هيثم هورو
-١ –
نزحت عائلة مؤلفة من الوالدين وسبع أولاد جراء الحرب القذرة من حلب إلى قريتها ، وهنا ذاقت العائلة بؤس الفقر وشظف الحياة بعد انقطاع الاب من عمله في حلب ، فأرسل الاب مضطراً اثنين من صبيانه إلى تركيا سعياً لتخفيف وطأة وكابوس العدم .
لكن بعد مرور خمس سنوات من عمر النزوح القسري من حلب إلى القرية وقبل أن تدور المعركة في قرى عفرين بفترة زمنية ضيقة عادت الام برفقة صبي وبنتين إلى حلب مضطرة بسبب تدهور حالتها الصحية ومراجعة الأخصائيين في الأمراض الداخلية او لربما النفسية ولا احد من سكان القرية يعرف الدقة.
بعد مضي اسبوع من تواجد الام في مدينة حلب بدأت الحرب على مدينة عفرين ، ارادت الام العودة إلى قريتها ، لكن للاسف أصبح جميع الطرق المؤدية إلى عفرين مسدودةً جراء المعركة ، فشعر جميع اهل المنطقة بالذعر والخوف ، وهكذا بقيت الام في المدينة تعتريها خيبة الأمل ويأكلها الحزن ، أما الاب والصّبيان نزحوا من قريتهم واتجهوا صوب المناطق المجاورة لمدينة عفرين هرباً من جحيم الحرب حيث اقتربوا الى أطراف مدينة حلب تمهيداً بالدخول إليها والالتحام بعائلته العالقة فيها ، لكن للاسف كانت هناك ايضاً دوريات وحراسة مشددة تمنع دخول النازحين الى حلب ولاسباب مجهولة لا يدريها احد .
بيد أنّ قام الاب رغم ذلك بمحاولات متعددة عن طريق المهربين بالدخول إلى حلب الشهباء ، لكن كل مساعيه باءت بالفشل الذريع ، وهكذا انقسمت العائلة الى عائلتين غصباً عن إرادتها .
-٢-
بعد مضي ستة أشهر من وجود الاب في تلك المنطقة المكتظة من النازحين ، اصدرت الادارة هناك قراراً مفاده بأن يسمح لهم بزيارة ذويهم وذلك بعد منحهم بطاقة إذن مؤقت والعودة إلى حلب ثانيةً ، حيث استفادت الام من هذه – المنحة الانسانية ! – ثم زارت مع اطفالها الصغار زوجها في – امارة أخرى ! –
وعند اللقاء الأول عمت فرحة لا توصف قلوبهم وبدأت الدموع تذرف من عيونهم تارةً من البهجة والسرور وتارةً أخرى من ذكريات الايام الرذيلة ، وإذا ما تلتفت العائلة يميناً و يساراً وقطرات الدموع لم تجف على اخاديدهم .
قرعت بطاقة المأذونية جرساً مخيفاً هذت أبدان أفراد العائلة تلعثمت ألسنتهم حزناً وألما من الفراق القسري وتشتت الأسرة إلى ثلاثة كرهاً ( استانبول _ حلب _ الإمارة الجديدة _ ! ) .
لكن الطامة الكبرى كانت أثناء فراق العائلة عندما بكت الطفلة الصغيرة جوليا وهي أخر العنقود ولا يتجاوز عمرها أربع فصول ربيعية .
ثم بدأت تشد ذيل معطف ابيها إلى الخلف احتجاجاً على عودته الظالمة ولكن الألم لا يزال يعصر قلب الوالد ثم بدأت تنهمر العبرات من عينيه على وجه طفلته وهو يردد غاضباً ( _ العين بصيرة واليد قصيرة _ ) (_ العين بصيرة واليد قصيرة _ ) ويطلق زفرات الأسى وألم الفراق قائلاً لطفلته وهو مشكوكاً بوعده سأعود إليكم يا عزيزتي .
بيد أنّ احاسيس الطفلة جوليا كانت اقوى من الوعود المشكوكة بها دامت هذه فترة ليست وجيزة إلى أن طرق بكاء وعويل جوليا مسامع احد الحراس وحماة الطرق المؤدية إلى حلب ثم هرول مسرعاً إلى مكان الاصوات الصاخبة ومتسائلاً بغضب شديد ماذا يجري معكم ؟ هل جرح أحدكم برصاصة طائشة؟ فأجابت الام لا يا اخي الكريم لكن طفلتنا أصيبت برصاصة الفراق والغربة فأجاب الحارس بدم بارد قائلاً ! في يوم من الأيام ستعودون إلى مدينتكم الفاضلة اما نحن ملتزمون بقرارات سلطاتنا العليا وبعد اخذٍ ورد ودون جدوى احتضنت الام جوليا خشيةً من تمردها وعويلها ، وودعت رفيق العمر والاولاد المرافقين ، ثم بدأت غيمة سوداء تقتحم قلوب أفراد العائلة الفقيرة التي لا حول لها ولا قوة ، قامت الام بفتح ذراعيها إلى السماء متضرعةً وتقول يا إلهي ! انت أرحم الراحمين ، وهكذا بقيت الام والطفلة ضائعةً تائهةً على كف اللاعبين بالشطرنج السياسي ظلت تردد وتقول يا إلهي !
_اية لعنة تطاردنا والناس الأبرياء؟
_ يا إلهي لماذا هذا الصمت ؟
_اما جوليا المسكينة كانت تتسائل في اعماقها كثيراً وتجول في خاطرها افكاراً متشعبةً متناقضةً لا يعرفها إلا الله والرؤساء ؟؟