درس أول في الكتابة الساخرة

إبراهيم اليوسف
يبدو أن بعضهم لمايزل يعتقد -وبأسف- أن السخرية -فناً وكتابة- هي ابنة الكسل المعرفي، وأنه يمكن التوجه إلى عالم هذا الفن الرائع، والإبداع فيه، مادامت السخرية، قبل كل شيء، مائزة، نادرة، لافتة للانتباه، بأكثر، وفوق كل شيء، إنها لاتحتاج- بنظرهم- إلا الحدود الدنيا من الموهبة، وأدوات الكتابة، والرصانة، وتتيح لهم التنصل من المسؤولية، بكل سهولة، على طريقة: أنا أمزح….! في اللحظة التي يشعر فيها بضعف المحاججة  لديه، إزاء أي إساءة متعمدة، يرتكبها، إذا لقيت مجابهة، واستهجاناً من قبل الآخر، “المتناول”-بفتح الواو- بغرض النيل منه، ولأغراض محض شخصية، لدى ضيقي الأفق في هذا الميدان…
وإذا كانت حركة الطفل الصغير، في فترة الحبو، والمناغاة، تبحث في نفس ذويه الفرح، وتدعوهم للابتسام، والضحك، معه، إزاء أية حركة يقوم بها، بريئة، فذلك يكمن في أن كل تصرفات هذا الطفل الصغير الذي لايتجاوز عمره الأشهرالقليلة، هي موغلة في البراءة، والروعة، على عكس مايقوم به الراشد الذي قد يبتعد، تدريجياً، عن سطوة البراءة، من خلال الخضوع لتأثيرات خارجية، جديدة، مختلفة…
إن السخرية في الحقيقة في الحقيقة فن رفيع، سواء، أكانت مرة، أم هازئة، مضحكة، فهي لا تتأتى للمرء عن طريق”محض” التمني، أو المحاكاة، أو الببغاوية، أو لمجرد ملء فراغ في هذا المجال، أو إشباع نزوة في النفس، وتحقيق مىرب، وغايات، وسوى ذلك، من دوافع، فلها أسسها، وأصولها، وقواعدها، وضوابطها، ومقوماتها، فهي حقاً عالم كامل، وخاص، طالما لجأ إليها المظلومون في القاع الاجتماعي في وجه الظلام، تاريخياً ولم تكن في يوم من الأيام ترفاً، كما هو قالها الآن على أيدي بعضهم من أشباه الساخرين
وإذا كانت السخرية، في الكتابة، والحديث، والفن، والتمثيل، تتطلب الجرأة من الساخر، فهذه السخرية، يجب أن تكون مدروسة، مستساغة، من قبل الطرف الآخر، والموجهة إليه، لا أن تمارس قمعيتها، وسلطتها ناسف للقيم الأخلاقية، مخدش لكل فضيلة وحياء لمجرد توفر المناخ، أي مناخ كان لممارسة أسوأ أشكال العنف الفني، بل تكون المقاييس دقيقة، فتتناول شخصية نيرون، أو غورو- على سبيل المثال- من قبل الساخر-أياً كان- ينبغي أن يختلف تماماً عن طريقة تناول شخصية البطل الوطني.
وهكذا لا أن يتساويا لديه في كفتي ميزان واحد، بل ولا يجوز -بأي حال- التهكم من كليهما بالوتيرة نفسها، إن لم نقل النيل من الأخير، لصالح الأول، في ظل اختلال القيم، والمقاييس، بل والضوابط اللازمة.
والفنان، أو الكاتب الساخر، على أي حال، مطالبان بإدراك مدى الوظيفة التي ستؤديها سخرياتهما، فهي ليست مجانية، رخيصة، ممجوجة، مقيتة، اعتباطية، حيث إننا جميعاً لنتذكر برناردشو في هذا الميدان، بل ولنستشهد بمفارقاته الماتعة التي تقطر كاريكاتيرية، وتنضح دلالات.
ولعل الضرب الرخيص، من هذا الفن- فيما إذا سلمنا جدلاً، وسميناه هو الآخر فناً- إن يتنصل الساخر-كاتباً أم فناناً-من كل القيم الموجودة، ويقدم مادة مبتذلة، ملفقة، لا عمق لها، لاطعم لها، ولا دلالات، تجتزىء كلام الآخر، بعبثية قميئة، بل تكرره بسماجة وببغاوية، وولدنة في سياق يتنافر وديدن الهزل المحترم وعلى سبيل المثال:
أراغول الساعرالفرنشي السهير
أنا أبو السعرالحديش والفن الساخل
جنكيز آيتماتوف ساحب ريواية الموعلمو الأوول
نشيب محفوس أور كاتب عربي يحسل على جائزة النبل
إلى ماهنالك من عبارات تسوق عنوة في إهاب الهزل” الولادي” لا موهبة وراءها، من خلال تحوير أحرفها، وإمالتها، وحذف نقاطها، أو إضافة نقاط إليها، على نحو مستهجن، يمكن التساهل معه في الشارع، أو المقهى، أو باص النقل الداخلي، أو السهرة، أو جلسة السمر، أو المشرب، لا أن تجعل من اللغة اللامسؤولة لغة الإبداع والفن، فهل من كاتب أو فنان محترمين، يرضيان بأن تكون استراتيجية اللغة الإبداعية لديه، على هذه الشاكلةةة من البؤس، والسوقية، والابتذال والصبينة، بل الطريف أن نفراً من هذا الضرب، قد أصيب بعدوى داء السأسأة، والفأفأة، والهأهأة، والمأمأة، التي تدعونا أن نقول لهم ودون تردد: كغ غ غ غ ..يا…..سباب، وذلك   جرياً على لغتهم، وأسلوبهم- معاذ الله- !!أتذكر، أنني ذات مرة قلت لصبي عرف بكثرة ممارسته الإساءة، والتهريج، والنهش، والعنف في سلوكه، وكتاباته، بل والدس، والافتراء على كل من لايروق له:
ترى لو أن واحداً تحدث عن المثلبة الفلانية في سجلك الشخصي، ناصع البياض، فماذا سيكون موقفك؟ ورحت-على الفور- أذكره  بحادثة شنيعة اقترفها ذات يوم-على سبيل المثال فقط- ضمن سلسلة إبداعات شخصية مماثلة يحفل بها تاريخه الشخصي، وتدعو حتى من لم يعرف الخجل في حياته، إلى الخجل من جراء مواجهته بها، واستعراضها أمامه، من قبيل الغمز والنيل منه، وزجه إلى محرقة الإحراج، وهنا تعرض الصبي لموقف حرج، إذ احمرت وجنتاه، وأربد، وارتبك وتدفق الدم في عروقه النابية، وتعرض لحبسة حقيقية في الكلام، تتنافى ورعونته، ومنهجه السليط في الحياة، قبل أن يتفوه متوعداً مهدداً قائلاً:
سأحطم رأس كل من يتفوه بهكذا كلام، س….
وهنا قلت له وبهدوء تام:
أ ولا يعتبر حديثك عن فلان الفلاني، وفلان، بل وفلان… انتهاكاً لخصوصيات، ما كان يمكن التطرق إليها، فيما إذا كانت صحيحة، وأنت معروف بكثرة اللغو، والطعن، والفرية، ثم هل تتجرأ يا أخي، أن تشير بشيء من مثل هذه اللغة التهكمية إلى فلان الفلاني”…..” بالرغم من شروره وبشاعته-وذكرت له اسماً- ذا سطوة شديدة، فعليك أن تكون ذا خطاب واحد، تقوله في الناس جميعاً، فيما إذا ارتموا في شباكك، لا أن تتجبر، وتتنمر أمام من تخالهم ضعفاء، وترتعش ، وتموء أمام كل ذي سلطان، فصمت” صاحبي:، مرة أخرى، وهو يدفن نظراته في مساحة ضئيلة بين قدميه، من دون أن ينبس ببنت شفة، فرحت أردد على مسمعه قول الشاعر العربي:
إذا شئت أن تحيا سليماً من الأذى    وحظك موفور وعرضك صين
لسانك..لاتذكر به عورة امرىء     فكلك عورات وللناس أعين…
ملاحظة
المقال نشر منذ حوالي ربع قرن في جريدة”تشرين”/
من مخطوط بعنوان” زوايا مستقيمة”

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

غريب ملا زلال

أحمد الصوفي ابن حمص يلخص في تجربته الفنية الخصبة مقولة ‘الفن رؤيا جمالية وبدائل لفساد الروح’، وهو كثير الإنتماء إلى الضوء الذي يحافظ على الحركات الملونة ليزرع اسئلة محاطة بمحاولات إعادة نفسه من جديد.

يقول أحمد الصوفي (حمص 1969) في إحدى مقابلاته : “الفن رؤيا جمالية وبدائل لفساد الروح”، وهذا القول يكاد ينبض في…

عبد الستار نورعلي

في الليلْ

حينَ يداهمُ رأسَك صراعُ الذِّكرياتْ

على فراشٍ مارجٍ مِنْ قلق

تُلقي رحالَكَ

في ميدانِ صراعِ الأضداد

حيث السَّاحةُ حُبلى

بالمعاركِ الدُّونكيشوتيةِ المطبوخة

على نارٍ هادئة

في طواحينِ الهواء التي تدور

بالمقلوبِ (المطلوبِ إثباتُه)

فيومَ قامَ الرَّفيقُ ماوتسي تونغ

بثورةِ الألفِ ميل

كانتِ الإمبرياليةُ نمراً..

(مِنْ ورق)

بأسنانٍ مِنَ القنابلِ الذَّرية

ومخالبَ مِنَ الاستراتيجياتِ الدِّيناميتية

المدروسةِ بعنايةٍ مُركَّزَة،

وليستْ بالعنايةِ المُركَّزة

كما اليوم،

على طاولته (الرفيق ماو) اليوم

يلعبُ بنا الشّطرنج

فوق ذرى…

حاوره: إدريس سالم

إن رواية «هروب نحو القمّة»، إذا قُرِأت بعمق، كشفت أن هذا الهروب ليس مجرّد حركة جسدية، بل هو رحلة وعي. كلّ خطوة في الطريق هي اختبار للذات، تكشف قوّتها وهشاشتها في آنٍ واحد.

 

ليس الحوار مع أحمد الزاويتي وقوفاً عند حدود رواية «هروب نحو القمّة» فحسب، بل هو انفتاح على أسئلة الوجود ذاتها. إذ…

رضوان شيخو
وهذا الوقت يمضي مثل برق
ونحن في ثناياه شظايا
ونسرع كل ناحية خفافا
تلاقينا المصائب والمنايا
أتلعب، يا زمان بنا جميعا
وترمينا بأحضان الزوايا؟
وتجرح، ثم تشفي كل جرح،
تداوينا بمعيار النوايا ؟
وتشعل، ثم تطفئ كل تار
تثار ضمن قلبي والحشايا؟
وهذا من صنيعك، يا زمان:
لقد شيبت شعري والخلايا
فليت العمر كان بلا زمان
وليت العيش كان بلا…