هيثم هورو
-١
كان حمزة فلاحاً نشيطاً وبسيطاً ، رحمه الله ، يملك جراراً من نوع فيرسون ، يحرث به كروم الزيتون والعنب ، لديه أسرة كبيرة مؤلفة من صبيان وبنات ،
أكبرهم صبياً اسمه مجيد .
بدأ مجيد بالذهاب إلى المدرسة الابتدائية الكائنة في قرية مجاورة لقريته ، تبعد عنها قرابة نصف ساعة سيراً على الأقدام وكما يتوافدها ايضاً تلاميذ من قرى أخرى .
لم يكن مجيد يجيد اللغة العربية ، كان يعاني من صعوبة التحدث بها لان الأغلبية الساحقة في المنطقة تتحدث باللغة الكردية ، لكن بالرغم من تلك العائقة اللغوية ، اصر مجيد على الدوام والاستمرارية في المدرسة ، ثم اتقن فيما بعد اللغة العربية وذلك ليحقق حلمه وإنقاذ أهله من بؤس الفقر والشقاء .
-٢
بعد ان اكمل مجيد المرحلة الإعدادية بتفوق في تلك القرية ، حيث انتقل إلى المرحلة الثانوية في إحدى مدراس مدينة عفرين ، لكن كان عليه أن يقف كل صباح باكر على مفترق الطرق ، ليقلّ سيارةً عابرةً دون أجرة متوجهة إلى عفرين ، هكذا كانت حالته في العودة إلى قريته .
واظب مجيد تعليمه بإرادة قوية، ونال الشهادة الثانوية ، وبهذا الإنجاز العظيم غمرت الفرحة والغبطة قلوب أفراد أسرته، لكن لم يحقق مجيد أمنيته الأخيرة ، فالتحق بإحدى جامعات جمهورية أوكرانيا ، فما كان على الوالدين إلا أن يتمنون التوفيق له .
-٣
انتسب مجيد إلى الجامعة فرع الهندسة المدنية ، وذلك بعد اجتيازه السنة التحضيرية .
مضت سنتين من الدراسة ، تعرف مجيد على طالبة أوكرانية ” سونيا ” ، تطورت العلاقة بينهما حتى وصلت إلى درجة الحب المتبادل والثقافات والعادات المتابينة بينهما لم تكن عائقاً امام عظمة ذلك الحب .
وقد كانت سونيا في غاية الجمال والبهاء ، تتسم بشفافية الروح وصدق المشاعر ، تملك ارادة قوية حيث خرقت كل العادات والتقاليد البالية التي كان يحملها مجيد في شخصيته الشرقية ، كما تمكنت سونيا بخلق شخصية جديدة من مجيد تتميز بعقلية مدنية حضارية .
ومرت الأيام سونيا ومجيد لا يفترقان أبداً ، ينتزهان في حدائق الجامعة يتبادلان المعلومات الثقافية والعلمية والحديث عن الحياة الاجتماعية لبلديهما ، إلى أن وصلت علاقة الحب بينهما إلى الذروة ، وهنا قرر مجيد بأن يخبر والدته عن الوشائج الغرامية الوطيدة المتبادلة مع تلك الفتاة الأوكرانية ، لكن لم تستقبل والدة مجيد هذا الخبر برحابة الصدر فأجبته بامتعاض وبلغة باردة ، ثم اردفت قائلة : لابنه العاشق اننا نريد أن تتزوج من إحدى ملكات الجمال والقمة في الاخلاق من بلدنا عفرين .
كرر مجيد ثانية يصف الفتاة الأوكرانية بأجمل الصفات الحميدة .
هنا اقتنعت الام بأن ابنها مجيد قد فقد صوابه ، ثم بدأت الدموع تمطر على خديها ، وهي تبحث عن الامل المفقود في سماء أوكرانيا .
– ٤
أفشت الام سر الحب بين مجيد وسونيا إلى حمزة والد مجيد ، فشعر هو الآخر بحزن شديد ، وأصاب بخيبة أمل لأنه كان ينوي ان يخطب لابنه فتاة من بني جلدته ، ويقيم له عرساً مميزاً في عفرين ابتهاجاً بزواجه وحصوله على الشهادة المرموقة.
لم يكن في يد حمزة اية حيلة ، سوى الانتظار بعودة ابنه من الغربة المرة ، وهو يطلق زفرات الأسى والحزن على سلوك ابنه .
-٥
حاز مجيد على شهادة الدكتوراه في الهندسة المدنية، ثم عاد إلى وطنه وبرفقته زوجته سونيا.
وفي المطار كان في انتظاره فقط أخاه الأصغر ، ثم توجهوا نحو قريتهم حيث كانت والدته تنتظره بولع شديد امام المنزل ، ثم أستقبلته بالأحضان ودموع الفرح تزرف من عينيها ، ومرحبة بزوجة ابنها الأجنبية بكلمات كردية فاترة .
لكن حمزة كان واقفاً على مصطبة بيته منتظراً ابنه ، فأسرع مجيد نحو والده فقبل يده ، ثم سلمت سونيا على عمها بلغة أوكرانية ، وأجابها حمزة بعبارة باردة تعبيراً عن عدم رضاه بزواج ابنه من فتاة أجنبية .
-٦
عاش مجيد مع زوجته في دار والده بغرفة مستقلة مليئة بالأثاثات المطلوبة .
مضت فترة قصيرة ، لاحظت سونيا بأن حديقة منزلهم تحتاج إلى الرعاية ، فسارعت حالاً في تقليم أشجار الفواكه وتنظيفها من الأعشاب الضارة ، ثم قامت بزرع الخضروات في خطوط مستقيمة ومتوازية ، وكما أولت اهتماماً كبيراً إلى أحواض الورود والزهور ، حيث جعلت محيطها جنة من جنان الفردوس .
اما حمزة أصابته الدهشة من نشاط سونيا ، وشغفها بالعمل الزراعي .
وبهذا الشكل ذاع صيت سونيا في القرية ، ولا سيما بين غاداتها ، حيث بدأت تتوافد الفتيات إلى منزل سونيا للتعرف عليها وعلى اجتهاداتها المميزة في حقل دارها ، وكما استطاعت سونيا ان تجذب قلوب زوارها بسرعة ، ولا سيما بأنها جميلة وشعرها شقراء وعيونها كلون السماء وأخلاقها في غاية اللطف .
وعلى اثر زيارات فتيات القرية المستمرة إلى دار سونيا وحديقتها المزينة ، تعلمت سونيا اللغة الكردية بسرعة مذهلة ، ثم توطدت أواصر صداقاتها مع فتيات القرية اكثر فأكثر إلى درجة انها كانت تنسى أحياناً بأنها أجنبية .
اما فتيات القرية ايضاً تعلموا من سونيا على الإرادة القوية ومواجهة الامور العسيرة في الحياة .
نعم سونيا هي أيضاً من فئة الشعب البسيطة ، حيث تأقلمت مع الجو الشعبي _ القروي _ العفريني دون حواجز نفسية ، ثم أصبحت تحضر الاعراس والمآتم بفعالية بملئ إرادتها ، وبالرغم من كل هذه السمات الحميدة ، ظل حمزة متشبثاً بوجهة نظره السلبي بأتجاه سونيا ، ولا سيما عندما كان يتلقى انتقادات من ذويه وجيرانه بسبب زواج ابنه من الأجنبية.
-٧
وفي إحدى الليالي الصيفية ، اسعف حمزة على اثر نوبة قلبية إلى مشفى عفرين ، وبعد اسبوع عاد إلى منزله ليتابع معالجته الوقائية .
اما سونيا حزنت كثيراً على وضع عمها ، بدأت تقدم له الأدوية والطعام في المواعيد المحددة ، وليس هذا فقط بل كانت ايضاً تهتم بنظافة الغرفة والسرير.
اعتنت سونيا بعمها حمزة حتى استعاد عافيته ، ومارس حياته الطبيعية .
– ٨
حلت ليلة رأس السنة الميلادية ، استقبلت سونيا محبيها بحفاوة كبيرة ، ثم دخلت إلى المطبخ لتقوم بتحضير المشروبات ، التي اعتادت بصنعها في اوكرانيا ، رأى حمزة أثناء ذلك بأن سونيا تبذل جهداً شاقاً في صنع النبيذ المحلي ، فقال لها : عودي إلى ضيوفك واتركي هذا الأمر لي ، انت التي قمتي برعايتي كثيراً عندما كنت طريحاً في الفراش ، بالرغم من وجود العديد من البنات والأبناء لي ، لكن انتظري يا ابنتي العزيزة سأجلب لك كل ما ترغبين من المشروبات ، ثم سافر حمزة على متن جراره إلى مدينة عفرين ، ودخل إلى دكان المشروبات ، ولأنه لم يحتسي بحياته المشروبات الكحولية فطلب من البائع أنواعاً مختلفة منها ، وعاد حالاً إلى بيته مرتاح الضمير ، لأنه استطاع أن يرد الجميل لسونيا الجميلة والحنونة .
قدم حمزة ما جلبه من المشروبات إلى سونيا فقالت له : انا أخجل منك يا عمي ، لقد أتعبت نفسك كثيراً ، رد عليها عمها وقال : انتِ تستحقين اكثر من ذلك ، ان وقوفك إلى جانبي وقدمت كل جهد من أجلي ، لم ولن انسى لذا يطيب لي في هذه المناسبة السعيدة ، ان اقدم لك شديد اعتذاري ، واعبر عن أسفي حين عارضت ابني مجيد على اختيارك كشريكة في الحياة ، لكن حالفنا الحظ السعيد ، بأنك إمرأة رؤوفة فلا يسعني إلا أن اتمنى لك ولأبني السعادة والعيش الرغيد في الحياة ، وكل عام وانت بخير يا ابنتي الرقيقة الناعمة ! انهت سونيا حفلتها مع ضيوفها في جو ساده السرور ومنتهى السعادة ، وكانت تردد أثناء توديعها لصديقاتها ذكراكم ستبقى خالدة في قلبي .
– ٩
_ يبقى هناك سؤالاً يراودني بازدحام هل من مثيلات سونيا الأجنبية كثيرات في مجتمعاتنا الشرقية ، وتندمجن معها وتستطعن بسلوكهن تغيير العقول والآراء المتشنجة كحمزة وامثاله دون عُقد سيكولوجية قاتلة.
_ وكما يخطر على بالنا هذا السؤال عنوةً ، هل هناك من امثال سونيا والعم حمزة في القارة الاوربية ؟؟؟