وهي طريقة في الكتابة تأثرت بالسوريالية التي كانت حركةً شَهِدَتْ تحوّلاتٍ هامَّةً في أعقاب الحرب العالمية الأولى مذ رفع مؤسسوها شعار تحرير الفن من السلطات التي تَكبَحُه، ومن المعيقات التي تحدُّ من حرية الإبداع، بحسب قولهم.
تقويضُ النظامِ اللغويِّ الذي تستـندُ إليه كثيرٌ من النتاجات الـمُسَمّاةِ بــ(الشعر العربي الحديث)، أو (قصيدة النثر) يقوم على مبدأٍ يَـنفي قيمةَ معاييرَ وقواعدَ رأى أصحابُ تلك النتاجات أنها تَـحدُّ ممّا يسميها بعضُهم بـ”الحرية المطْلَقة” التي اختلط مفهومُها لديهم بين الحرية بالمفهوم السياسي أو القانوني والحقوقي وبين الحرية بمفهومها اللغوي الذي صار يعني في كتاباتهم اختراقَ منظومةِ اللغةِ وخلخلةَ تماسكِها وترابطها وانعدامَ الانسجام بين مكوناتها ومستوياتها العميقة والسَّطحية.
تَـضمُّ الرِّيادة العربية في الحداثة الشعرية أسماءَ عديدةً أثبت أصحابُها حضورَهم في ساحة الشعر العربي الحديث، من أمثال (أنسي الحاج، شوقي أبي شقرا، أدونيس، يوسف الخال، عصام محفوظ، عبد القادر الجنابي) وآخرين، خاصة في إطار مجلة (شعر) التي حققت بعض أهدافها في بَلْوَرة مفاهيم هذا الاتجاه في الكتابة الشعرية التي لم يَرْقَ قسمٌ منها إلى مستوى القَبول لغوياً، معرفياً، فنياً وجمالياً، ولم ترتقِ بمستوى الإبداع ارتقاءً يجذِب القرّاء ويشدّ انتباههم، إلا في أطر ضيقة لا تتجاوز إطار مجاملات بعيدة عن النقد الموضوعي والتحليل الدقيق ومعزولةٍ عن الأحكام النقديةِ المشفوعةِ بأدلةٍ مقنعةٍ.
فُهِمَ من كتابات بعض أولئك الروّاد، على امتدادِ أكثرَ من أربعة عقود، بدءاً من نهاية خمسينيات القَرن العشرينَ، وممن قلَّدهم وسار على نهجهم، أنَّ القدرة الشعرية للكلمات تكون أكبر “كلما بدتْ مجّانية أو أكثر قدرة على الإثارة للوهلة الأولى”[1]، وفُهِمَ من جمالية الشعر أنها تعني إزالة صفة الواقعية عن اللغة، وكأن تجريدَ التراكيبِ من دلالاتها وإخراجَ اللغةِ من أنظمتها وإخضاعَ أبنيتها لسِمَات الفوضى، الاضطراب، التشوُّش، التشويش وعدم الانتظام هو الحل الأمثل لخلق شعرية حديثة، وهي شعريةٌ تمثل فيها انقطاع الصلة / التواصل بين الشاعر والقارئ، انقطاعاً احتفى به اتجاهٌ في الحداثة الشعرية العربية نحا نحوَ إفراغِ اللغة من طاقاتها التعبيريةِ ومقوماتِها الدَّلالية، من مبدأ أن ذلك التقويض كَفِيلٌ بخلق الدهشة لدى القارئ، تمييزاً لها عن لغة الكلام العادي.
هذا التوجه في كتابة الشعر صار يعني إحداثَ الخللِ في الأنظمة اللغوية بـحُجّة “تجاوزِ المعيارية التي تكبح الإبداع” و”تحدّ الحريةَ المطلقةَ” كما يقولون، وهو تجاوزٌ فُهِمَ منه الإغراقُ في التشويشِ على الرسالة اللغوية وتهميشُ القواعدِ التي تُعين على نجاح وصول / إيصال مضمون تلك الرسالة، متوسِّلةً بالكتابة الآلية التي ربطوها بالدهشة، المفاجأة، المفارقات الأحلام والتداعيات، حيث فسحتْ هذه الطريقةُ في الكتابة مجالاً أمام نوع من الكتابة غَفَلَ عن دور القارئ بصفته “شريكاً” في العملية الإبداعية وإعادةِ إنتاجها بالقراءة القائمة على الفهم والمتعة على حدٍّ سواء.
“الحرية المطلقة” التي نادى بها مَنْ سَلكوا هذه النهج في الكتابة، هي حرية شاملة لا استثناء فيها، حيث لا تخرج اللغة عن إطارها، فها هو عبد القادر الجنابي يقول: “موهبتي تكمن في جهلي التام بالنحو”[2] سعياً منه إلى التمرد على اللغة في انتظامها وأبنيتها الصرفية والنحوية التي تختلّ الرسالةُ الشعرية/ اللغوية بدونها. وتجسيداً لتمرّده قال هذا الشاعر في مقطوعة له بعنوان (فخفخة الحروف):
“هكذا أفطم الطفل
نتف شعره وليل نهاره
إذ في فجرة البكاء
بأبأ الناس
وتفتى كطائر أخطب
فأشخصت ذكراه
وعندما فسّق المفردات
جاعلاً هواجرها تتضرم،
قالوا عنه:
صوّد شيّن
ظيّا وغيّن
وإذّاك كوّف ونوّن
ولوّم وموّم
وتيّأ بقدر ما جيّم
وثيّا وذوّل
وإن كثكث
قالوا عنه: سيّن)”[3].
كانت غاية روّاد الحداثة الشعرية العربية بلوغَ “الحرية المطلقة” في الحياة والفنّ والشعر، تأثراً بالسوريالية التي جذبتهم نحو أساليبها وطرائق صوغها، وأغْرَتْهم بإمكاناتها التي أُعجبوا بها وتحمّسوا لها، فمهّدوا لها منذ خمسينيات القرن العشرين.
يرى بعضهم أن “هذه اللغة المتناقضة، سبيلنا إلى الانغراس في العالم، هي امتداد للحلم الذي، إن لم يكن كل حياتنا، فهو الجزء الأكثر حضوراً فيها والأكثر تعبيراً عن حقائقها التي يشوّهها الحساب والعقل، وكل أنواع القهر والقمع، خارجية كانت [أم] داخلية.. إن الحلم الذي يلعب دوراً ملكياً لدى السورياليين، يفرض مقاييسه وصوره وغرائبه، يصل مع الجنابي –[وهو أحد شعراء السوريالية العربية]- إلى الحد الذي يجهر معه “أنا حلمي”. والحلم هنا هو مشاهد الليل كما رؤى اليقظة. إنه تواصل الحالة الهادية المجنونة، الخدر والسُّكْرُ والحشيش…”[4]
هذا شوقي أبي شقرا من مؤسسي مجلة (شعر) اللبنانية، في بعض نصوصه يجسد حالة القصيدة العربية الحديثة في فوضاها وتمردها وتقويضها، قال في أحد نصوصه:
“فرس اللامبالاة يعكر المدينة
أوراقي تلبط الريشة
الشيخوخة ذبح
الحمام
السطوح ساكنة التين
الريح طويلة القامة
الزاوية القصاص، قرنفلة
الوحدة الضباب ضعيف النظر
القطار الفقير الحافي
إلى الشغل، إلى الشغل
شركة لتنظيف ركبة العروس
من غبار الركوع
خيط صوف لشفاء الحازوقة
سقطة المعصرة”[5].
وفي نص آخر من مجموعته “لا تأخذ تاج فتى الهيكل” قال:
“تفاحة الخفر، يسكر الأحمر،
خطوط النحاس سواقي الخيبة
أرسل السنونو السهام
إلى المغيب،
وأقلام الطاولة حراس القصر
سلال النساء إلى الكرمة“[6].
شوقي أبي شقرا، في نصيه السابقين، يجمع بين عناصر متنافرة متناقضة، لا تعكس حالة شعرية، وهو يشبه قوله التالي:
“تمشطت جدّولة
القندول،
خشخشت سنابل حوران،
تنورة المرأة.
ليمونة صيدا مزمار الربو،
ينفخت الحذاء.
والزلّومة عتبة
الصداقة
والسنيورة شمس الغد“[7].
هذه التشكيلات اللغوية تستعصي على الفهم، لأنها لا تشي بما يفيد القراءة، بل دفعت يوسف بزي الذي حاول أن يبرّرَ للشاعر هذا الأسلوبَ باستحياء، ثم استدرك ليقول بتردد وعمومية تجنبه مواجهة اسم أثبت حضورَه في الساحة الشعرية العربية الحديثة: “لا نعتقد من وجهة نظر شخصية، أنه من المستساغ أن يتجه هذا الشعر إلى تطرفات لغوية شديدة التجريد والتقشف، كما تبدو في غالب نصوص هذا الديوان” وهويقصد ديوان “لا تأخذ تاج فتى الهيكل” لشوقي أبي شقرا.
من الانتظام إلى الفوضى
طَرأَ على الشعر العربي، منذ بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، نزعةٌ أنكرتْ على الشعرِ وظيفته التواصلية وأبعادَه المعرفية، وما يمكن أن يشتمل عليه من إحالات وقرائنَ من شأنها- إنْ توافرتْ فيه- أنْ تدعمَ القراءةَ وتَـزيدها خصوبةً وثراء، نزعةٌ استُشرِفَ من خلالها “احتمالُ موت الشعر في الاختبار”[8] الذي أُقحِمَ فيه، ولعله احتمالٌ يخصُّ نوعاً من الشعر لا الشعرَ كلَّه، حيث استنفدَ القائمون بذلك الاختبارِ جُلَّ طاقاتِهم في تجريبٍ لم يَدُمْ له النجاحُ طويلاً، لِــمَا نجمَ عنه من هُوّةٍ أحدثتْ شرخاً بين ما هو مكتوب وبين ما يتوقّعه القارئُ.
بدأت نِتاجاتٌ كثيرةٌ تَظهرُ تحت اسم (الشعر العربي الحديث)، أو (قصيدة النثر) مسيئةً استخدامَ الحريةِ التي نادى بها رُوّادُ الحداثة، بل إن بعضاً من الروادِ أنفسِهم أساؤوا استخدام تلك “الحرية” التي تحمّسوا لها، حيث عبَّر يوسفُ الخال عن نحو ذلك مُــخرِجاً شعراءَ مجلةِ (شعر) اللبنانيةِ، من حُكم تلك القضيةِ، قائلاً: “إن كتاباتٍ كثيرةً تُـنشَر على أساس أنها شعر، ولكنها في الواقع دون معنى. المسؤولية هنا ليست مسؤولية الحرية، ولا على الخروج عن الأنماط التقليدية، إنها مسؤولية الشاعر الذي يفتقر إلى الموهبة. والمسألة ليست مسألةَ حرية، يبدو أن هناك ضحالة ثقافية عند الجيل اللاحق لمجلة (شعر).. هذه الضحالةُ الثقافية هي التي تؤدي إلى انحدار مستوى الشعر”[9].
يؤكد يوسف الخال أنّ “حركة (شعر) أطلقت فكرةَ الحريةِ تلك وعممتها وفتحت العيون عليها. ليس ذنبُها إنْ كان جاء بعدها، أو حتى في وقتها من لم يعرف كيف يستفيد من تلك الحرية”[10]، وهذا يعني أن شعراءَ من الرواد أنفسِهم، في بعض اتجاهات تلك الحداثة الشعرية العربية، لم يكتفوا بإطلاق كلمة وإرادة أخرى، ليس لها معناها نفسُه، وهو ما تغفل كثير من الدراسات عن تسميته بالمجاز، ولم يكتفوا كذلك بتعمية الدلالات فحسب، بل جاوزوا ذلك إلى القول بألا يكون لها أيُّ دلالة إطلاقاً، ونفَوْا كلَّ رابطة أو قرينة تأثراً بالدادائية والسوريالية[11]، بحسَب تعبير أحدهم.
إذا كانت الحداثةُ الشعريةُ هدفتْ إلى تجسيد التمرُّد في سبيل حياة أفضل وأغنى، كما صرّح أصحاب هذا التوجُّه وأنصارُه، أو تطلّعت إلى إزالةِ القديم وتـــنْحِــيَــــتِه، أو أرادت التخلصَ من معيار انتظام اللغة وقواعدها، فإنها تحوَّلت بدورها إلى صورةٍ مُعقَّدة عن الأزمة التي يعيشها الإبداع، ومِسْخٍ عن واقع ممسوخٍ نتيجةَ الأزمات التي تَعتَوِرُه، كما أنها دخلت في شِراك الفوضى التي اتخذتها معياراً بديلاً عن ذاك الانتظام، وتحوَّلت تلك الطريقة إلى ترجمةٍ لحالة من فوضىً شهدها الواقعُ والفكرُ العربـيّان، وصارت عبئاً على القُرّاء بدلاً من أن تحمل عنهم أعباءَهم أو تخفِّف عنهم معاناتِهم، دون أن ينجح نهجُها هذا في الارتقاء بأذواق قرائها.
هدفت الحداثة الشعرية على طريقة مجلة (شعر) إلى تحرير عملية الخلق الشعري والدعوة إلى الثورة والتغيير، ورفض النماذج المسبقة وصنمية الألفاظ الشعرية، من مبدأ تخطّي المفهوم القديم للصورة وتحويلِها إلى رؤيا، والاعتماد على التداعي العَفْوي للصور والتعابير، وكشف المناطق اللاواعية من الذات[12]. كما عبّر عن ذلك أولئك الرواد.
أدونيس، في ديوانه (هذا هو اسمي)، نشر قصيدةً مُسمّاة بالعنوان نفسه، سعى إلى تجسيد تلك “الحرية المطلقة” التي نادى بها وسيلةً للتمرد والانقلاب على ما كان سائداً من أساليب الكتابة والتعبير، صارخاً في وجه “كلِّ حكمة” سابقة معلناً محوَها والانخراطَ في أمواج “شعوب اللهيب والرفض”، قائلاً:
“ماحياً كل حكمةٍ هذه ناريَ
لم تبقَ – آيةٌ – دميَ الآيةُ
هذا بدْئي
دخلتُ إلى حوضكِ أرضٌ تدور حوليَ أعضاؤكِ
نيلٌ يجري طَفَوْنا ترسّبْنا تقاطعتِ في دمي قطعَتْ
صدركِ أمواجيَ انْصَهرت لِنبْدأْ: نسيَ الحبُّ شفرَةَ الليلِ هل
أصــــــــــرخُ أنَّ الطوفان يأتي؟ لِنبْدأ: صرخةٌ تعرج المدينةَ
والناسُ مرايا تمشي إذا عبَر الملحُ التقينا هل أنتِ؟
- حبّيَ جرحٌ
جسديَ وردةٌ على الجرح لا يُقطَفُ إلا موتاً. دمي غُصُنٌ
أسلم أوراقَه استقرَّ…
هل الصخرُ جوابٌ؟ هل موتكِ السيدُ النائمُ يُغوي؟ عندي
لثديــيكِ هالاتُ وَلوعٍ لوجهكِ الطفل وجهٌ مثلهُ… أنتِ؟
أجدكِ.
وهذا لهبي ماحياً
دخلتُ إلى حوضكِ عندي مدينةٌ تحت أحزانيَ
عندي ما يجعل الغُصنَ الأخضرَ ليلاً والشمسَ عاشقةً سوداءَ
عندي…
……
……….
طار في وجهيَ نَسْرٌ قدَّستُ رائحة الفوضى
ليأت الوقتُ الحزين لتستَيْقِظْ شعوب اللهيب والرّفض
صحْرائيَ تنمو أحببتُ صفصافةً تحتارُ بُرْجاً يتيـــــهُ مِئْـــــذنةً
تهرمُ أحببتُ شاعراً صَفَّ لبنانُ عليه أمعاءَهُ في رسومٍ ومرايا
وفي تمائمَ
……
…….
سنقول الحقيقة: هذي بلادٌ
رفعت فخذَها
رايةً…
سنقول الحقيقة: ليست بلاداً
هي إصطبلنا القمريّ
هي عُكّازة السلاطين سجّادة النبيّ
…..”
هذا الكائن اللغوي يقوم على تداعياتٍ غيرِ مترابطةِ التراكيبِ، وعباراتٍ غيرِ متماسكةِ الدلالات. إنه يفتقر إلى العناصر التي يمكن الحكمُ بها على جماليته وشعريته التي عزاها بعض النقاد إلى تلك الخاصية من اللاترابط واللاتماسك واللاانسجام، وهو عزوٌ أسهمَ في ترسيخ ضربٍ من الكتابة سُمّي شعراً دون أن يكون شِعْراً، ضربٍ أقْصى دورَ القارئ، وقلَّلَ من قيمته ومستواه المعرفي، وثَــبّط فِعْلَ القراءة وفاعليتَها في إعادة إنتاج المعنى، وألْـحَــقَ بجمالية الغموض والانزياح في الشعر تشويهاً تحوّل إلى فِعْلِ إساءةٍ أفقدَ الرسالةَ اللغويةَ قِيمَها الفَنّيّة، الجَمالية والبلاغية، مما أدى إلى تغيّرِ موقف ِكثيرٍ من القرّاء ونفورِهم منه، ضربٍ من (الحداثة الشعرية) فتحَ الأبوابَ أمام مَـجّانيةٍ في الكتابة، وعبثٍ في التعبير لا تستسيغه الذائقةُ السليمةُ الباحثةُ عن الشعرية والجمالية من وراءِ النظام اللغوي.
نصٌّ لرائد آخَرَ من مؤسِّسي هذا الاتجاه التقويضيّ في الشعر الحديث، هذا الاتجاه الهَدّام لنظام اللغة، هو نصٌّ لأنسي الحاج، بعنوان “نشيد البلاد”. وهو ما علّق عليه محمد الماغوط متهكماً: “كيف لا يفهم ولا يتجاوب الجمهور مع تجربة أحدهم في بيروت، وقد وصفوه بالأنقى والأصفى والأكمل.. فاسمعوا ماذا يقول هذا الأصفى والأنقى والأكمل في بلاده”[13]:
“يا بلادي، من الأعماق لا أناديك، لم أقرأ قصتك وأتمناك رحماً أفزِّره
– خائن!
يا بلادي، أتزوجك، لأتقذر، حظك معي مبك. تجنّين كيف لا أبالي بك؛ تجنِّين حقيقة؟ رحنا الى المحلات، فـتـــنَــــتك رصاصة، هيَّجْتك ولم تُطْلقي. حقيقةً انت بلادك؟ عصفورك دخان أسود، صيّادك الخيبة تصرعه يعيى، فاتحك يكمل على كبده يعلّقه، يا بلادي مِنْ فتحِك!
– خائن!
يا بلادي، لماذا؟ لا الغد قادم ولا الأمس يرى. اصدقي. تستلفتينني باتهامي، دعارتك فراشة مُسفَّة،…يا علوق ثعلب بقط! لا اطردك، لا اتركك…أيها المني، أيها المني، أيها المني الذي أعشبه الخرَف!
– خائن!
يا بلادي. في الموت إذا استدعيتك فلرحمك، اوسّعه. اطرز ضفتيه برَوْثي لأرفع علمك عضوي، أُوهمك ذلك (مسيحي أنا) أشنعك بوهمِ أن عضوي أنت، تصدّقين وترتاح أعصابك. عضوي أنت! عضوي أنت؟
يا بلادي عضوي الليل، إنك تخذلين استهزائي. ماذا أعطيك؟
– خائن!“[14].
في التشكيلات اللغوية لنص أنسي الحاج السابق، مؤشرات تدل على خَواء لغوي، دلالي ومعرفي لا يُستشفُّ منه شيء يفيد القراءة ويُغوي القارئ لما يحيط بتلك التشكيلات من ابتذال في توظيف المفردات، ومجانية في العبارات والمعاني، وركاكة في التراكيب، وما يتسم به من تِــيه وتَشوُّش وتشويش يخرّب الذائقة، فضلاً عن الإساءة إلى النظام اللغوي الذي اضطرب في صوره الإملائية، الصرفية، التركيبية، الدلالية والمعرفية.
أراد أنسي الحاج أن يتمثّل الشعار الذي رفعه السورياليون امتداداً لشعار ماركس الأممي (ليس للعمال وطن) حيث ذهبوا إلى القول: “نحن –السورياليين- لا نحب وطننا”[15]. أو أنه أراد أن يتخذ موقفاً مماثلاً لمواقف الشعراء الذين أعلنوا في (1916-1917) في زوريخ بسويسرا أنهم “نفَوا أنفسهم عن بلادهم، يتزعمهم شاعر روماني، يدعى تريستان تزارا، حين أحسوا بأن الفناء يهدد العالم، فصمموا على مقابلة قوى الفناء بالسخرية، لكي يجعلوا منها مَضْحَكَة في أعين العالم! واختاروا كلمة وقعت عين أحدهم عليها مصادفة في القاموس، تعبر عن هزئهم: (دادا) جعلوها عنواناً لحركتهم. ولم يكن هدفهم من هذه الحركة إلا عرض السخف في عالم ضاعت فيه المعاني”[16]، هذا كان هناك، في تلك البلاد وتلك الجهة من العالم، وتلك المرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى.
إن (جمالية القبح) التي فهم الشاعر منها أن يكتفي بإيراد واستخدام الكلمات النابية التي تكتظ بها كتابات له، لم يكن (بودلير) يقصد بها هذا المنحى وهذه الوعورة والركاكة واللاترابط واللامعنى. كما فهم من الحرية استباحة كل شيء استباحة مطْلقة، حتى بلغ ادّعاء التعلق بالتداعيات والأحلام عنده حدَّ التقديس وهو الذي رأى أن الحياة الحقيقية تبدأ في المنام ورأى أن من لا يحلم لا يفعل.. والحلم هو العقل والروح والخيال، إنه الفردوس الممكن.. الحلم أولاً.. الحلم فوق الجميع.. الحلم الذي هو النبي والشاعر..[17] كما ذكرَ في مقدمة ديوانه “لن”.
سعى أنسي الحاج إلى إضاءة الجوانب المظلمة من لاوعيه دون أن تسعفه لُـــغَــــــتُـــه في تلك الإضاءة التي زادت من ظلمة تلك الجوانب وزادت من نفور القارئِ السليمِ الذائقةِ السَّوِيِّ الفهم والإدراك. أما إنْ كان يؤْمن باللاوعي والعقل الباطن والحلم والتداعيات، فإن القارئ غيرُ معنيٍّ بذلك كله ما دامت اللغة تَــحُـــوْلُ بينه وبين قارئ نصه في رسالة لغوية عويصة المسالك مبتورةِ المقاصدِ. فَخُلوُّ التراكيب من سمة الترابط والتماسك لم يحقق نقلاً سليماً للتداعيات العفوية التي عجز الشاعر عن توفير قرينةٍ أو تسويغٍ لها أو تعليل يَكشِف عن طبيعتها وروحها.
كان أنسي الحاج قد بين أنّ السوريالية جعلته أشدَّ إيماناً بالحلم والحرية كما أنه لم يُخْفِ إعجابه الشديد ببريتون (André Breton) في عمله على تثبيت مجموعة من القناعات والتوجهات العميقة لديه، وخصوصاً فيما يتعلق باللاوعي كينبوع للشعر ومادة أولية أساسية في النتاج الفني، وبالكتابة الآلية التي طالما توسّلها الحاج نحو نقل ما تعج به ذاته من أحلام وأوهام وهواجس وخيالات وشغف وتطلعات وتفجرات[18]، بحسب تعبير سَالكي هذا الـمَسْلك من الكتابة.
أصدر أنسي الحاج في عام (1960)[19] ديواناً سمّاه (لـن) عن دار (مجلة شعر)، لم يَرد في الديوان ما يوحي بقيمة دلالية مقنعةٍ تسوّغ استخدام هذا العنوان المشوب بالضبابية لمجموعة تضمنت في آخرها نصاً بعنوان «الحب والذئب/ الحب وغيري» وردت فيه كلمة (لن)، حيث جاء في المقطع الأخير منه:
“يا قشة البحر الوحيدة:
كسرتك لم اكسرْكِ
سرطاناً أُحوّل أُشنة
القاع اليّ، أذهب للباقي أضخّمه، أفتح رمشه على جسده، يـيأس،
يجنّ، ويسرع. لن.
أرخيتِني أغرق
أتعمّر على طريقتي، إرثي أبذله
وأرفعه. حكمة هذياني:
لن،
يا جدار العيون، أيها الموعود لن، يا آخر كُريّة، أنتِ هو الشلال. بك افتتح النظر وأختمه، فيك أزعق وأرقص. يا يدي على السر، يا مُطلِقتي، أيتها الـمُـطْلَقة. على الشمس لَـنْ، على صخرة اليوم الثالث، على الدم. يا زهرة الجِلد، ملايـينَ ونحن بالعضو نسقيكِ، وبالعَرَق، وها تنبتين بارتياح يا مملوءة لعنة! أغنّيكِ فلأكن رنّتك وحبّة زيتونك يا معصرة. لن!!! اخترعنا موتنا، يُرجَع موتُكَ أنت. صنعنا موتنا وطريقه، ولوناً له!
أرخيْتِني، يا قشة البحر، لم ترخيني، لا فرق. أَغرقُ فهذا هو. أغرقُ او احلِّق، او أنام. لا وِجهة لا وجهة! أُسرطِن العافية، أهتك الستر عن غد السرطان.
حرّية!“[20].
فعنوان المجموعة (لـن) لا يقدم أي إيحاء أو مؤشر يعين القارئ على اختراق الانغلاق المحْكَم لهذه المجموعة، كما أن هذا النص الذي وردت فيه كلمة (لـن)، لم يتضمن قرينة ملفوظة أو معنوية تُعِينُ على بلوغ المراد من كلمة (لن)، ومهما بذل القارئ من جهد ذهني أو تأمل، فربما لا يستطيع أن يتوصل إلى فكرة عامة واضحة أو دلالات ما.
لعل إقحام (لـن) في الفقرة المقتبسة، وعدمَ ترابطِ الكلمات، وانعدامَ الانسجام بينها، يدل على عجز في أدوات التعبير الشعري، فلا علاقةَ نصّيةً وسياقيةً تسوّغ الجمع بين “أذهب للباقي” و”أضخمه” و”أفتح رمشه على جسده” وبين “لن” التي انفصلت عن كل ما سبقها وما جاء بعدها، دون أن يعقبها فعل مضارع يفصح عن مقصد الشاعر منها. أما إذا كان المراد بـ (لن) تعبيراً رمزياً عن الإرادة التي سكنته، وكانت، من جانبها، مسكونة بالرفض[21]، فإن (لن) تفيد في نفي الفعل في المستقبل، وأما الشاعر فغايته بناء المستقبل ونفي الماضي أو الحاضر والتمرد عليهما، ومن هنا لم تكن (لن) كفيلة بتمثيل رفضه لذينك الماضي والحاضر، أو التمرد عليهما والانفصال عنهما.
هذه المجموعة الشعرية الأولى له مثلت أهم خطوة لديه في الكتابة الآلية أو اللعب بالكلمات والتراكيب. وهذا الشتات من العبارات المفككة ما كان لَــيَــقبلها القارئ، إنصافاً، لو أنها وُقِّعت باسمٍ آخرَ، لشاعرٍ لم يكتسب شرعية أنسي الحاج في ساحة الحداثة الشعرية، فالقراءة لم تنجح في إنتاج دلالة واحدة، فكيف لها بعدُ أن تنتج أكثر من دلالة بأكثر من قراءة! وعلى النحو نفسه، جاء نصُّ “مجيء النقاب” من المجموعة نفسها على النحو التالي:
“جاءت الصورة؟ لماذا تتأخر! كلا لم تجئ. لم تجئ؟ وَغْد. الشتمُ مقفَلٌ وعليّ اليباب. الضباب. الذباب. العذاب! أين؟ وراء. في الوراء. وراء الصوت. الليفة، اللُّب، الصُلب. هل اتخلّى؟ متأخر؛ ارفعُ الجلسة، اؤجّل. لم أُكلَّف. لِمَ انا؟ فليدفعوا. فلأطمحْ للصورة!
يتضارب ذهني، أحلف احيِّي وأغنِّي. اقرأ. كل شيء في الهواء؛ وأنا. الحياة سكّر مغلي، مُصْقَع. للُعابي! رُحْ على الشطّ أيها الفكر، تحلحل. الحياة ذبابة ذبابة، طاقتي عينان رياضيتان. أرفضُ العصر! لا تشدوني! آخرون آخرون. انا ظلّ، اريد هذا. مرحباً! انت أيضاً؟ ليس هناك واحد؟
السجن القبر الكروب. بؤبؤي ورأس مسمار: أغرز أُعمّق، اتوغّل. مسمارٌ على الفوز!
جاءت الصورة؟ كلا ، لم. جاءت الصورة؟ كلا، لم. جاءت الصورة؟
أجل. استرحْ”[22].
لم ينبثق عن الوحدات الداخلة في بنية النص المذكور أي انسجام أو دلالات إيحائية أو قرائن تعين على استكشاف الخصائص التي تميز هذا الصوغ اللغوي الذي لا يختلف عن أي محاولة لشاعرٍ غير متمكن من استخدام لغةٍ بهذا المستوى من الركاكة والتفكك والهلهلة، ما دام التماسكُ غيرَ ضروري، والخللُ سمةً جماليةً، وما دام المعنى أمراً ثانوياً، والمعاييرُ مرفوضةً.
ليس تقويض النظام اللغوي في الشعر طارئاً، بل كان عُمدة الشعر في المجاز والاستعارة وأساليب البيان والبديع والمعاني، لكن سلامة ذلك النظام بقيت شرطاً لا غنى عنه للحفاظ على سلامة الرسالة اللغوية في الشعر، لكن الكتابة الشعرية العربية الحديثة، منذ بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، اتخذت أنماطاً من أساليب الدادائية أو السوريالية نماذج احتذت حذوَها، في حين أن ذَيْنِكَ التيارين نبتَا، نشأا، تقهقرا واضطربا أيضاً في بيئات وظروف خاصة بها، ووفق أسْيِقَة تاريخية، فكرية، ثقافية ومعرفية لها أرضيتها الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية، ولها ظروفها، عواملها وأسبابها، وهي ظروفٌ، عواملُ وأسبابٌ لم تظهر في البيئات العربية، بصورة مماثلة لصورتها في البيئات الغربية، كما لم تُــهَــيَّأْ لها تلك الأرضية التي تناسبها في هذه البيئات ذات الخصوصية والتَّمَيُّز.
إن تجريد الشعر من إعمال العقل فيه أو إعماله في العقل دعوى جوفاء، لأن في ذلك إقصاءً لعامل الإفهام والفَهْم، وهو إقصاء يتحول به الشعر إلى خطابٍ خاوٍ من الفائدة وخالٍ من المتعة، حيث يَفْقِد قيمتَه ما لم يكن مترابطاً، متماسكاً ومشحوناً بدَلالاتٍ يقوم عليها وبنىً تعبيريةٍ تؤدّي رسالةً لغويةً ذاتَ مغزىً. وقَبْلَ أن يكون الشعر موضوعاً جمالياً، هو موضوع لغويٌّ، وهو من هذه الوجهة يشترط صون النظام اللغوي بصفته عنصراً جوهرياً في بنية النص.
انشغل أنسي الحاج كبعض من مجايليه بآلية الكتابة الشعرية، وغفل عن آلية التلقي بعد إنجاز الرسالة الشعرية التي طغى عليها الاضطراب والتشتت لما فيها من نقل لحالات نفسية، ادُّعي أن اللغة كانت عاجزة عن ترجمتها وفق منطق اللغة وأنظمتها، سعياً إلى ممارسة الحرية التي رأى الحاج أن الكتابة تتماهى بها[23]. وهي تجسيد لمقولة السورياليين التي ترى أن “هناك نقطة تتطابق فيها القصيدة مع الحلم والآلية وتختلط بهما”[24].
ولأن نصوصاً كثيرة كتبت بهذه الطريقة، فإن القراء ابتعدوا عنها أو رأوا فيها ضروباً من هذيانات، وتجريب أسيء استخدامه، أو أساء إلى الشعر بهذه الطريقة التي أشعرت القارئ أنه لا يدرك العمق الشعريَّ لنصوصٍ تفوقُ معارفَه، ولأن الشاعر جعل من “الحرية المطْلَقة” نهجاً له فإنه أسس على ضوء هذه الحرية نصوصاً تنحو نحو اللاواقعية التي اتخذها عُمدةَ (قصيدته)، وأساس العملية الإبداعية، وهو الذي رأى في اللاواقعية قدرة على خَلْقِ الدَّهْشة والمفاجأة. ومثال ذلك قوله في نص بعنوان:”صِيَاحٌ يَقف وَيركُض”:
“إِنهم يحيونني ويتركونني تحت وطأة العذر، لكنهم لا يعلمون. إنهم يبتسمون ويعزفون حواجبهم على تعاستي، ولا أنت يعلم. أنت اسطوانة من الوعظ الضائع. لا تنقّ، قد اعضّك (عفوك). عندما تتكلم أتفتت كلدى نغم حزينٍ متراجع. (…)
ديكٌ يضايقني.
نطالبك بالحل اسرعْ، لم تحجزها؟ أينما كان يمرّون كالركض فلِمَ تتباطأ؟ (…)
بدون أن تعلم افتضُّك
يا أبي.
فاحفظْ فرجك إليتك بيضتيك
من حبي
إنسَهُ. سمعتَ هذا؟ إحرقْه.. (…)
إذا تخوفتَ فاقرصها (لحمها
سوف يستزيدك
لك الحرية.
عرَّها، وألصقها بك.
وارجعها لي.) اعنّي… (…)
ردها لي، انحشرَ أكثر فأكثر في لحم أظافر قدميك، أيها البغل!
لا لا لا، غفرانك
بل،
أيها البغل!
آهِ كلا! هل سمعت أيضاً؟ أهْذي، ترفَّقْ بي، أوصلني! قل لها فلتسكــتــه.
لم اؤذها.
لستُ أراه، أهي تراه؟ وأنت؟ لعلك تعرفه.
أن تسكته. اول شيء: تسكته. تصوَّر: يقف ويركض، يسيّجني، ثم يدخل، يخرج ويتسلَّقني. لم استحقه.
يركبني، أيها الكاهن..
لا!
بلى،
أيها البغل!
ما عقابك؟ لا أنت لا أحد..(…)”[25].
الدلالة ليست كالمعنى وليدةَ اللفظة، إنما يخلقها السياق، وإذا كان المعنى يلازم المفردة، فإن الدلالة تلازم التركيب، وهذا النص لا يقدم مؤشراتٍ لملابسات تتعلق بالحدث الكلامي المكوِّن له. فالانتقال بين مستوى الكلمات/ المفردات وبين مستوى التراكيب/ الجمل، كَشَفَ بالتحليل الدَّلالي أن الوحداتِ الداخلةَ في هذه البنيةِ مخلخلةٌ غيرُ مُستساغَةٍ، و لعل هذه الطريقة في الكتابة هي “الحرية” التي نادى بها الشاعر في مقدمة ديوانه (لن) ليثبت أن الشعر ليس له “لسان جاهز” كما قال، وأن “قصيدة النثر” ليس لها “قانون أبدي”.
هذه هي اللغةُ التي رآها الشاعرُ “جديدة” كما وصفها، ولا يفهمُها معاصروه ولا يفهمُها القُرّاء والنقّاد بعد مرور أكثر من نصف قرن من السنين على تدوينها، هي اللغةُ التي رآها تستوعب “موقفه الجديد”، اللغةُ التي “تختصر كل شيء”[26] ومثال هذه (اللغة الجديدة) في (قصيدة) بعنوان: “فقّاعة الأصل أو القصيدة المارقة”، يقول فيها:
“شارلوت على الاصبع تندفع بيضاء وحدها حيث يتخثر الفحم وَيْعرق، حيث تصير الفواكه.
وسأروي حكايتي. ففي أحد الأيام نمت وحينما نمت أيضاً كان المطر يحقق في الأرض وظللت أبكي حتى نام المطر فقمت إلى الحمّام ولاحظت ظاهرة غريبة. كنت ما أزال متوارياً وكنت سأخرج من الحمام طبيعياً ومألوفاً لولا شارلوت. كانت تخرج من اصبعي بجهد ونعمومة؛ حاولتُ ان أساعدها لكنها سريعة العطب وسَرعان ما ايقنتُ انها سريعة العطب فمضيتُ إلى العمل ونسيِت. في العمل كان لا بد ان ادخل إلى المرحاض حيث اتبحّر في الخليقة دائماً وكالمعتاد سرّحتُ نظري في يدي وأنا أبذل ذاتي فلاحظت شارلوت مرتاحة، ونظرتُ فيها عن كثب فالفيتها تنظر اليّ فاقتربتُ منها فاقتربتْ هي أيضاً ثم اكببت عليها حتى آلمني بصري وفجأةً تنبّهتُ ان شيئاً أهملتُ ادخاله فأدخلتُه ثم عدت الى اهتمامي وما زلتُ حتى فضضت سرَّ هذا المغلق. (…)
ثم قالت:
المشكلة التي تثار في هذا المجال هي أن القارئ يظل متَّهَماً بالقصور، أو أنه يكاد يَــتَّــهِمُ نفسَه بذلك، وأن النصَّ يؤخذُ به مُسَلَّماً بشعريته، كما أن المتحمسين لترسيخ هذا الاتهام الموجَّه إلى القارئ يوارون تعمية الدلالات بستار الغموض، ويترجمون فوضى التعبير بالتمنع، والـهَلْهَلَة بالإيحاء والآلية، أو بالحرية الإبداعية. وقد أشار محمد الماغوط إلى تلك الخاصية متعدِّدَةِ الجوانبِ مشيراً إلى أن الجمهور رفض كثيراً من تجارب مجلة (شعر)، قائلاً: “فطبيعي أن يرفضها الجمهور بعد ذلك، ويسخر منها، و(يقرف) لأنه لا يفهم كلمة واحدة مما يقولون، وكأنها مكتوبة بالسنسكريتية.. فيُجَنُّ جنونُـهم، ويشرعون به تنكيلاً واتهاماً بالضعف والجهل والتأخر وعدم الانفتاح، لأنه لم يفهم عظَمةَ تجاربهم، وأزماتهم النفسية والمالية في شوارع باريس ولندن ونيويورك وأزقاتها…المعتمة”[45].
في الإطار ذاتِه قال أحمد عبد المعطي حجازي إن “الإيغال أو المبالغة في البحث عن لغة شعرية سَــبَبٌ أساسٌ في انصراف الجمهور عن الشِّعر، لأن الشعر يكتب باللغة التي نــتحدث بها، هذه خاصية من خصائص هذا الفن.. وأن معظم الشعراء يستخدمون الآن لغة لا يفهمونها هم أنفسُهم، وذلك كي يقال عنهم إنهم عباقرة”[46]، واشترط النقّادُ الفهمَ بوصفه أهمَّ خطوة تلازم القراءة، لأن الإنسان يقرأ “لِـــيَـــفْهمَ، ويفهمُ ليكون له رأيٌ في ما يقرأُ”[47]، وبذلك لا تكون الشكوى صادرةً عن القرّاء فحَسْب، بل عن شعراءَ وأدباءَ لهم تاريخهم في الإبداع والكتابة.
بات من المسلمات أن العلامة اللغوية تدخل في علاقات تنتج عنها دلالات، وأن نفي هذه السمةِ عنها يعني نفياً لقنواتِ التواصل وآلياتِ الفهم والإفهام، وهو ما تحمّس له تيارٌ تذّرع بأن الشعر “مثل الموسيقا” وأنه “ليس مصنوعاً كي يُفهم بالعقل” وإنما يجب على المتلقي أن “يجلس ويدخل في جوّه” دون حاجة إلى فَهمه، بحسب تعبير نسبه يوسف الخال إلى (ت. س. إليوت)[48]، متناسين أن الموسيقا أيضاً لها قواعدُها وأصولُـها، حتى تتميّز عن الضوضاءِ، الصَّخبِ والنَّشاز.
إذا كان الشعر فناً شبيهاً بالموسيقا، فإن كلاً منهما ينتمي إلى نظام علامي مختلف عن النظام العلامِيِّ للآخَـر؛ فالشعر يخضع للنظام اللغوي الذي يستدعي الفهمَ، والذي اعتَبرَهُ بعضٌ سِجناً لا بدَّ من الانعتاق من قيوده. لكن حُجَّة التحرر من قيود النظام اللغويِّ ومعياريته لم تخلّص هذا الشعر من الوقوع في شِراك محاكاةِ نماذجَ ابتدعها غربيّون لهم ظروفهم وطرائقُ تفكيرهم الذي يساير أحوال التطور الاجتماعي، الاقتصادي، السياسي، الفكريّ، الثقافيّ والمعرفيّ عندهم، وهي نماذجُ لا ضير في محاكاتها وفق الشروط التي منحت تلك النماذجَ شرعيتَها في ظروفها الزمانية والمكانية الغربية، وتأثر بها من تلقَّفها من الشعراء واعتقد بها واتخذها مثالاً يُــحتذى به. التحرر المقصود هنا، لم يحرّز هذا الشعر من التِّــيهِ في مسالك انعدامِ الضوابط.
أما محمد الماغوط فقد تحدث عن تجارب شعرية نَحَتْ مَنحى المعميّات، وكان يقصد بها تجارب شعراء خرجوا من (معطف) مجلة (شعر) وعُدُّوا رُوّاداً للحداثة الشعرية العربية، وأنجبت تجاربُهم ما أنجبت من نماذجَ نعَتَها بأنها “رديئة لا علاقة لها بالشعر”، وقد قال الماغوط في تلك التجارب بأن “خريجي جامعات الأزهر والسوربون وهارفرد، لا يفهمون شيئاً مما يكتبون”[49].
يوحي قول الماغوط بأهمية الفَهْم في عملية الإقبال على الشِّعر واستقبالِه، ليكون الفهم إحدى خطوات التقريب والتقارب بين الشعر وقُرّائه، يقيناً منه أن المعنى هو الذي يمنح الكلماتِ طاقاتِها، وبدونه تتحول الكلمات إلى أصوات فحسب[50]، على حد تعبير الدكتور نعيم اليافي الذي يذكِّر بقول عبد القاهر الجرجاني بأن “لفظاً لا يدل على معنى هو كالضوضاء سواء بسواء”[51] وهذا ما يبيح نعت النصوص المفتقرة إلى الدّلالات بأنها مجردة من الشعرية، وأنها تتسم بضروب من الخَواء، وهو نفسُه ما عبّر عنه أدونيس بأن “المغمض هو قوام الرغبة بالمعرفة، ولذلك هو قوام الشعر. إلا أن المغمض يفقِد هذه الخاصية، حين يكون دلالة لتعميات مفرطة و[أحاجٍ] نفسية. هناك مغمض ناتج عن أن الشاعر عاجز عن التعبير عنه بالكلمات، وتكون القصيدة في هذه الحالة تعني أكثر مما يقوى الكلام على نقله. وهناك مغمض ناتج عن العبث في القصيدة وعن لامعناها…”[52].
خاتمة
إذا كانت مادةُ الشعر هي اللغةَ، واللغةُ أداةٌ للتواصل، فلا بد ألاّ يُهمَلَ مضمونُ هذه الأداةِ، ولا تَفْسُدَ الرسالةُ التي تحملُها، ولا تُشوَّهَ الطريقةُ التي تَـندرجُ فيها لتُشكّل النصَّ بما يشتمل عليها من قِيَمٍ معرفيةٍ وثقافية تمثِّلُ جوهرَ الخطابِ اللغويّ، الشِّعريِّ وغير الشعريّ، وتمثّل شِعرِيَّــــــــتَه وجمالِيَّــــتَه أيضاً.
وعندما يعجز النصُّ عن تلك الوظيفة في صون الرسالة اللغوية من الفساد، فإنه يَفقِد قدرته على تحقيق الدَّلالات وإنتاجها وتوصيلها، بل يتعرض لانفصام بين المستويين السطحي والعميق، بين التركيب والدلالة، بين ما يريده الشاعر وما يستخدمه من ألفاظ وأساليب، بين ما يقوله الشاعر وما يتلقاه القارئ، حتى نتج عن ذلك فوضىً تعددت صورها ما بين انعدام الدّلالات وغياب مقاصد الشاعر، في صورة عبثٍ لغويٍّ تمثلتْ فيه أزمةُ الشعر العربي الحديث، وأزمةُ اللغةِ المستخدَمةِ في قِسمٍ من هذا الشِّعْرِ، وأزمةُ الأسلوب والتعبير، وهي أزمات ليست من جوهر اللغة العربية نفسِها بقدر ما هي متعلقة بمن يستخدمها بهذه الطريقة أو غيرها.