( السَّيِّء الصِّيت يا أمّي )

خالد إبراهيم
فِي كُل مجالات الْحَيَاة هناكَ مَنْ لَا يُتَقَبَّلَ الْآخَر ، و مَنْ تَعَوَّدَ عَلَى مَبْدَأ أَنْ لَا أَحَدَ غَيْرَهُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةَ ، حتماً يُوضحُ أَنَّهُ لَمْ يَحْظَى بطرفٍ أَقْوَى مِنْهُ ، و مِن شَخْصِيَّتُه و مِن الْبَدِيهِيّ سَيَبْقَى فِي مَتاهَة الْخَوْف ! !
نَكْتَفِي بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الِاحْتِرَام الْمُتبَادَل بَيْنَ الشُّعُوب
مِن حَقِّ الْجَمِيعِ إنْ يَتَذَكَّرَ مَاضِيَه :
حارتهِ ، أَصْدِقائِه ، الْبَرَاءَة ، الصِّدْق ، الْوَفَاء ، فَقْرِه ، حُزْنِه ، حِرْمَانِه ، آلامهِ ، قَهَرَه ، نُسِب الْأَهْلِ وَ المِّلة ، مَوْقِفُ الباص ، الْمَدْرَسَة ، الحَدِيقَة ، الوَرْدَة الْحَمْرَاء ، و الْكِتَاب ، و رقصات الْقَلْب ، و الحلمُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ! !
إلَّا أنتَ فعليكَ الْقِصَاص ، رُبَّمَا لِأَنّ ماضيكَ متسخ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ لِجَلْب السُّلّ و الأيدز لِمَن حولكَ ربما دَمَّر وَطَن ، رُبَّمَا ولدتَ فِي كرخانةٍ مَهْجُورَةٍ ، رُبَّمَا لأنكَ ضاجعت الْمُسْتَقْبَل قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ .
هَكَذَا هُمْ أَصْحَابُ الْحَظّ السَّيِّء ، أَنْ تَنْكَشِفَ جَمِيع عَوْرَاتِك لِلنَّاس ، وَيَبْدَأُ مِنْ هَبَّ وَدَبَّ بلدغكَ بِمُناسَبَة وَدُونَهَا ، وَتَبْقَى مِثل العَجِينَة الَّتِي يلزقونها عَلَى الْجُدْرَانِ مَتَى شاؤوا ، هَكَذَا هُوَ قدركَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ السَّيِّء الصِّيت ، عليكَ عَدَمُ التَّفْكِيرِ بِأَيِّ شَيْءٍ يُعَكِّر مزاجية مِن حولكَ ، عَلَيْك التَّفْكِير فَقَط كَيْف لكَ أَن تَسْعَد غيركَ ، عليكَ الْحَذَر ، وَيَجِبُ أَنْ تُحاسب فِي كُلِ كلمةٍ تسقطُ مِن فمكِ حَتَّى إنَّ كَانَتْ سَهْوًا ، لَا عليكَ مِن أَيِّ شَيْءٍ ، لَا يَجِبُ أَنْ تَفَكَّر بِالْمُسْتَقْبَل ، فِكْر بِاللَّحْظَة الَّتِي تَكُونُ فِيهَا مَعَ مَنْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ سعيداً حَتَّى وَ أَن كنتَ فِي أَسْوَأ حالاتكَ .
جَمِيعِهِم أَنْبِيَاء ، رُبَّمَا لَا يَعْتَرِفُونَ بِالْأَنْبِيَاء أيضاً ، الْجَمِيعُ مِنْ حَوْلِكَ لَم يخطأ بِحَيَاتِه ، كَانُوا و لَا زَالُوا يُوزَعُون صكوك الْأَخْلَاقِ وَ الْحِشْمَة و الشَّرَف ، لِذَلِك يَتَوَجَّب عليكَ و عَلَى أَمْثَالَكَ الملاعين ، دفنُ رُؤُوسَكُم و قَلَع أَعْيُنِكُم ، وَرَبْط أَلْسِنَتُكُم ، و أحزمتكم ، و أَن تخرسوا ، و أَنْ تَأْكُلُوا حَتَّى الْأَشْيَاء الْمُثَلِّجَة ، و أَن تدهنوا و جوهكم بالزبدة ، والثومِ ، و الْبَصَلِ ، الجِرْجِيرِ ، وَالنَّعْنَاعِ المجفف .
مَمْنُوعٌ عليكَ أَن تَتَذَكَّر أَيِّ شَيْءٍ يُعَكِّر صَفْوَة هَؤُلَاء النَّاس ، لأنكَ نَكِرَة ، وَتَجَاوَزْت مَبْدَأ وَمِعْيَار الشَّرَف و الْإِخْلَاص ، بَلْ رُبَّمَا لِأَنَّك الْخَائِن الْأَوْحَد ، أنتَ الَّذِي لَا يَجِبُ أَنْ تَعِيشَ و الْعَالَمِ مِنْ حولكَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ، نَعَم ، و عَلَى الشَّاعِرِ أَنَّ لَا يَسْتَشْعِر بِمَا يُشْعِرُ بِهِ ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ فِي عينٍ وَاحِدَة ، وَخَمْسِ أصابعَ فَقَط ، وَعَلَى الصَّحَفِيّ إلَّا يتحاور مَع الضِّدّ ، و السِّياسِيّ أَنْ يَبْتَعِدَ عَنْ النَّارِ وَ جِيَف المغامرات ، و عَلَى الطَّبِيبِ الرَّجُل إلَّا يُدخلَ مَرِيضَة كَيْ لَا يفحصُ مَا بَيْنَ نهديها رُبَّمَا كان القحبُ الأوحد .
عليكَ فَقَطْ وَبَعْدَ هَذَا الْكُمَّ الْهَائِل مِن الْعَار الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَدْر لكَ ، أَنْ تَكُونَ مِثل الْآلَة ، رجلٌ إلَيّ ، بِلا مَشَاعِر و أحاسيس ، وعليكَ الْحَذَر ايضاً رُبَّمَا يفهك النَّاسِ كَمَا يَحْلُو لَهُم ، لَيْس لِأَنَّك هَكَذَا ، بَلْ هُمْ يريدونكَ هَكَذَا ، لَا بُدَّ مِنْ مَلِئ الْفَرَاغ لَدَيْهِم ، و أَن حُكم عليكَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّوْبَة مغتسلاً مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ ، حَتَّى وَ أَن تَبَرّأْت مِنْ والدتكَ لِأَنَّهَا زَنَت و انجبتكَ سراً ، حَتَّى لَوْ أُغْلِقَتْ جَمِيع الثُّقُوب و هممتَ أَنْ تَعِيشَ بِكَرَامَة ، فَلَن تَسْتَطِع ، لِأَنَّهُم سيبقون كَمَا كَانُوا ، وسيختارون لكَ ألذَّ طعمٍ و تتذوقه رغماً عنكَ ، إذَا لَا تُحَاوِلْ أَنْ تَكُونَ جميلاً ، و ودوداً ، وَكَأَنَّك مِن رَحِمَ اللَّهُ ، وَلَا تَنْسَى أنكَ مِن رَحِم عَاهِرَة ، ولدتَ و عشتَ فِي جوٍ يسوده عَدَم الْأَخْلَاقِ وَ الشَّرَف و الْكَرَامَة .
حَتَّى وَإِنْ هُجِرَتْ الْأَغَانِي الَّتِي أحببتها ، هُم بَاقُون فِي زَهْو صَدَى الْأَغَانِي الَّتِي يحبونها و لِكُلّ أُغْنِيَّة ذِكْرَى جَمِيلَة لَدَيْهِم ، حَتَّى الْأَمَاكِن ، و الْأَزْمِنَة ، و الْفُصُول و صالاتِ الأفراح .
تَأَكَّد أنكَ عارٌ عَلَى هَذِهِ الْبَشَرِيَّة أَيُّهَا الْقَدْر الْأَسْوَد ، تَقْضِي عَلَى أُناس و تَحْمِي أَسْرَار أُناسٍ عَلَى حِسَابِ أُناس .
نعم  
كُل يَوْم أتسللُ مِثل اللِّصّ ، أتفحصُ جَمِيع صوركِ الشَّخْصِيَّة ، يَشُدُّنِي عَامَّانِ أَوْ ثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ قَبْل الْآن ، كَيْفَ كَانَتْ هَذِهِ الشَّوَارِع و الْمَقَاهِي و طُرُق الْبَسَاتِين ، و جماهيرُ المظاهرات ، و الحفلات الاصطناعية ، عرسكِ وفستانه الْأَبْيَض الضَّائِع!!
أقفُ فِي ذُهُولِ جمالكِ المُشبع بِالْأُنُوثَة ، أقارن ضَجِيج الابتسامات ، أتمحصُ لُغَة الْعُيُون ، أتذكرُ أنكِ قلتِ كَم كُنتِ سَعِيدَة ، وَكَم كَان الْمَرِح يَعُجّ الشَّوَارِع و السَّيَّارَات و مَرَاكِز الْمُدُن و الْمَدَارِس و الْجَوَامِع و الْكَنَائِس ، أقتنعُ تماماً أنكِ الْآنَ فِي أَسْوَأ حالاتكِ ، لِهَذَا أَرَى كُل شَيْءٌ صَامَت ، التَّلْفاز ، الموبايل ، الْحَجَر ، السَّرِير ، الصُّوَر المُعلقة ، مِنْفَضَة سجائري ، أَعْوَاد الْكِبْرِيت ، أَصَابِعِي و هِي تُرَاقِبْ اللَّهَ عِنْدَ شُرُوق الشَّمْس ، باقات الْوُرُود الْيَابِسَة ، كأسِ العَرق و هَكَذَا و دائماً أصلُ متأخراً ، و يحلُ الْخَرَاب تَحْت ظِلِّي .
لَمْ أَسْتَطِعْ حَمَل أحزاننا و تَغَيَّر الْقَدْر ، و لَمْ أَكُنْ أَهْلًا لِأَحَد ،
قَالُوا لكِ عَنِّي كُل شَيْءٌ ، و نسيوا إنَّنِي كنتُ ينبوعاً فِي أَرْضِ الخسارات .
بَيْنَنَا أشياءٌ تتسعُ لقضم أَلْف مَدِينَة و شَارِع و حَدِيقَة ، لَيْتَنَا نغرق ، لَيْتَنَا نُولَد مِن جَدِيد آيَتِهَا السَّعَادَة
تُشبهينني فِي كُل شَيْءَ لِذَلِكَ عَلِيّ الِاعْتِذَار
الِاعْتِذَار أحياناً قِلة حَيَاء .
قِلة رُجُولَة
و ربما قِلةُ وَفاءٌ
أَنَا الْوَبَاء يَا أُمِّي
أَنَا الَّذِي جئتُ متأخراً وَرُبَّمَا عَنْ طَرِيقِ الْخَطأ
وِلاَدتي كانت مُصيبة .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

(ولاتي مه – خاص):
على امتداد أكثر من خمسة عقود، يمضي الفنان والمناضل شفكر هوفاك في مسيرة حافلة تجمع بين الكلمة الثورية واللحن الصادق، ليغدو أحد أبرز الأصوات التي عبرت بصدق عن آلام الشعب الكردي وأحلامه بالحرية والكرامة.
منذ انخراطه المبكر في صفوف الحزب الديمقراطي الكردستاني في سبعينيات القرن الماضي، ظل شفكر وفيا لنهجه…

ماهين شيخاني

في فجرٍ بعيدٍ من فجر الأساطير، خرج رستم، بطل الممالك الفارسية، في رحلة صيدٍ طويلة. ضلّ طريقه بين الجبال حتى وجد نفسه في مدينة «سمنغان»، حيث استضافه الملك في قصره. هناك التقى بالأميرة تَهمينه، فتاةٌ تفيض حُسنًا وشجاعة، قالت له بصوتٍ يقطر صدقًا:

«يا رستم، جئتُ أطلب من البطل ولداً مثله، لا كنزاً…

إبراهيم اليوسف

لم يكن إصدار رواية” إثر واجم” في مطلع العام عام 2025 عن دار نوس هاوس للنشر والترجمة والأدب، مجرّد إعلان عن عمل سردي جديد، بل ولادة مشروع روائية- كما نرى- تُدخل إلى المشهد الروائي صوتاً لم يُسمع بعد. هذه الرواية التي تشكّل باكورة أعمال الكاتبة الكردية مثال سليمان، لا تستعير خلالها أدواتها من سواها، ولا تحاكي أسلوباً…

عصمت شاهين الدوسكي

الشاعر لطيف هلمت غني عن التعريف فهو شاعر متميز ، مبدع له خصوصية تتجسد في استغلاله الجيد للرمز كتعبير عن مكنوناته التي تشمل القضايا الإنسانية الشمولية .

يقول الشاعر كولردج : ” الشعر من غير المجاز يصبح كتلة جامدة … ذلك لأن الصورة المجازية جزء ضروري من الطاقة التي تمد الشعر بالحياة…