كمال جمال بك
بعد ولادته الثّانية في آذار 2011 تختزنُ مُدوّنةُ الأحداث اعتقالَ الصديق الأديب والصحفي ثائر الزعزوع العامل في الإعلام الرسمي من أمام باب وزارة الإعلام في دمشق.
ولعلَّ هذه التجربة مع ما تلتهُ من متغيرات في التهجير من سوريا إلى مصر وصولاً إلى فرنسا تُشكّل في سماتها العريضة خطَّ سير روايتهِ الجديدة ” سلطة أصابع “، لا من حيث تسلسل الأحداث، بل من حيث ما خلّفتهُ هذه التجربة من ندوبٍ وتصدّعات في النفس.
وبين أَلمٍ مُتدفقٍ ـ كشلَّالٍ ـ من سَلَطَةِ أَصَابِعٍ، وبين أَملٍ معْقودٍ ـ كوردةٍ ـ على سُلْطَةِ أَصَابِعٍ، تنسكبُ”سلطة أصابع ” حُرَّةَ ـ كدمعَةٍ ـ وحارَّةً ـ كجمرةٍ ـ وعاريةً من التَّشكيلِ، في سريرِ نهرٍ تضُمُّ ضِفَّتا أَوجاعِهِ وأَمانيهِ، زوارقَهُ الورقيَّةِ ( المَقْشُوْعَةِ ) من دفتر رسمِ فجيعتِنا السُّوريَّة.
ثائر الزعزوع شاعر وروائي وإعلامي توزَّعتْ موهبته على أنواع أدبيَّة وإعلامية متمايزة، بدأها بعد منتصف التسعينات من القرن العشرين، فكانت بذرته الأولى مجموعة شعرية حملت عنوان ” لأنّه الوقت لأنّك امرأة”، أتبعها بروايتي” رحلة زاعم” و” السلطان يوسف” المستلهمتين من التراث الفراتي، ثم بالمجموعة الشعرية الثانية ” المسافر” عام 2000. وله أيضا العديد من البرامج الإذاعية والتلفزيونية، إضافة إلى مجموعة كبيرة من مقالات الرأي والزوايا الصحفية.
وفي برزخ العقد الأول من الألفيّة الثالثة انكفأ الشاعر والروائي والإنسان على العمل الوظيفي في الصحافة والتلفزيون والذي استهلكه عشرين عاماٍ بلقمة العيش المريرة. إلى أن عاد بعد تجربة اعتقال أمرّ إلى إصدار روايته الثالثة ” سلطة أصابع ” من حيث يقيم في فرنسا.
بدقّة لغويّة عالية الجودة فنيّاً لا يُوصّف ثائر الشخصيات والأحداث والأمكنة فحسب بل يُشرّح ماوراء تفاصيلها.
” إلى فدوى فيها شيء منك ” بهذا الإهداء البسيط والدافئ والموجوع يتوّج الكاتب مدخل روايته، وفي هذا الإهداء دلالات عدّة ذلك أن فدوى سليمان رمز من رموز النضال السلمي في كلّ مراحل حياتها، وحتى رحيلها إثر مرض عضال في منفاها الباريسي، وقد تعرضت كمثيلاتها من الحرائر إلى صنوف من العذابات والملاحقات الأمنية. وفي الشأن العام أيضاً هي فنّانة وشاعرة. أما في الشأن الخاص فهي أخت زوجة الكاتب وصديقته وقد لازمها طيلة أيامها الأخيرة في مرضها.
من فدوى ندلف مباشرة إلى مها جاد الرمح الشخصية الرئيسية في الرواية والتي تكاد أن تتقاطع ملامحها مع فدوى وميّ وطلّ ومثيلاتهن ممن دفعن ضريبة فاتورة الحرية غالياً.
زمنياً ترصد الرواية أحداثها واقعياً في دمشق قبل 2011 وماتلاها، وتخيليياً في دمشق 2030.
وفي التشكيل تتوزّع الرواية إلى خمسة أقسام: مها الأولى عوالم غير مرئية، مها الثانية 180 درجة، مها الثالثة المنفردة 3 ، مها الرابعة وجوه مستعارة، وأخيراً دمشق 2030. وفي كل جزء من الأجزاء الأربعة الأولى هناك مرحلة نقرأ من خلالها الانعطافات في حياة مها الصحفية والابنة والزوجة والأم التي تدفع ضريبة حريتها اعتقالا ونفياً وإنكاراً، وعبرها يتراءى عالم مهول من الأحداث يُحيلنا من الفردي إلى العام. من الزنزانة المنفردة وأساليب التعذيب وألوانه إلى المعتقل الكبير الذي يجرّم من يتجاسر على قول لا في كهف الخوف والصمت.
مها لم تصمت، حتى بعد تهديد المحقق بأن يجعل من أصابعها سلطة للكلاب إن عادت للكتابة، هذه الأصابع هي الوحيدة التي نجت بها ” وظلت تقبض بكل ما أوتيت من قوة درابزين القصر العدلي كي تسند الجسد المتهالك”.
ومثلها أيضا لم يصمت الكاتب حين خطّت أصابعُه سرديّة هذه الرواية وفيها شيئ من معاناته، فعلى الرغم من أن الرواية تركز من ألف عذابات المرأة وقيودها الشرقية إلى ياء جراحها عارية في أقبية السجون، إلا أن تجربة المعتقل وما تخلفه من آثار تكاد أن تكون واحدة من حيث هي انطفاء نور الروح في الجسد.