جمعة عبدالله
(الرواية الأولى) هي قصيدة للشاعر (عبد الستار نورعلي)، نُشرت لأول مرة عام 1971 في مجلة (الثقافة) العراقية التي كان يصدرها الراحل الدكتور (صلاح خالص)، ويرأس تحريرها زوجته الدكتورة (سعاد محمد خضر).
تمتاز القصيدة بأنّها واسعة الأفق والتداعيات اللامحدودة، التي تستنبط رحلة عذاب الانسان الطويلة، ومديات العشق ومراراته.
قصيدة تعاطت في اسلوبها الشعري المؤثر اسلوبَ (الملاحم الشعرية) بنفَسها الطويل، الذي يستقرئ ويستنبط كلّ مرحلة من حكاية الرواية، في الإشارات الدالّة، في المجاز والاستعارة، من عمق طقوسها وتضاريسها، بين عذاب الانسان في العشق والخطيئة والدماء، والمشانق والرايات . إنّها رحلة طويلة من المعاناة والتحدّي في مراحل العشق، مراحل التاريخ العابقة بالدماء والخطيئة التي يتوارثها التاريخ الإنساني من عصر الى عصر، ولكلّ محطة من محطات عذابها في العشق .
لاشكّ أنَّ تأثيرات القصيدة ـ في تعبيرها وتصويرها ـ تستلهم الاسلوبَ الملحميّ في التعاطي مع الاساطير. وكما ذكر ( سقراط ) بأنّ الشعر هو (محاكاة الاسطورة بالخيال)، لذلك انطلق الشاعر الإغريقي ( هوميروس ) في ملحمتيه الخالدتين (الالياذة ) و( الاوديسيا ) بمحاكاة فعل الخيال المبهر والملهم بعبقريته الفذة في تصوراته الخلابة. وهذه القصيدة (الرواية الأولى) تجاوزت تعاطي الشعر الملحمي بإدخال عنصر التأثير، في التأمل والرمز ودلالاته الإيحائية والتعبيرية. واشتملت على عدة معطيات رمزية (متحركة وثابتة)، يعني مثلاً رمزية (البحر) متحرك بدلالاته الرمزية عن العشق ( وفي صمتٍ طويتُ البحرَ في عيني)، بينما نجد مثلاً الدلالات الرمزية (الثابتة) في الإيحاء والمغزى في العشق بـ( التراب) لأنّه (سليل الطين)، وآدم خُلق من الطين ( وفي صمتٍ حملْتُ البيدَ في قلبي سرايا ) هذه رسوم العشق في الصحر اء، لم يقلْ في وصمة العشق بأنّها (اغنية رملية)، لأنّ الرمال متحركة، وبالتالي يكون العشق هلامياً , لكنه قال (أغنية ترابية) ، يعني أنّه حدّد هوية العشق ومكانه الثابت في موجدات الواقع، لأنّ التراب والطين ينتميان الى بقعة محددة في مكان محدد، والتراب والطين من الاشياء الثابتة، لو كانت متحركة لانكشفتْ بطون القبور تحت التراب. يعني بهذه الدلالة أنّ عشقه ينتمي الى جهة محددة ومكان ثابت، ولا تتسلق على الأوهام المتحركة، فهو في عشقه سليل عصور وعهود من سنوات عجاف ومرارة وتشاؤم، ولم يحصد منها غير ( وتلكَ روايةٌ حمراءُ تروي قصةَ الماضين في رَهَبِ) لم يحصد منه إلا: (الترابُ يمتصُّ الدمَ قانياً / يروي عطشَ الديدانِ في زوايا ممالك النملِ والعقارب)، لم يحصد إلا رواية عمياء عن حبّ ( وتلكَ روايةٌ عمياءُ عن حبٍّ يلوحُ على حبالِ مشانق الرغبةْ،) ليموت على جدار حلم راقص في ساحة النشوة ( تموتُ دلالةُ الرؤيا، وترتفعُ التراتيلُ الصديديةْ ) ولكن دماء العشق الذي يُحمل في زفة العرائس، في الحشود المتوجهة الى أرض المواعيد. لكنّه وقع في خيبة الحساب في (الخديعة العظمى)، ليحمل عذاب وشقاء العشق عبر توارث الازمنة .
تحمل القصيدة في تكويناتها الصياغية بطلين:
× الاول (آدم): وهو يحمل عذابات ومعاناة الانسان، طُرد من الجنة، يحمل خطيئة التفاحة، هو ابن الطين وصراعه الناشب مع ابن النار ، فمن يكسر عظم الاخر . لذلك فإنّ رمزية ( آدم ) عامةً تخصّ الانسان في المرارات والعشق، في جفاف الغيث في قارورة اللهب، في صراعه مع قوى الشرّ والعدوان من أجل استلاب العشق ونخره ونحره.
× البطل الثاني : الفارس الهمام ( وهو نفسه الشاعر ) الذي يخوض صراعاً متعدد الاطراف الأخطبوطية من أجل الحفاظ على العشق ونقاوته . وهو يحكي ويسرد حكايات صراع الحبّ والعشق بالتوارث في طيات الحكايات الطفولية . في حكايات المشانق وأعراسها، في جحيم الخطيئة، والزمن الجائر، في وتر خداع الأضاليل، في العيون المسحوقة، في بساط الجوع والعطش:
وقد مسخوكَ أغنيةً ومرثيةْ
فتاه الصوتُ في الشفةِ الرماديةْ
وتاهَ عويلُ حزنكَ بين ضحْكاتِ الأباطيلِ،
أيا وجهاً رواهُ دمي ونزَّ عليهِ صوتي واقتحاماتي
وروّيْتُ الجفافَ على بقاعكَ خضرةً، خِصبا
لذلك جفَّ في حلقه نبتُ العشق، وانطفأت شموس الرغبة الاولى.
دلالة الألوان في القصيدة:
1. الرايات السُود :
( ولكنْ تلكمُ الراياتُ سودٌ ، والرماحُ لظىً)
2. الرايات الخُضْر:
تلوحُ الرايةُ الخضراءُ في صمتِ المواويلِ
وتسقطُ في الهزيمةِ خنجراً يُدمي رواياتِ الأناجيلِ
عن الحبِّ، عن الصفعِ، عن الصفحِ،
عن الانسانِ في لغةِ السماحاتِ،
فاللون الأخضر دلالة (الخصب) و(الأمل) اللذين يقعان فريسةً للطعنات فتدمى الكتابات الخضراء (الأناجيل والكتب المقدسة) التي تدعو إلى (الحبّ/الخصب) و (الصفع) و(الصفح)، وهي إشارات متماهية مع تعاليم المسيح في الدعوة إلى التسامح والسلام: (مَنْ ضربك على خدك الأيمن فأدرْ له الأيسر)، لكنَّ الواقع غير الدعوات والآمال والتعاليم السمحاء.
3. الرايات الحُمْر:
وهي تدلّ على العشق والدماء والتحدي ( أرفع الراياتِ للعباس) وهي ترميز للرايات الحمراء، لكي يرسم عشقه، وكذلك:
وتلكَ روايةٌ حمراءُ تروي قصةَ الماضين في رَهَبِ ،
صحارى تحملُ الواحاتِ انجيلاً من السَغَبِ ،
وكذلك هي رايات المشانق. وهي تعني مَنْ يتسلق المشانق، وهم أصحاب الرايات الحمراء، ومَنْ تسعر النار في داخله. هم حملة الرايات الحمراء.
جمعة عبد الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نصّ القصيدة:
الرواية الأولى:
وفي صمتٍ طويتُ البحرَ في عيني
وفي صمتٍ حملْتُ البيدَ في قلبي سرايا
نحو هاجرة الهوى ، رُحتُ أصلّي،
أرفعُ الراياتِ للعباس ، أستجلي
رسومَ العشقِ في صحراء أغنيةٍ ترابيةْ ،
رميتُ شِباكَ شوقي اصطدْتُ ريحاً،
صرتُ أحصدُها ، مررْتُ أناملي فيها،
تقصّيْتُ الحقيقةَ عنْ رؤىً في عِرقِ أمنيةٍ سرابيةْ،
وتلكَ روايةٌ حمراءُ تروي قصةَ الماضين في رَهَبِ ،
صحارى تحملُ الواحاتِ انجيلاً من السَغَبِ ،
أتلك روايتي ؟
قالوا : نعم !
ولكنْ تلكمُ الراياتُ سودٌ ، والرماحُ لظىً ،
وخيلُ الشوقِ قد هُدّتْ أعنتُها ،
فهامَ الفارسُ الغافي على صوتِ الشجا يروي ملاحمَهُ
ويحكي قصةَ الانسانِ في حبِّ المرايا
يرتمي في نبضها يغفو على هزِّ الأراجيحِ
فتاهَ وما خيولُ الشوقِ عادتْ منْ حصارِ البيدِ ماعادتْ ،
يتصلّبُ الهواءُ على وقع سنابكِ الفارسِ المرميِّ في أحضانِ العشقِ المراقِ دمُهُ ، ينامُ على فراشِ الثعالبِ تحملُ أوزارَ الشوكِ النابتِ في قلبِ أمنيةٍ تلوحُ على راحةِ الليالي وتختفي في أزقةِ النهارِ الجائع للمصابيح ،
أينَ دمُهُ ؟
الترابُ يمتصُّ الدمَ قانياً
يروي عطشَ الديدانِ في زوايا ممالك النملِ والعقارب ،
وتلكَ روايةٌ عمياءُ عن حبٍّ يلوحُ على حبالِ مشانق الرغبةْ،
يموتُ الرسمُ فوق جدار حلمٍ راقصٍ في ساحةِ النشوةْ،
يذوبُ الصوتُ في وهجِ التراتيلِ
تلوحُ الرايةُ الخضراءُ في صمتِ المواويلِ
وتسقطُ في الهزيمةِ خنجراً يُدمي رواياتِ الأناجيلِ
عن الحبِّ، عن الصفعِ، عن الصفحِ،
عن الانسانِ في لغةِ السماحاتِ،
تموتُ دلالةُ الرؤيا، وترتفعُ التراتيلُ الصديديةْ
تنزُّ هوىً بطياتِ الحكايات الطفوليةْ
عن العشاقِ هاموا في سماء الوجدِ مارجعوا صواباً
غيرَ أنَّ دماءَهم زُفّتْ عرائسَ في حشودِ الموجةِ الكبرى
إلى أرض المواعيدِ
فغابوا في حسابِ الخدعةِ العظمى، وغنوا جوقةً،
عادوا هياكلَ ترتوي طينا،
وتشربُ من كؤوس الخدعةِ الأولى،
ايا آدمْ،
سليلَ الطينِ، يأكلُ نسلُكَ الطينا،
أيا آدمْ،
لقد ضيَّعتْ فينا كلَّ أسرار الرسالاتِ
وأشبعتْ السلالاتِ
بكلِّ الحبِّ والتوقِ إلى دنيا المراراتِ،
أيا سُحُباً، ومدَّتْ ظلَّها الأجوفَ
في عينيكَ ياحبّي ويا سهري،
هذاكَ الخِصبُ في جسدِ العرايا ضلَّ صاحبُهُ
وجفَّ الغيثُ في قارورة اللهبِ،
وتلكَ روايةٌ هزّتْ أسانيدَ الأحاديثِ
وتلكَ روايتي!
قالوا : صدقْتَ.
غاب الصوتُ في الحلم الذائب في رجع الصدى القادم من بين السطور ، فأكل آدمُ التفاحةَ راضياً مرضيّاً ليضيع في متاهات المرئيِّ .
منحتُ الفارسَ الغافي تعاويذي
أدارَ يديهِ في قُفلي فما فتحَتْ
فصارَ يطوفُ في شُهُبٍ على روحي
وألقى الرحلَ في لغةِ المراراتِ
وفي حِممِ الخطيئةِ راحَ لونُ الشمسِ منطفئاً،
فيا حواءُ، هذا ابنُكِ قد شُلّتْ بقاياهُ،
تعوّدْتِ الخطيئةَ في انطلاق النارِ منْ حَلْقِ الأباطيلِ
ومنْ وترِ الأضاليلِ،
رميتِ ابنكِ في الشارعِ ظلاً للخفايا
رُحْتِ تلتهمين فاكهةَ الخطايا
تحملينَ أجنّةَ الشيطانِ في الحشرِ
وتلتقطينَ نجمَ العشقِ تسليةً وتحتلمين بالبدرِ،
فلا كانتْ رياحُ العشقِ، لا كانتْ، ولا بقيتْ،
فمنذُ تآكلتْ روحُ البريّةِ منْ تماديها
فقد حالَ الرحيقُ العذبُ مُرّاً
تاهَ عزفُ النور في وترِ الأقاصيصِ ،
وهذا اسمُ الطريقِ تغرُّبٌ، صمتٌ على الأجيالِ يهبطُ ينشرُ الغفوةْ،
وهذا اسمُكَ، يا آدمُ، صنوُ القمةِ الشوهاءِ
في جبلِ الطحالبِ، في غروبِ الأمسِ واليومِ ونيرانِ الغدِ،
وهذا اسمُ الخطيئةِ في انحدار السفحِ نحو قرارةِ الوادي المشاعِ
لكلِّ ذي عينٍ تمجُّ اللونَ في خضرةِ أثمارِ
وتنفرُ من بذارِ السعدِ في رَحَمِ المسراتِ
وفي سِفرِ الرسالاتِ،
أيا صوتَ الرغائبِ،
تلكَ ملحمةٌ تئنُّ على صراطِ القلبِ تروي ظلَّنا صمتاً
يداعبُ سمعَنا المشحونَ بالنومِ،
صُلِبَ الوجهُ على وجهِ الرصيفِ ومرّتِ العرباتُ وقرعُ الأقدامِ فوقه … تصبّبَ العرَقُ في شعابِ العينين … فشربتِ الشفتانِ كأسَ الملحِ … تصلّبتا على شفيرِ الكأسِ … سقطتا في مزالقِ التمنّي …..
أيا وجهاً رواهُ الحزنُ،
طافَ على ملامحهِ اصطخابُ الدهرِ بالأحلامِ والنشوةْ
رحلْتَ على عيونِ الآخرينَ شربتَ
منْ كأس المرارةِ رحلةَ الغصةْ
وعُدْتَ على بساطِ الجوعِ والعطشِ
تحمّلْتَ الشرائعَ فوق كاهلكَ
أخذتَ تهزُّ نشواناً على انشادِ سُمّار السلاطينِ
رجعْتَ مُسمَّرَ العينينِ والشفتينِ والأذنِ
وقد مسخوكَ أغنيةً ومرثيةْ
فتاه الصوتُ في الشفةِ الرماديةْ
وتاهَ عويلُ حزنكَ بين ضحْكاتِ الأباطيلِ،
أيا وجهاً رواهُ دمي ونزَّ عليهِ صوتي واقتحاماتي
وروّيْتُ الجفافَ على بقاعكَ خضرةً، خِصبا
ودُرْتُ على ميادينِ المغافلِ رؤيةَ الغاوي
وعشْتُ مع المغانم صورةً خرساءَ
لا لونٌ ولا أُطُرُ
فديسَتْ رحلةُ الأيامِ في حربِ المسافاتِ
وغابتْ طرقُ اللهفةِ في سيلِ الأحابيلِ
فقالوا، ثم زادوا :
آهِ يا قصصَ الحناجرِ في التهامِ العشقِ،
هذا ابنُ المزاميرِ صدى الواحاتِ لم يروِهِ نبعٌ
جفَّ في حلقهِ نبتُ العشقِ ،
وانطفأتْ شموسُ الرغبةِ الأولى …
1971
عبد الستار نورعلي