سربند حبيب
«أعيش في بلد لا يعطيني شيئاً، ويطالبني بكلّ شيء، يطلب مني أن أخاف وأسكت، لذلك أجلس وأشاهد الأفلام. علّمتني الأفلام أن أحبّ السينما وألجأ إليها، حتى أستطيع العيش. علّمتني كيف أتلاعب بالصور مع الأفكار التي تجول بخاطري، عندما بدأت الأحداث الحالية في سوريا، أرسل لي أبي كاميرا ورسالة قال فيها: اخرج إلى الشارع وصوّر، ولكنه لم يعلم أن مَن يخرج هذه الأيام إلى الشارع وبيده كاميرا… يُقتل».
«محمد ملص» صانع سينما المؤلف، يفتتح فيلمه الروائي الأخير «سلم إلى دمشق» بهذا المشهد التعريفي للشاب فؤاد المولع بالسينما، وهو طالب في المعهد العالي للفنون، وبجرعة تفاؤلية كبيرة في المشهد الثاني من الفيلم نرى فؤاد وهو يحاول دخول مقبرة؛ ليضع بوستر فيلم «الحياة اليومية في قرية سورية» للمخرج السوري «عمر أميرلاي» على قبره، ويقول مخاطباً أميرلاي: «انكسر الخوف، الطوفان يا عمر»، في إشارة إلى فيلم أميرلاي «الطوفان في زمن البعث»، مدركاً بأن هذا الطوفان سيكون على الشعب.
فيلم يحمل في طيّاته كلّ إمكانيات ملص السينماتوغرافية الجميلة، من صور شعرية تتألّق في مشاهد الأمطار وصوت الأمواج والإضاءة الموظفة للانتقال من حالة نفسية إلى أخرى. حيث يتمكّن من صياغة هواجسه الفكرية وإرهاصاته الوجدانية ورؤاه الشخصية، من خلال مشاهد يقدّمها أشخاص حقيقيين يقفون ولأول مرّة أمام عدسة الكاميرا كشواهد حقيقية على مأساة سوريا، وبلغة سينمائية متوازنة الإيقاع تتخذ من السرد الهادئ قالباً تصبّ فيه حبكتها المعتمدة على أساليب سردية متنوعة.
تدور أحداث الفيلم في بيت دمشقي قديم، تملكه سيدة كبيرة، ويقطنه شباب من الجنسين، ينتمون إلى بيئات ومناطق مختلفة من الفسيفساء السوري، حتى اللاجئ الفلسطيني بدور الملاكم الذي سيوقع محمد علي كلاي عن عرشه.
أحلام التغيير والتوق إلى الحرّية هي القاسم المشترك، الذي يجمع هؤلاء الشباب، ويحرّكهم حول شخصية «غالية»، وهي فتاة في سنّ العشرين، تتقمّصها روح «زينة» الشابة التي في مثل عمرها، وابتلعها البحر بعد اعتقال والدها، ويصوّرهم الشاب «سينما» الملقّب بهذا الاسم لعشقه الفنّ السابع الذي يقوم بدوره «بلال مارديني».
يبتعد «محمد ملص» عن الإسهاب والتقريرية في الحوارات، وكعادته يعتمد على الكلمة الموجزة مع الصورة والأصوات الخارجية والإشارات الرمزية والطرح العميق في المَشاهد، بحيث يضطرّ المُشاهد للبحث والتعمّق لفهم دلالاتها وما ترمي إليه مقولة العمل على عكس السينما التقليدية.
تناول العمل مأساة الصراع السوري من دون التطرّق إلى مشاهد العنف، يتخلّلها أجواء من الخوف والتهديد الحاضرة في كلِّ مكان، مع الضجيج المسموع في الخلفية نتيجة تحليق الطائرات العسكرية والقصف البعيد، والخوف المهيمن على وجوه الجميع، ولكنه يُبرز أيضاً مدى الجهد الذي يتم بذله؛ لإيجاد الإرادة في كلّ يوم من أجل الاستمرار في الحياة.
سلّط الفيلم الضوء على قضية الاعتقالات والتعذيب والتهديد، مجسّداً شخصية الكاتب والمخرج «غسان جباعي»، الذي عبّر عن رأيه تجاه استبداد النظام الحاكم، فلا مثيل لحكمه في التاريخ الحديث، فيقول وهو خلف القضبان: «أفنت القضبان عمرها واقفة أمامي، قضبان من الحديد مدهونة بالرمادي، وأنا خلفها مدهون بالدم واللحم، والقلب غراب ينعق».
ويقول أيضاً: «لما بتطلع عالشام وبشوف الناس إلّي راكضين على شغلن، موطيين رؤوسهم وساكتين، والناس إلّي راجعين على بيوتهم وحاملين خضرة ولحمة، ولما بشوف الناس إلّي قاعدين قدام التلفزيون وعم يتفرّجوا، بحسّ وبفهم ليش سعد الله ونوس كتب مسرحيته الفيل يا ملك الزمان».
ويضيف: «بتساءل بيني وبين حالي، لشو الهدف إنك تحبس عشرات الآلاف من الناس 17 سنة و10 سنين و5 سنين، شباب بأول أعمارهن، بيفوتو على السجون دون ذنب دون محاكمة دون سبب… واحد قلك لا، بس، أنا ما بتفق معك بالرأي إلى رأي آخر… بتحبسه عشر سنين ليش؟».
الإسقاط الرمزي لقفلة الفيلم دليل على موت ثورة الكرامة قبل انطلاقتها، فمشهد صعود الشباب إلى السطح وتسلّق حسين سُلّم بعد تثبيته من قبل أصدقائه للهتاف (حرّية حرّية)، وإذ بدويّ انفجار قوي تكبت صرختهم.
ويقودنا السؤال ذاته إلى آخر يتطلّب منا البحث عن إجابات من غير المحتمل أننا نملكها اليوم، وهو: (سوريا إلى أين؟)، الشيء الذي يتجسّد في نهاية الفيلم، عندما يحاول الشباب الصعود إلى السطح للهتاف حرّية حرّية، وإذ بدويّ انفجار لا يسمح لنا بمعرفة مصيرهم