عن ولدي مهيار ابراهيم محمود، الفنان أباً

  إبراهيم محمود
أكتب عن ولدي مهيار إبراهيم محمود ” 1981-..” وهو الآن والد فعلي، إنما في موقع الفنان الأب. أكتب عنه أباً فنياً. ليس لأنه ولدي، إنما لأن الذي يعرَّف به، لأن الذي يعرَف به يرقى به إلى مستوى الأب الفني ” صاحب ريشة تزكّيه اسماً. على الأقل، كما يعلِم به من لا يعترِف بأبوة كهذه بسهولة، أي الألمان، وهو يقيم الآن معرضه الفني الأول في قاعة بلدية قريبة من هامبورغ على مدى قرابة شهرين ” 14-11/2019 /3-1/ 2020 “، وهي فترة زمنية لا تمنَح لأي كان إلا لأن فيه ما يستحق درجة اعتباره فناناً، أو كما أسمّيه: الفنان أباً. فما أسعدني أباً !
 
قبل فترة، أثرت،ولو بإيجاز، وعلى عجل ما، في مقال منشور في هذا الموقع عن ابنته ” حفيدتي ” فنانة مستقبلية، إن استمرت بزخم موهبتها: أويانا، ومن خلال بعض مما قدَّمته وهي لما تزل في أوج تفتّح طفولتها المتابَعة ألمانياً، كما لو أنها استلهمت عدا حس الموهبة البصرية وذائقة الخط واللون، من والدها محفّزاً ومعزّزاً، فما أسعدني جداً هنا أيضاً !
 مهيار الذي عُرِف بمعرضه الفني الأول ” مخاض تجربته الأولى ” في المركز الثقافي بالقامشلي  ” قبل عقد من الزمن، لم يدخل مدرسة فنية، ولم يسجّل في دورة لتعلُّم الرسم. فحصيلة سنواته الدراسية لم تتعد ثماني سنوات. إنما هي حالة فطرة، وعملية تشجيع من قِبلي، وهو في الأصل خطاط. أراد البقاء في هولير، لكن هولير لم تمنحه في الإقامة متنفساً ، ولو نسبياً، قبل سنوات ست، وهو يعيش كغيره من اللاجئين الكرد قسوة تحدي المصاعب. 
 
ومصاعب الكردي مراتب، كما هي حياة الكردي، كما هو نسَب الكردي كذلك، كما هو خط علاقات الكردي، كما هو قدر الكردي الخاص جداً، كما هي الحياة بالنسبة إلى الكردي، وليس لأن فيه ما يقدَّر بغضّ النظر عن كل ما سمّي آنفاً. فغامر في عبور بحر إيجه الفاصل بين عالمين، وكاد أن ينتهي به الأمر في القاع المائي البحري العميق والبارد، كآخرين، لولا أن لحظة من ” ضربة حظ حياتية ” أوصلته إلى حيث الوصول إلى ألمانيا، أن قدَره هش في وجهه كبعض قليل آخر، وما أقل هذا القليل، خصوصاً حين يكون المرء كردياً، ويعيش جمرة إبداع أو كتابة، أن هناك من اهتم بأمره ” امرأة ألمانية ” أن هناك من وفَّر له مناخاً ليتجه إلى ما يحقق رغبته فناناً ” ستة أشهر على حساب الجامعة “، ولم يزل في خطوته الأولى طبعاً.
 
هي تلك الحاسمة، هذه الخطوة الأولى، خطوة القفز إلى بعض معلوم، والكثير من المجهول، كما هي لحظة الكتابة المغايرة، والفن الذي يراد له أن يكون لقب صاحبه، المعرّف به خارجاً، وسط زحامات وتشويشات والتفافات. يقوله مهيار لي ليس بصفتي والداً، وإنما يعيش رهان القفزة المفصلية، فصْلها ما بين وضعين، عالميْن، معيارين. أسمعه بكامل جسدي طبعاً، وبيننا آلاف مؤلفة من الأميال، أحاول التجاوب معه، كما لو أن الواتساب متنحى جانباً، والوسيط الناقل للصوت، ليشعر أنه بالقرب منا ” عائلة ” بالقرب مني ، مكابد هذه اللحظة الحاسمة.
 
كما لو أنني إياه، وقد كنت ذات يوم في مثل سنه، كما لو أنني إياه، وأنا أعيش إرادته في أن يكون إنسان غد، يعرَف بصفته فناناً، وللفن مقام آخر، لهذا الجانب الإبداعي، ووهج الكتابة، تصريف آخر لدى أهليه الأوربيين” الألمان هنا “.
أعيش، أو هكذا أحاول أن أعيش نبض قلبه الإنسان، قلبه الفنان، وسط آخرين، وهو يلقي كلمة بالألمانية، يعطيها الألمان، أكثر من غيرهم، كما يبدو، اعتباراً آخر، كما لو أنه يعلِمهم، أنه يستحق السكنى في وسطهم، وأن ما رسمه عبر ” 35 ” لوحة بمقاييس مختلفة من ” 20بـ20 ” إلى ” 160بـ160 ” وما بينهما، ربما كما ارتأت الجهة المنظمة للمعرض. يصفّقون له بعد كلمته المقتضبة إثر افتتاح المعرض. هكذا هم الألمان. تكون لوحاته أمام المعنيين بأمرها.
 
أنشغل بامرها، وهي مرسلة إلي. كم كنت أتمنى أن أكون ” أن نكون عائلياً هناك ” لنعيش رائحة اللوحة، فورة النفَس الفني، لنتفاعل مع مخيالات اللون والخط، مع الأشكال وهي ترينا فضاءاتها، بطريقة واهبها: مهيار.
 
لمهيار، أسلوب، أو ما يشبه الأسلوب الذي يشير إليه. تعبّر الألوان ومجتمعها، وعلاقات خطوطها، وبساطة المرئي فيها، وعمق المرئي وهو في شفافيته، عما وراء الهادىء، عما يختلج في الداخل. ربما كل لوحة معبَر لبحر إيجه، برزخ يمتد، وبأبعاد متفاوتة بين عالمين، عالم يعيشه مهيار، وعالم محلوم به، وهو عالم يغامر من أجله، وعليه يوقّع باسمه الفني .
 
ومن المؤكد، كما يعلم من له صلة قربى معينة بالفن البصري، بشئون اللوحة ومتغيراتها: من التسمية المقدَّمة، ومساراتها المختلفة كثيرة، حيث بات اللاعنوان عنواناً، تحدياً مضاعفاً يواجَه به المتفرج، أو حتى ” أهل الاختصاص “، وآفاق اللوحة في اللون، الخط، ومن ثم المودَع داخلها، ومغزى الحجم” من يقرّر أبعاد اللوحة، وتبعاً لأي تصور يأتي ذلك؟ فنكون إزاء سلطة السوق، أو سمسار اللوحة، والمشتري المرتقب، وتحولات الأذواق…الخ ” من المؤكد أن ليس من إقرار بقاعدة، تكون قاعدة محل مراعاة من قبل المتعامل مع اللوحة، وتحديداً، إذا تموقعت في عالم من الرموز” هل بات للتصنيف المقدَّم للفن من قيمة أو أثر يعوَّل عليه: فن تجريدي، تكعيبي، وحشي، انطباعي، واقعي تعبيري، سريالي…الخ”. كيف تسمّى اللوحة ومجتمعها، يهدى إليها، يجري التعامل معها؟ هل دخلت اللوحة عالم ما بعد العولمة؟ أن يكون لكل متتابع عولمته الخاصة وما بعدها. مرجعيته الذاتية في تقويم المرئي، ومضاعفة أعباء ناقد الفن ؟
 
فيما قدَّم مهيار، ثمة مراتب، إنما ثمة الفن، حيث الحراك الدلالي للون وتفاعلاته، وإشاراته، وفتنة المرئي، تعلمنا بوجود مؤثرات نفسية، لا تخفي ذاتيتها، وقد أصبحت خارجية. ليس من لون حيادي، ليس من ضربة فرشاة حياتية، ليس من حركة متخيل مجذّرة في بنية اللوحة، تكون حيادية بدورها. مهيار يرسم العالم الذي لا يعرفه بطريقته، فحسب، وإنما ما ينبغي أن يعرفه الآخرون فيه، فيكون الرصيد الاعتباري، على قدْر حالة الاستقطاب، وما يصله بالغد، بالتفاعلي فنياً.
 
على سبيل المثال، ليس من السهل نسيان دمغات الوجوه في لوحاته، حتى لو تراءات دونها. فعالم اللوحة وجهي، إنها الواجهة التي تمضي بنا إلى جسد رسام ومرسوم، إلى جسد يقول أكثر من شيء، فالفن عالم وجِهي، حتى وهو يحمل كليانية الجسد، أي على قدّر ما يعطي المرئي ما ليس محاطاً به، ما يفجّر أسئلة الكامن في العمق، على قدر ما تلوح في الأفق المقدر للوحة وجوه تلو وجوه، تتناسل طي كل حركة، إيماءة، وضعية لون، درجة صفائه أو غموضه، مثلاً. حيث تكون حيواته، حيوات من التقاهم، ومن تفكَّرهم بمفكرة اللون واستطاعات الملونة.
 
كما لو أن الفنان يقول: لا تسألوني عما أعيشه حين أرسم بالطريقة هذه أو تلك، لا تسألوني عن اللوحة، إنما انخرطوا في لعبتها اللونية، فأنا كفنان يعيش مخاض اللون والحركة والنهاية المفترضة، غيره لحظة الانتهاء، غيره لحظة السؤال عنها.
الفن يتعدى الإجابات، لأنه الفن، ببساطة، كما لو أن السؤال الواحد نفسه يتحول إلى أكثر من جنس ونوع، أن اللون المرئي الواحد ” الأزرق بتداعياته، مثلاً ” أكثر من كونه الأزرق اللصيق بجسم معين، أكثر من كونه ” اللون البارد “، إذ ما الذي صيَّره بهذه الحيوية، دون وجود حرارة فاعلة في تشكيله. فالنهر لا يحتكم إلى جريانه، إنما عمقه قبل كل شيء.
 
وأن نتلمس شفافية في المرئي، بساطة في طرح الموجود، كما في نماذج معروضة، فليس لوجود البسيط، وإنما لأن عمقاً، لا بد أن يكون العراب الكبير والفاعل في إظهار ما يبدو بسيطاً وشفافاً. هنا تكون المعادلة صعبة .
ما تتقدم به لوحات مهيار، هواجس كائن يشتعل من الداخل، وكأن المرئي برودة الهواء بعد عمليات معالجة للداخل.
ما ضمنته لوحات مهيار، هو هذه الانعطافة الأثرية للون، لكيفية ” قيادة ” الريشة، ونثر اللون في تربة اللوحة، وهو ما يخرجه من المحلية الذاتية التي يعرَف بها، إلى جهات المتفرج، حيث العين تقيم حواراً مع المرئي، وتنتشي به.
ما أردت قوله، فيما كتبته، ليس تسطير مقال باسم النقد ” الخالص ” إنما ما يكون خلطة بين الحالتين، بين كوني الوالد الذي يحتفي عن بعد بما أثمرته مخيلة مهيار الابن الصاعد بريشته، وكوني الذواقة لهذا المطروح عبر لوحاته.
لا أخفي هنا حرارة ضاجة بأكثر من عالم حدودي، حيث وحدي أكتب بصمت، وداخلي ضوضاء جهات، كما لو أن الذي أردته في المحصّلة، أن يكون المدوّن بساط ريح روحياً، يحملني وكل أفراد العائلة المتبقين، على وقْع انفجارات الحدث السوري، والحدث الكردي ذي العلامة الفارقة، إلى حيث يقيم مهيار وعائلته، لنوهم أنفسنا أننا كما كنا ذات يوم…؟!
 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…