادي والبراري والظامئين لينابيعِ “جنَّةِ الكلام (الشعر)” فتطربَ وتخضّرَ وتُزهرَ وتُثمرَ بدواني القطوفِ منَ العسلِ المُصفّى، وتمتلئَ بالينابيعِ الصافيةِ والجداولِ الرقراقةِ المنسابةِ بتدفًّقٍ راوٍ، وهو الذي كانَ تائهاً يبحثُ عن مأوىً لروحهِ اللائبةِ المُلتهبةِ بحرارةِ الشوقِ والوجدِ والعطش، وكانَ المأوى والمُقامُ والريُّ في محرابِ “إينانا”، فيقعُ عاشقاً خاشعاً ساكنَ النفسِ مُطمئنَ القلبِ، فعشقُها أيقظه، وأنقذهُ من مرارةِ التيهِ والطوافِ والبحثِ والتأملِ والانتظارِ، فقد لقيها ويا لَها منْ لُقيا!:
كنتُ المُوزَّعَ قبلها بيني وبيني
هارباً خلف المدى والبحرِ والصحراءِ خوفاً
من أباطِرةِ القبيلةْ
أرتاد قبلَ هبوطِ ” إينانا ” ضَياعاً
باحثاً في الصخر عن ماءٍ
وفي بئرِ المتاهةِ عن خميلةْ
حتى إذا هبطِتْ بمـشحوفٍ من البرديِّ ” إينانا “
تلبَّسني خشوغٌ
فانتبهتُ الى السماءِ تزخُّ أزهاراً
وواحاتٍ تقومُ
وكلُّ جلمدِ صخرةٍ أضحى بتيلةْ
وإذا بيَ ـ الضِلّيلَ ـ فِضْتُ صبابةً
أغفو مع ” الأنعامِ ”
مُلتحِفاً حريرَ ” التوبةِ ” البيضاءِ
أشكرُ نعمةَ ” الرحمنِ ” نشواناً ..
ويُوقظني
دفِيءُ ” النورِ ” و ” الفتحِ ” المُبينِ بعشقِ ” إينانا “
لأبدأ في هواها رحلةَ ” القصصِ ” الطويلةْ
عن عروةَ بن الوردِ باع حصانهُ
وابن الملـوّحِ خان ليلى
واشترى ” شمشون ” جاريةً ليهربَ من ” دليلةْ ”
وأنا اعتصمتُ بِحَبلِ ” إينانا “
أبَشِّـرُ بالبيادر جُثةَ الصحراءِ
والأنعامَ بالمرعى
ومملكةَ العوانسِ بالطفولةْ
ـ من قصيدة “حبلُ إينانا” ـ
في استلهام “السماويِّ” للأساطير السومرية لم تكن “إينانا” الوحيدةَ التي وظّفها ـ وإنْ كانتْ الأطغى ـ لمجانستها روحَ الشاعرِ العاشقةَ الباحثةَ عن التجسُّدِ في عاشقةٍ ملهمةٍ مكمّلةٍ لكيانِهِ الإبداعيِّ المسحورِ بالشعر. لقداستلهم شخصياتٍ من “ملحمة جلجامش” مثل: “جلجامش”، “أنكيدو”، “شامات” و”خمبابا”. وذلك لتصوير ما تعيشه بلاد “وادي الرافدين” منْ أحداثٍ جسام وفسادٍ وظلمٍ وخراب. فهو يوظّفُ شخصيات الملحمة (الأسطورة) بما يلائمها من شخصياتٍ حاكمةٍ أو من عامة الناس ويلتقي معها في الكثير منَ الخصال، ونقرأ هذا في قصيدة “حُزمةُ قصبٍ سومريّ”:
إينانا واحدةٌ ..
وكثيراتٌ في سومرَ ” شاماتْ ”
وكثيرٌ ” كلكامشُ “
لكنْ
منذ غفا ” أنكيدو ” في أوروكَ
وماتْ
عادتْ مذأبَةً واحاتُ العشقِ
وأقـفَـرَتِ الطُـرُقاتْ
“إينانا” إلهةُ الحبّ والخصبِ والجمال والمطر، وهي الرمزُ لكلّ عناوينِ الخير والجمال والخصبِ، و”شاماتُ” هي خادمةُ جلجامشَ التي أرسلها لتغويَ “أنكيدو” وتوقعَ به، وهو الخصمُ القويُّ لجلجامشَ، إذ كانَ يراه خطراً على عرشِه مثلما صوّروا له. ففي إشارةِ الشاعرِ اليهما دلالةٌ إلى أنّ الغواية واستغلالها أكثرُ من الخير وأصحابِه، والملوكُ يستخدمون كلَّ الوسائلِ غيرِ الشريفةِ للإيقاع بمَنْ يرونه خصماً قوياً وخطراً عليهم. في المقطع الثاني من القصيدة يذكر أنَّ هناك الكثيرَ من “جلجامش”، إشارةً إلى أنّ الحكامَ الطغاةَ يكثرون حين يموتُ الرجالُ الأبطالُ الذين يهددون عروشَ هؤلاءِ الحكام. وبذا ينتشرَ الذئابُ في واحاتِ العشق (العدل والخير وحقوق الإنسان). فقد استلهمَ السماويُّ الأسطورةَ، ولم يذهبْ إلى التصريح مباشرةً بما رمى إليهِ إذْ رمى مجادلاً بأدلةٍ، لكنّه استلهمَ الأسطورةَ وشخصياتها، وهو مِصداقٌ تطبيقيٌّ شعريّ لمقولة “سقراط” المذكورةِ في مقدمة الدراسةِ، ذهبَ شاعرُنا في استخدامه ليسَ عنْ سابق إصرارٍ وتعمّد، بل عن تالي وحيٍّ شعريٍّ فذٍّ. ويستمر شاعرُنا في هذا الاستلهام والتوظيف في نفس القصيدة موظّفاً إحدى شخصياتِ الملحمة الأخرى وهو الوحش “خمبابا” مرعبَ أهل أوروك، والذي قتله “جلجامش” و”أنكيدو” مجتمعين، وهو يرمز بذلك إلى الذين يحكمون باسم الدين زوراً وبهتاناً، والدينُ منهم براءٌ، وإنّما لاستغلاله في سرقةِ المالِ العام، والظلم والقتلِ، واستغفالِ العامةِ:
” خمبابا ” عادَ زُرافاتٍ
حيناً يسرقُ باسمِ
اللهِ
وحيناً يقتلُ باسمِ
” اللاتْ ”
وأنا
حافي القلبِ
أُفتـِّشُ عني
مُنطفئَ العينينِ
ندامايَ الأمواتْ
حين رأتْني
ذاتَ سـماوةِ حزنٍ
أتـوسَّـدُ مـشحوفاً مهـجوراً
مُلتَحِفاً قلقَ النخلِ
أساقي رملَ الوحشةِ بالآهاتْ :
ثمَّ يعودُ الشاعر إلى الأمل بالحبِّ والجمالِ والخصبِ والمطر والخير “إينانا”، ليعلنَ أنّ التفاؤلَ لم يمتْ، رغم انتشار الشرِّ وتكاثر ِالملوك الطغاة والوحوش (خمبابا) والبغي والفساد، لتغني دجلةُ والفرات، ولتزدهر البساتين والحقولُ، فيعمَّ الخيرُ:
هبطتْ إينانا مُنقذةً ..
فغدَتْ دجلةَ
وأنا صرتُ
فراتْ
فأعادتْ للنهرِ الموجةَ
والوردةَ للروضـةِ
وفـساتينَ الخضـرةِ للواحاتْ
عبد الستار نورعلي
الأحد 20/10/2019