د آلان كيكاني
وأنا أدرس في غرفتي أسمع صوتها تتحدث إلى أحد ما في الصالة التي يفصلها عن غرفتي ممر بطول خمسة أمتار يحيط به المطبخ من جهة والحمام من الجهة الأخرى. أمد رأسي لأستكشف من هناك، إلا أنني أرى باب الصالة مغلقاً. ومن خلال البلور في أعلى الباب أتبين أن الضوء في الداخل واهن لا يصلح إلا للنوم تحته. أنام بعد قليل وفي رأسي ألف وسواس ووسواس. من تراه يكون هذا الضيف في منتصف الليل، وماذا يفعل عندها؟
في المطبخ تقول لي:
“لك أن تستخدم كل شيء هنا، الموقد والطناجر والأطباق وفناجين القهوة وكؤوس الشاي وأباريقه، والبهارات المصفوفة في علب هنا على الرف، وحتى الشاي والقهوة التي اشتريها من مالي الخاص. إلا هذا الدولاب لا تقربه ولا تحاول فتحه.”
أبدي استعدادي لتنفيذ طلبها دون أن أسألها عن السبب. وغداّ سأكتشف صدفة، عندما أدخل المطبخ وأراها تفتح الدولاب المحرم عليّ استخدامه، أنه لا يحوي سوى صينية قديمة بالية، وعدة صحون من الخزف، وفنجانين، وطاسة من الألمنيوم. فيزداد استغرابي ولا أود اقتحام خصوصيتها.
وفي الصالة التي تفضي إلى غرفتين، إحداها محكمة الإغلاق والأخرى سائبة، نجلس ونشرب الشاي ونتكلم بعد الغداء، فتبيح لي استخدام الصالة للدراسة واستقبال ضيوفي في حال غيابها عن البيت، على ألا أحاول فتح الغرفة المغلقة أبداً، فأبدي موافقتي، وألتزم برغبتها دون أن أناقشها. وبعد أيام تغيب عن البيت، وأدرس في الصالة، وأنظر إلى باب الغرفة المحظورة عليّ، وأجد شرخاً بينه وبين الإسمنت من الأعلى، يدفعني الفضول إلى أن أعتلي كرسياً وأنظر من خلاله لأرى في الداخل سريراً مزدوجاً قديماً وبجانبه صندوق خشبي كبير وعتيق، كان في بيتنا واحدٌ منه يعود إلى جدتي المتوفاة منذ ثلاثين سنة، وكان من تجهيزات يوم زفافها في العقد الثاني من القرن العشرين.
يزداد شكي، وتتعاظم حيرتي تجاه سلوك فاطمة الصابوني الغريب. ثم إن في حديثها لضيفها المفترض تبدو وكأنها تناغي طفلاً، أو تداعب زوجاً، أو تغازل حبيباً، ومع ذلك فإن أكثر ما يلفت انتباهي هو عدم سماعي لصوت الضيف.
فأبدأ بالجدال مع نفسي:
هل جليسها أخرس؟ لقد قابلت أبنها الوحيد مرة فكان ناطقاً فمن يكون هذا الزائر الأصمّ؟
هل يعقل أن يكون البيت مسكوناً بالجن؟ أرتعد خوفاً ويهمل عقلي الباطن هذا الاحتمال توجساً.
أم أن فاطمة الصابوني تهذي وقد نخر الخرف عقلها؟ ولكنها ذكية تتسم بالفطنة والدهاء، وذاكرتها قوية. وقد طلبت منها مرة أن تذكّرني بموعد مهم بعد اسبوع فذكّرتني به بدقة مراعية الساعة والدقيقة، وكنت قد نسيته وكاد أن يفوتني. ثم إنها تدخل سوق المدينة التاريخي الكبير في حلب القريب من بيتها وتدور على المحلات التجارية القديمة، وتعرف أسماء أصحابها واحداً واحداً. وتعرف من أي واحد منهم اشترت حاجتها من البهارات قبل سنة وكم كلفها ذلك من الليرات والقروش.
يبقى السؤال الذي أشمئز منه وأتردد في طرحه على نفسي: هل من المعقول أن يكون لفاطمة الصابوني عشيق يتردد عليها؟ أقهقه من أعماقي وعبثاً أحاول نبذ الفكرة من ذهني.
جمعني بفاطمة الصابوني صاحب مكتب عقاري عندما كنت أبحث عن مأوى أسكنه في مستهل سنتي الدراسية الثانية في كلية الطب بجامعة حلب. أتى بي إليها وقال لها:
“هذا هو مطلبك، إنه طالب طب ولا يعرف شيئاً سوى الكتاب.”
ودس ألف ليرة في جيبه وتركني معها بعد أن اتفقنا على المبلغ الشهري الذي يترتب عليَّ دفعه لها شاملاً الماء والكهرباء. إلا أن شهرين كانا كافيين لأبدأ بالتململ والتذمر، إذ لاحت لي بوادر وجود شبح في البيت بعد أن استبعدت الاحتمالات التي راودتني وفشلت في تفسير سبب هذيان فاطمة الصابوني المتكرر ووضعها الخطوط الحمراء لي في البيت، وصرت أخاف من الهيكل العظمي الذي اشتريته قبل سنة واحتفظت به في كيس تحت سريري. وقد صارحت فاطمة الصابوني بهذا الأمر. وحين تيقنت من عزمي على الخروج من بيتها وعرفت سببه، لم تجد بداً من البوح بقصتها لي وسردها مفصلة رغم طولها. إذ من أين لها أن تؤمّن مستأجراً آخر، لا يعرف سوى الكتاب، ويوفيها أجرها في اليوم الأول من كل شهر مع علبة من الدخان النفيس عربون محبة، مثلي.
في السنة القادمة ستكمل فاطمة الصابوني عامها الثمانين، وسأكمل عامي العشرين. ورغم بلوغها هذا العمر إلا أنها تتمتع بصحة جيدة، وكثيراً ما تسبقني في السير عندما نتسوق معاً، بل وتؤنبني عندما أقترح عليها حمل كيس عنها معتبرة هذا إقراراً مني بعجزها وكبر سنها. وستقول عنها أختي التي ستزورني فيما بعد مازحة: إنها أنشط منك، لماذا لا تتزوجها؟
تحب فاطمة الصابوني الأزهار وتعتني بالكثير منها في شرفة بيتها المطل على شارع فرعي في أحد الأحياء القديمة من مدينة حلب، حتى بدت الشرفة مثل حديقة غناء. أما في داخل البيت فهي تقتني مجموعة من العصافير التي لا تغرد إلا في الصباح الباكر مع آذان الفجر موقظة فاطمة من نومها حتى تقوم وتستفتح يومها بركعتين من الفرض، وأخرتين من السنة، ومن ثم لتمضي نصف ساعة في تلاوة القرآن قبل أن تحضر قهوتها وترتشفها على أنغام صباح فخري في شرفة البيت. أما ابن فاطمة الفريد، فهو عميد متقاعد في الجيش، وصار جِدّاً في الربيع الماضي بعد أن رزق ابنه بمولود سماه محمد رياض، وقد أتم الستين من العمر ولا يزورها إلا لماماً.
وذات يوم جمعة، وبعد أن انتهينا من الغداء في الصالة، استغلت فاطمة الصابوني سعة الوقت في عطلة نهاية الأسبوع وشرعت تكشف عن المستور وتفشي لي بأسرارها التي بدت وكأنها سرد لسيرة حياتها من خلال قصة حبها مع زوجها، الغائب الحاضر، منذ ستين سنة.
مدت فاطمة الصابوني يدها البيضاء المجعدة إلى حقيبتها وأخرجت منها صورة قديمة لرجل بدت معالمها بالأبيض والأسود مثل معالم سحابة في السماء في ليلة مقمرة وقالت:
“هذا هو زوجي، محمد رياض.”
كان محمد رياض في الصورة شاباً في حوالي العشرين من العمر ويرتدي بدلة رسمية أنيقة، ويعتمر بطربوش، وبدل ربطة العنق المألوفة يتزين بربطة على هيئة وردة يلم بها ياقة قميصه، ويضع زهرة في جيب جاكيته من جهة القلب. ورغم الانمحاء الذي طال الصورة نتيجة قدمها فإن محيا محمد رياض احتفظ فيها بجاذبيته ووسامته بعينيه الكبيرتين وأنفه الصغير الذي يعلو شاربين مبرومين مثل قرني وعلٍ.
ثم ما لبثت أن فتحت فاطمة الصابوني باب الغرفة التي حظرت عليَّ دخولها، ودخلتها ثم عادت منها وفي يدها قصاصة صفراء من الورق وأرتني إياها دون أن تسمح لي بلمسها، وقالت:
“اقرأ، إنه يقول فيها ” سأظل أحبك مادمت حياً، وإذا جاز لي فسأحبك بعد مماتي، ولا يمكن أن أتصور حياتي بدونك…”
دققت النظر في الورقة بينما تقرأ فيها فاطمة الصابوني فلم أتبين شيئاً، فأدركت أنها تحفظ محتوى الرسالة عن ظهر قلب من كثرة ما كررت قراءتها على مدار ثلاثة وستين عاماً. وبعد أن انتهت من قراءتها تابعت تقول:
“هذه رسالته لي عندما بدأت مجموعة من العوائق تظهر في طريقنا ونحن سائرون إلى بناء عشنا الزوجي.”
ثم أعادت فاطمة الصابوني الرسالة إلى مكانها، وعادت بحقيبة جلدية كبيرة وفتحتها بلطف وتأنّ، وأخرجت منها مجموعة من الملابس الرجالية: أربع بدلات رسمية، إحداها سوداء صرفة، والأخرى سوداء مقلمة بخطوط بيضاء، والثالثة رمادية أما الرابعة فبنية قاتمة، وستة قمصان، وطربوشين أحمرين، وبرنس حمام، وملابس داخلية وأخرى خاصة بالنوم، وعدة أزواج من الجوارب الصوفية، وكلها مرتبة وموضبة ونظيفة ومكوية وكأنها آتية للتو من عند الخياط. ثم شرعت فاطمة تشرح لي في أية مناسبة لبس محمد رياض هذه القطعة من ملابسه وفي أية منها لبس تلك. وبعد أن انتهت من الملابس أخرجت من أحد جيوب الحقيبة ساعتي جيب، وثلاث مسابح، ونظارة شمسية، ومرآة جيب، وثلاثة أقلام، وكلها بدت جديدة وكأنها تم شراؤها حديثاً. وقد قالت أنَّها لا تلمس الحقيبة إلا مرة واحدة في السنة عندما تحين الذكرى السنوية لزواجها من محمد رياض، حيث تتأكد من سلامتها وسلامة محتوياتها ونظافتها ثم تعيدها إلى مكانها. وبعدها اقتادتني فاطمة الصابوني إلى ما كان مخدعها الزوجي قبل زمن سحيق والتي كانت قد منعتني من قبل من دخوله، وأرتني سريرها وعليه فراش من الصوف مغطى بملاءة زرقاء فاتحة، وكذلك أرتني صندوق عدتها عشية زواجها والذي كان لايزال بحالة جيدة رغم مرور واحد وستين سنة عليه، وفتحته وجعلتني أنظر إلى ما في داخله: أحذية، وصنادل، ومجموعة كتب، وسيف صدئ، وخنجر، ومسدس قديم من النوع الذي يدور فيه حامل الطلقات. ومدت فاطمة يدها وأخرجت من زاوية من الصندوق زجاجة وقالت:
“وهذا هو عطره المفضل.”
كان لا يزال مليئاً حتى نصفه.
ثم سحبتني فاطمة إلى المطبخ وفتحت الدولاب الذي طلبت مني عدم فتحه قبل ذلك، وعرفتني على أدوات مائدتها التي كانت تأكل وتشرب بها مع زوجها محمد رياض، وبعدها عدنا إلى الصالة، وانصرفت هي إلى تحضير الشاي، بينما بقيت صامتاً لا أتكلم. لقد علمتني فاطمة الصابوني خلال الأشهر الثلاثة الماضية أن خير وسيلة لجعلها تبوح ما في سريرتها هي الصمت وعدم السؤال والإلحاح. هكذا كانت فاطمة: قوية وصارمة ومعتدة بنفسها ولا تسمح لأحد بالتدخل في شؤونها بغير رضاها حتى لو كان هذا المتدخل هو ابنها الوحيد الذي كان يبدو أكبر منها سناً، والذي أحيل إلى التقاعد عنوة بعيد حوادث الأخوان المسلمين في سوريا في أوائل ثمانينات القرن الماضي، رغم أنه كان يحمل وسام شرف نتيجة بطولاته على جبهة الجولان في حرب تشرين عام ثلاثة وسبعين وتسعمائة وألف.
وفيما نحن نشرب الشاي حملقت فاطمة إليّ مطولاً وهي صامتة تستقرئ سيل الأسئلة في ذهني وتتفحص علامات الاستفهام في وجهي وعلى شفتيها بسمة تائهة. لكنني ألتزمت بصمتي ولم أسألها شيئاً لمعرفتي بطبعها، وإنما اكتفيت بنظرات خاطفة إليها، في إشارة مني إلى أنني أنتظرها لتستأنف سرد قصتها. كان وجهها بتجاعيده مثل سفح جبل أجرد ملأته الأمطار بالأخاديد والمجاري، بينما شف البياض الفاقع في بشرتها عن عروق الدم ومساراتها تحت جلدها بوضوح. وكانت عيناها الخضراوان على حافة الذبول مثل حبتي زيتون اقتطفتا من شجرتهما منذ زمن. ولم يكن هذا الذبول الخارجي عند فاطمة ليعبر بأي شكل من الأشكال عما في داخلها من طاقة وحيوية ونشاط. فلو أن أحداً راقبها وهي تقوم على بيتها، أو تسير في الشارع، دون أن يرى وجهها، لقال فيها أنها في الأربعين.
قالت فاطمة الصابوني:
“بدأت قصتي مع محمد رياض قبل أربع وستين سنة، كان ذلك في عام ألف وتسعمئة وسبع وعشرين، عندما كنت في الخامسة عشرة من عمري وطالبة في أحد الكتاتيب، وكان يكبرني بسنتين وطالباً في الثانوية العامة. وكانت الشرارة الأولى قد بدأت عند أحد الباعة عندما دخلت لأشتري حاجة لي واضطررت معها إلى إماطة اللثام عن وجهي، فرأيت شاباً وسيماً يحدجني بنظرة ثاقبة. لم أكن أعرفه من قبل، وكما أن عائلتي، كما اتضح لي فيما بعد، لم تكن تعرف شيئاً عن عائلته. كان المشهد خاطفاً ولم أبن عليه شيئاً رغم إعجابي الشديد بتقاطيع وجهه الوسيم، ولم أكن أتوقع أنني سأراه في اليوم التالي، وأنا عائدة من مدرستي، يجلس على مقعد خشبي في حديقة صغيرة تقع في طريقي إلى بيتي، ويحدق بي ملياً دون أن يبدي أية حركة أو إيماءة. ومع أنني تظاهرت بعدم رؤيته إلا أن قلبي كان يخفق بقوة وأصابني الارتباك، وبدأ توازني يختل على الأرض، وبصعوبة تابعت سيري، وعبثاً حاولت أمام نفسي إنكار إنني كنت أفكر به الليلة الماضية في فراشي متمنيةً لو أراه مرة أخرى. تكرر المشهد بعدها يومياً خلال أكثر من شهر إلى أن تجرأ ذات يوم على الاقتراب مني وبإيماءة من يده عرض عليّ رسالة، لكن الخوف حال دون استلامي لها رغم أنني كنت غارقة في قعر حبه، فقد كانت الفتاة في تلك الأيام معرضة لأية عقوبة يمكن أن يتخيلها المرء إن اكتشفها ذووها على علاقة مشبوهة بأحد الرجال، ناهيك عن العار الذي يمكن أن يلتحق بأهلها جراء هذه العلاقة. في اليوم التالي رأيته جالساً في مكانه المعتاد، كان هادئاً لا يتحرك كالعادة، نظرت إليه فرأيت عينيه مغرورقتين بالدموع ووجهه ينبئ بالتعب والألم والأرق، شعرت بذنب شديد تجاهه وتابعت السير والألم يعتصر قلبي إلى أن وصلت إلى البيت وألقيت بنفسي في زاوية ورحت أبكي بحرارة حتى رأتني أمي، ولكنها صدقتني عندما عزيت سبب بكائي إلى ألم في رأسي كان يراودني كلما حان وقت الطمث عندي. ولا أكون مبالغة إن قلت لك أنني لم أذق طعم النوم في الليلة التالية. وعند الفجر استقر رأيي على أن أكتب له رسالة، أعتذر له فيها، ثم أكورها وألقيها أمامه وأنا أمر بجانبه في طريق عودتي من المدرسة. وبالفعل فقد كتبت اعتذاراً شديداً على عدم استلامي لرسالته. والتمست منه الصفح والمغفرة. وطلبت منه أن يعيد الكتابة. واقترحت عليه أن يلف الورقة حتى يغديها مثل قشة، ثم يضعها في شرخ في جذع شجرة توت كبيرة تقع في زاوية الحديقة التي ينتظر فيها مروري بجانبها كل يوم، وعلى أن أرد عليه بنفس الوسيلة. وبهذا نكون قد تبادلنا رسائلنا مع إبعاد الشبهات عن نفسينا. وهكذا وعلى مدار سنتين كان ذاك الشق في جذع شجرة التوت هو صندوق بريدنا الوحيد الذي تبادلنا من خلاله مئات الرسائل في الحب والغزل والعتاب، واتفقنا عبرها على كل شيء، حتى على عدد الأولاد الذين سننجبهم وأسمائهم.”
وفي يوم الجمعة القادم ستصطحبني فاطمة الصابوني إلى حيث كانت الحديقة وشجرة التوت قبل أكثر من نصف قرن. وستقف فاطمة أمام بيت وستقول: تحت هذا البيت تقبع جذور شجرة التوت التي كانت شاهدة على ميلاد حب قُدر له أن يستمر إلى الأبد.
وبعد أن أشعلت فاطمة الصابوني لفافة وأخذت منها نفساً عميقاً ونفثت دخانها في فضاء الغرفة، تابعت تقول:
“لم يكن في نيتنا ارتكاب خطيئة تحط من شرف عائلتينا وتدفع بسمعتهم إلى الحضيض، ولم نكن نبحث عن علاقة طارئة، أو لذة عابرة، أو غرام عارض، كما لم نكن ننشد مالاً أو جاهاً، بل كنا نتطلع من وراء علاقتنا إلى زواجٍ ميمونٍ، وبناء أسرةٍ مفعمةٍ بالحبِ والحياة. ولهذا ما إن حان زمن الانتهاء من المدرسة حتى كنا نتلمس طريق الاقتران وبناء عشنا الزوجي، فتقدم محمد رياض طالباً يدي من أبي ومعه أبوه وجماعة من وجهاء الحي ورجال دينه إلا أن النتيجة كانت صادمة، إذ حدث ما لم يكن بالحسبان حين رفض أبي زواجي من محمد رياض بحجة أن عائلته فقيرة ومغمورة ولم يُعرف في تاريخ المدينة أن كان لها شرف أو جاه وفق المعايير الاجتماعية لأبي الذي كان ميسور الحال وشديد الاعتزاز بالنفس وأحد زعماء الحي البارزين الذين يحسب لهم حساب. وكان ثمن الكارثة باهظاً عليّ لدرجة أنني لم أكن قادرة على تحمله، فأصابني الانهيار، وافتضح سري وعلم به القاصي والداني، وعندما وصل الخبر إلى مسامع أبي لم يجد حرجاً في الحكم علي بالحبس في البيت لأجل غير مسمى. وهكذا بدأت مأساتنا التي قادتنا إلى الوقوع في براثن الغم والحزن. وقد قال لي محمد رياض فيما بعد أن وقع الصدمة كان ثقيلاً عليه إلى درجة أنه امتنع عن الأكل لمدة اسبوع كامل، وأنه كان قاب قوسين أو أدنى من الموت لولا أن طبيباً جاء ووصف له مضادا للاكتئاب استطاع أن يستعيد به رشده وتوازنه. وعشية إقامتي الجبرية داخل البيت لم يكن لي من أنيس سوى قراءة رسائل محمد رياض في السر، أما في العلن فكنت أقرأ كتباً عن التاريخ والسيرة والفقه سعياً وراء تبرئة ذمتي عند أبي الذي كان يشيد دائماً بمن يهتم بعلوم الدين والتاريخ. إلا أن إرضاء أبي لم يكن بالأمر السهل، فلم يشفع لي شيء عنده، وأستمر في عناده وتعنته. وقد حاول تزويجي ثلاث مرات ممن يناسبونه في الشرف والجاه، وفي كل مرة كنت ألوح بسلاح الانتحار، فكان ينكفئ عني لحين ثم يعيد الكرة مرة أخرى. والحق أنه خلال السنة التي كنت فيها سجينة في البيت لم يتسرب اليأس ساعة واحدة إلى قلبي، وكنت في أشد لحظات يأسي على يقين أن النور ينتظرني في نهاية النفق، مهما طال هذا النفق، ليس لأن رسالتين تسللتا إليّ، يحثني فيهما محمد رياض على الصمود وعدم الاستسلام إلى اليأس والقنوط فحسب، بل لأن أمي كانت تخبرني بين الحين والآخر عن تحرك جديد يقوم به بعض الوسطاء في سبيل إقناع أبي بالعدول عن قراره المجحف بحقي. إلا أن أكثر ما كان يدفعني إلى الثبات والرسوخ، هو ذلك الحب الجامح والنزعة الهائجة والرغبة العارمة في الاجتماع بمحمد رياض الذي كنت أراه كل يوم في حلمي، مرة يواسيني، ومرة يداعبني، ومرة يشجعني على الصبر والأناة. فكنت استيقظ من نومي وأنا على إيمان راسخ أن الغد هو لنا. وبالفعل كان الغد هو لنا. فقد لان أبي بعد أن جاءه رجل كان يكن له الكثير من الود والاحترام، إلى حد أنه لم يجد بداً من الموافقة. فوافق. وقد سمعت أن الرجل كان أحد قادة الثورة ضد الانتداب الفرنسي لسوريا، والذي كان محمد رياض يشتغل تحت أمرته. وما إن تمت الموافقة وتحدد موعد الزفاف حتى بادر محمد رياض إلى شراء هذا البيت وتأثيثه ليليق بعروسين عاشقين أضناهما البعد والفراق، وبعد شهر دخلناه سعيدين نتلفح بأثواب ملائكية وسط أنغام القدود الحلبية المعروفة.”
صبت فاطمة الصابوني الشاي في كأسها للمرة الثالثة، وأشعلت لفافة أخرى كان عدد الأعقاب في المنقضة يدل على أنها السابعة، ودون أن تتمكن من إخفاء عاطفة جياشة سيطرت عليها تابعت تقول:
“في الليلة الأولى وهو يدخل مخدعي رأيته أول مرة عن قرب. رأيته أكثر بهاء ووسامة مما توقعت. كان يرتدي ذاك الطقم الأسود الذي أريتك إياه قبل قليل. أما عيناه العسليتان فكانتا من الجمال والسعة ما دفعني إلى الرغبة في الاختباء فيهما إلى الأبد. لقد سحرني بالفعل واستسلمت له بكل ما أملك من خضوع. دامت حياتنا بعد الزواج في رغد وأبهة لمدة سنتين لا أكثر. وقد درج خلالها محمد رياض على أن يعاملني بلطف شديد، حتى أنه أخذ عن الفرنسيين عادة تقبيل الرجل ليد المرأة، فكان كلما خرج من البيت ودخله ألقى التحية ثم انحنى ليقبل يدي. وكان، رغم حداثة سنه، رجلاً وقوراً ورزيناً وراجح العقل، يستشيره في كثير من الأحيان من هو أكبر منه سناً وأكثر تجربة في الحياة. وقد تكلل زواجنا بعد سنة بمولود وسيم سميناه على اسم الشهيد يوسف العظمة… كان محمد رياض غيوراً على بلده ويعمل في السر ضد حكومة الانتداب مع جماعة من الثوار وكثيراً ما كان يخطرني بغيابه عن البيت لمدة أيام معدودة لأسباب ضرورية، ولكن عادة ما كان يعود في الوقت المحدد، ولا أذكر أنه غاب مرة أكثر من الوقت المعلن عنه إلا في المرة الأخيرة… كان ذلك في أحد أيام الجمعة من شهر آذار من عام ألف وتسعمائة وأثنين وثلاثين، أي قبل تسع وخمسين سنة. استفقنا في الصباح وتناولنا الفطور معاً، ثم جلسنا في الصالة نشرب القهوة. صحا يوسف في غرفة النوم، ولم يكن قد أكمل عامه الأول بعد، فقام وجلبه إلى الصالة ولعب معه لنحو ساعة بينما كنت مشغولة في المطبخ. وعند الضحى قال لي أنه سيغيب عن البيت ليعود في فترة العشاء، وكالعادة لم أسأله إلى أين هو ذاهب. لبس سرواله الأسود العريض، وقميصه الأبيض الفضفاض، واعتمر طربوشاً أحمر، وانتعل صندلاً كان قد اشتراه منذ أيام، ثم قبّل يوسف من وجنتيه وقبّل خدي الأيسر ثم يدي اليمنى التي كان يمسك بها، ووقف عند الباب ملوحاً بيده، ثم خرج وأغلق الباب وراءه بهدوء… أحضرت العشاء بعد المغيب بساعة وجلست أنتظره. ولكنه لم يأت… ومرت أيام وأسابيع وشهور وسنوات وعقود وأنا أنتظره… ولا زلت انتظره حتى الآن… لكنه لم يأت… لم يتأكد أحد من موته. ولم يعرف أحد إذا ما كان قد قُتل في صدامات مع الفرنسيين، أم أن الفرنسيين قد اعتقلوه ثم اقتادوه إلى جبهات خارج البلد في مستعمراتهم الكثيرة ليلقى حتفه هناك… صحيح أنه غاب، ولكنه يعيش معي في كل لحظة… أرى طيفه… أكلمه… وأسمعه يكلمني… أشم رائحته التي لا يخطئها أنفي… كلما أضع مائدة العشاء أمامي أخاله يطرق الباب فأتهيّأ لفتحه واحتضانه، وأقول له هيا، العشاء لم يبرد بعد!”
توقفت فاطمة الصابوني عن الكلام دقيقة ثم تنهدت واستأنفت تقول:
“قلبي يقول إنه حي، وسيعود!”
===
من المجموعة القصصية (قلب من ذهب)
عن جريدة بينوسا نو، صوت الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا.