بديالوج مترابط، ومونولوج مفعم بدراما اجتماعية ثقافية سياسية عسكرية، لتفصح عن سيكولوجيات شخوصية، تجسّد نتانة الإيديولوجيات الحزبية السياسية، الكردية والعربية والدولية، قادتها رُواة ووصف وزمكانية وصراع وحوار وعقدة وحبكة ومواضيع وأفكار، تندرج جميعها تحت تقنيات الرواية الأكاديمية، ينطلق بنا الشاعر والروائي الكردي «جان بابيير» في روايته الجديدة «هيمَن تكنّسين ظلالك»، الصادرة عام 2019م، عن داري نشر، الأول «مقام» العربي المصري، والثاني «آَڨا» الكردي السوري، والتي تتألف من مائة وثلاثة عشر عنوان وفصلاً، وستمائة وخمس وتسعين صفحة.
تبدأ الرواية من الفصل الواحد والتسعين «التاريخ يسقط عليّ»، من عمقها، حيث يقول مَانو:
«أنا ابن عيشانه، ابن القلق الواضح، وريث سلالة الملاحم البائدة، أنتسب إلى الإمبراطوريّات منذ الأزل، أنا أكبر من عمري الفيزيائيّ، نعم يا ابن عيشانه أنت أطول عمراً من الممالك! كنت سائساً لخيول دياكو وحارساً لميره كور، وأنا مَن وضع النشيد الوطنيّ لمهاباد الذبيحة، وطردت الظلال من ألوان العلم، أنا ظلّ متواصل على مدى عمر الشمس، خانتني الأسئلة وحدها، هيمَن هرولت نحو غروب أيّامي، وها هي دموعي مدجّجة بالخيانة والغدر، مِمّن ولمِن تثأر؟ غداً سيطلبون رأسي المتنازع عليه بين الذاكرة والنسيان، ولن أستطيع أن أدفنني، وماذا لو لم تسمّيني يا مجّو باسم مَانو؟ هل سأكون عندها على غير ما أنا عليه الآن؟ وماذا يعني أن تتنازعك صفتان من سهل سروج، هذا كيتكاني وذاك شيخاني؟ وأنا أتأرجح بينهما، مَن الذي نصّبك وريثاً للأحقاب المنسيّة؟ ومَن الذي وكّلك على ممالك الكرد؟ لتكتب كلّ هذا الهباء والدم، أمامي كلّ هذا الخسوف بعمق الشرخ في داخلي».
جان بابيير، شاعر وروائي ومخرج سينمائي كردي. ولد في 27 آذار عام 1970م في قرية (بوزيك) بمدينة كوباني في غربي كردستان. صدر له حتى الآن، شعراً ورواية:
- شطحاتٌ في الجحيم (شعر)، 1998م – دمشق.
- الأوتاد (رواية)، 2000م – دمشق.
- ديوان شعر باللغة الكردية (Gewiriya Helbeste Za)، 2001م – بيروت.
- قراراتُ الخطيئة (شعر)، مشترك مع الشاعر صلاح الدين مسلم، 2003م.
- ثلاثية كُوْرستان:وضى الفوضى (رواية)، 2005م.صريرُ الأحدِ غرفةُ الأربعاء (رواية) 2007م.نبوءةٌ اغتالها التدوين (رواية).
- طفلٌ يلعبُ في حديقة الآخرين (شعر)، 2012م.
- عقدٌ قرانٍ في القصيدة (شعر)، مشترك مع الشاعرة الأمازيغية خديجة بلوش، 2013م – تونس.
- متنُ الغجر (شعر)، مشترك مع الشاعرة تارا إيبو.
- هيمَن تكنّسبن ظلالك (رواية)، 2019م – الجيزة وكوباني.
- ديوان شعر باللغة الكردية (Peyalên Janê)، 2019م – كوباني.
- خيط واهن (رواية)، ستصدر قريباً. إلى جانب عمله ككاتب، عمل أيضاً في الإعلام المقروء والمسموع والمرئي، فكان مخرجاً سينمائياً وتلفزيونياً، إذ عمل مراسلاً ومذيعاً للأخبار في قنوات كوردية، وأيضاً معدّاً ومقدماً للبرامج فيها، ومن الأفلام التي أخرجها، نذكر منها:
- أفلام وثائقية: منها (لالش، جيكرخوين لم يرحل، حارس التراث جليل جليلي)، فيلم صامت بعنوان (الخطوة).
- أفلام روائية: (نفرستان، الرمّان المحظوظ، الأغنية المتكسّرة).
- فيلمان قصيران، الأول بعنوان (الحلم)، والآخر (الزمن).
- ثلاثية كوميدية تحت عنوان (أمام الستارة). وللحديث بشكل أعمق عن الرواية وأهدافها ومبادئها ورسالاتها السيميائية، وللوقوف عن قلم كاتبها وفكره ومواقفه من الكتابة والحرب ومشاريعه المستقبليّة، كان لموقع «سبا – Siba» الثقافيّ هذا الحوار الطويل والخاصّ معه، والذي سينشر على حلقتين – قسمين: معاً… إلى أسئلتنا وأجوبة جان القيّمة:
- بداية… ماذا أردت أن تقول للقارئ الكردي والسوري معاً عبر «هيمَن تكنّسين ظلالك»، التي وصفتها في مقالتي النقدية بأنها «ملحمة روائية ناضجة وتحفة أدبية مبهرة»؟ وأنا كنت مستعدّاً لأنزف مع الشخصيات التي رسمتها في ذهني لأنجزها على الورق؛ لأنها كانت الأقرب إلى روحي، وتجرّعت معها أقداح الحبّ بشفاه الحزن حينما صادفني ألم أكبر من الرواية، بعد الرحيل المرّ والفقدان الذي لم ينتهِ حتى اكتملت بليلة الغدر والمذبحة، عرفت كيف يكون الحبّ، وكيف يكون الضياع، كتبت بعشق بما يعتلي في صدري، ولم أكتب بمثل هذا النقاء، لكن اليوم بعد نشر الرواية، مازلت أشعر بثقل ظلال الأحداث وبتلك الغصّة، عندما أقول اسم أحد الأبطال تخرج الكلمات من فمي جريحة، وترقص معي الأشجار لأقول لكم:أنتم الذين أشتاق إليهم أكثر من غاية القرار الذي اتخذته كراوي، هو أن أحسم أمري مع بداية الكتابة للنصّ السردي، الراوي يتسلّل بإيقاع متوازي إلى داخل الأحداث، لإيجاد البناء الخارجي للرواية، وانسجامه مع الخطوط الداخلية للصوت السردي، هناك رسائل كثيرة موجّهة للقارئ وحتى للناقد، كلّ شخص سيتلقّى كمية من الأسئلة حسب قدرته المعرفية لإسقاطات هذا النصّ، وبجملة مختصرة هذه الرواية تقول لنا «كي لا ننسى ماذا حدث في تلك البقعة الجغرافية (كوباني)»، وأردت أن أقول أن الحبّ ينمو في أكثر البيئات مطاردة.
- من إحدى مهام الكتابة «توثيق التاريخ». ما التاريخ الذي يوثّقه «جان بابيير» في روايته؟ بإمكاننا أن نطلق عليها تسمية توثيق تاريخ لمرحلة زمنية، ولأشخاص تمّ رصد حياتهم في أماكن مختلفة، إذ أن البؤرة المركزية هي كوباني، إلّا أن الشخصيات تنتقل مع آلامهم وهمومهم إلى أماكن كثيرة، حاملين الذكريات كالحدبة على الظهر، ويعودون بذاكرتهم إلى المكان الأول، كمدمن يقود طريقه يومياً إلى الحانة، يتحسّس موضع جرح ذاكرته كطقس أليم.لا يمكنني أن ألوم الوقت أو القطارات التي ترمي بالمسافرين على محطّات الصفحات والفصول، أو الطلقات والقذائف التي تحصد الأرواح، في تلك الأرض الملعونة، فقط كنت أتمنطق بكمية كافية من الوجع، لأمضي مع حيواتهم إلى عيد الأموات، وأمسك الإنكار ليدوّن اعترافه كوشم على جسد الحقيقة.توثيق هيمَن، هي غرابة ما يكفي أن يرسم الدهشة، وتطوف الأحداث كالأشباح يعودون من الموت، ليكونوا هنا بأسمائهم.
- سأصُغ سؤالاً آخر:برأيك وحسب تواجدك على مواقع التواصل الاجتماعي هل قارئ اليوم قادر على حمل مسؤولية حماية ما يوثّقه الروائيون الكرد عن آلام الشعب والقضية؟ لم يعد القارئ كما كان، بات يخاف من (بوست) طويل على صفحة التواصل، ما بالك برواية؟! هناك قلة من المتابعين الذي يتلهّفون إلى القراءة لكن مهما يكن، الروائي مهمّته أن يروي ما يحدث، ويكون مرآة تعكس صورة مجتمعه بسلبياته وإيجابياته. الراوي لا يبيع نصوصه في سوق كاسدة، يمنحها لمن لا يعرف قيمتها، بل لم يقدّرون قيمتها الفنّية والأدبية، وجلّ ما أخشاه من الآخرين تشعر رواياتي بالوحدة بعد رحيلي، مثلما عانيت تماماً، هي محاولة إزالة الجبل الذي يعترض طريقه، أو كالحبل السرّي يلتفّ حول رقبته، حتى يولد جنين الرواية.
- تزامنت رواية «هيمَن» مع انطلاقة الثورة السورية، ولكن تطرّقك لها كان خجولاً، في حين ركّزت على مدينتك كوباني، التي كانت صلب الرواية.بماذا تجيب؟ هي نموذج مصغّر، عمّا فعلته الحرب، تطرّقت للثورة بخطوطها العامّة، والتي مع الأسف إلى لآن يحصدون الأرواح تحت ذلك المسمّى، لكن كلّ تركيزي كان منصبّ على مدينتي؛ لأنني أنتمي إلى تلك البيئة، فوجدت من الصائب أن تكون في رأس اهتماماتي؛ لأنني أعرفها أكثر من أيّ مدينة أخرى، وأعلم ملامحها وسكّانها أكثر من أيّ مكان آخر، أعلم وأن يعلم العالم إرهاب داعش، الذي صبّ جام غضبه وحقده على هذه المدينة، تحت مسمّى الدين، كنت منشغل بها أكثر من غيرها، الجريمة لا تبرّر من أيّ جهة كانت، ومَن يتواطأ معها.
- شبّهت مجزرة – مذبحة كوباني عام 2015م، والدماء التي هدرت فيها ومنها بالعادة – الدورة الشهرية.ما الإيحاءات والدلالات التي أردت إيصالها إلى الرأي العام؟ المدن أيضاً تصاب بعادتها الشهرية!! وما الدم الذي سال في شوارعها إلّا تلك العادة، إذا تعرّضت أكثر من مرّة للهجوم، وأصبحت كالعادة السرّية، وهيمنة الأحداث الدموية على النّص، وهذا ما أردت الابتعاد عنه أحياناً، فلجأت إلى التشبيهات اليومية التي تحدث مع كلّ شخص، لتكون أقرب إلى حياتنا اليومية التي نعيشها، والتي تحيط بتلك الجغرافية من أصابع الحرب العبثية، وإن الحياة ستنتشل نفسها من براثن الموت، بهذه العظمة ترمي بالجهات، وتختار حراسة عتبة الحرّية؛ لكيلا يطؤها اللصوص.
- قبل انتقال «مَانو وهيمَن» إلى جهة كوباني قادمَين من مدينة رُها – أورفة شاهدا على الحدود تحرّكات مريبة؛ إذ عناصر من الداخل التركي تلبس زيّ وحدات حماية الشعب.هل هذا دليل على براءة الإدارة الذاتية من اتهامها بالتورّط في ارتكاب المجزرة؟ هل أردت أن تثبت للشارع الكردي بأن تركيا هي المتهمة عنها؟ ما أهداف ودوافع هذه الإبادة؟ هي مجرّد تساؤلات. بالطبع كانت هناك أطراف داخلية وخارجية شاركت في المجزرة، وليس مهمّة الروائي – الراوي توزيع صكوك البراءة أو لوائح الاتهام. أسئلة وردت على ألسنة الأبطال، ومازالت بلا أجوبة صريحة إلى الآن، وضمن الأحداث تتساءل هيمن: «إن كانت القوّات تحتفل بتحرير صرين أين هم قوات الأسايش؟».وبإصرار كان كلّ من مَانو وهيمَن يحاولان فكّ شيفرة المجزرة وتوثيقها بالكاميرا والكتابة، ومحاولة إيصال الخيوط مع بعضها.ربما لو قام الضحايا من قبورهم، وأخبرونا كم واحداً منهم ذهب قرباناً لهذه المدينة لكنا عرفنا الحقيقة، لو استيقظ هؤلاء الضحايا من قبورهم؛ لأشاروا بأصابعهم نحو الجناة، وقالوا لنا نحن أسماء وأحلام، ولسنا مجرد أرقام.
- لكن مهمّة الراوي هي كشف الحقيقة أيضاً؟ ثم إن الناجين من تلك المذبحة قادرون على كشف الحقيقة. لم هم صامتون ساكتون برأيك؟! إن الراوي ليس محقّقاً، وإن كان يتقصّى الحقائق، يستحضر الشخوص إلى مجلسه، يحاورهم على طاولة، وأحياناً يتصافحون ويشربون معاً فنجان قهوة أو يبكون معاً، لذا يخشى الرحيل الدوري في مواسم الموت أنا على ذلك تماماً، أشرب معهم المحرّم، وأرتكب الموبقات، وأغامر معهم بهجرة غير شرعية إلى أحضان الموت، أتفاوض معهم في المتن والحوار، ونفرش معاً على الأوراق الاعتراف، نفضّ النزاعات ونتقاسم المعاناة في الجمال والقبح.
- هل الإعلام الكردي كان فاعلاً في نقل مجريات المجزرة للرأي العام الدولي والعالمي، بموضوعية وشفافية، أم أن التحزّب والإيديولوجية كان له كلمته؟ لا يوجد إعلام موضوعي ومهني، هم أشخاص مثلنا يمارسون المهنة، حسب سياسة الجهة الإعلامية، قد يخرج أشخاص يسعون لإبراز الحقيقة، وهذا ما نوهّت إليه من خلال عمل مَانو في تلك القناة التلفزيونية، وكيف ترك العمل بسبب أدلجته، وصار يعمل صحفياً مستقلّاً؛ لرصد الحقيقة.صور النساء والأطفال لا تحتاج لإعلام؛ لتقارن بين الباطل والحقّ.
- قلت في فصل «مدثران بالخيبات… يرقصان في حضرة الحزن»: «خمسمئة أغنية تمّ وأدها في سحور ذلك اليوم».ما العدد الحقيقي غير الرسمي على الإعلام لضحايا مجزرة – ليلة الغدر في كوباني، خاصة وأنت كاتب مطلع على الوضع ومآلاته وأسراره؟ لم يتم الآن تحديد العدد، للضحايا، إلّا أنهم في كلّ شارع من المدينة يشيرون إلينا، العدد التقريبي هو قرابة خمسمائة ضحية تكتب، وألف جملة بهالات الحزن تتزيّن، وتتوه المعاني على القبور بمفاتن الفقد، أيّ جلد أكثر من هذا وأنت تعيد ثانية قتل مَن قتلوا؟ لترفع عقيرة التدوين على الموت، وتتلمّس وجوههم من بعيد، لتعود المعاني إلى صوابها بألق الدم على هيئة شهيد.
- وهل ذهبت دمائهم على مشانق الضياع؟ في هذا الغبار الكوني لا شيء يذهب طي الجحيم. نبحث في غرف ذاكرتنا المظلمة عن ضوء عن أجوبة، بأعصاب مستلمة وهدوء نحتاج لاقتناص الحقيقة، نستأنف الطاقة لنهرب من ذاكرتنا التي تتربّص بنا. القيام بالأعمال الأخرى لا يجدي نفعاً، من أجل الابتعاد عن التشوّهات النفسية الناتجة عن الأحداث التي مررنا بها. وأتساءل بدهشة وإرباك إذا انتصر الجحيم بأهدافه المرجوة، ماذا يقول لنا الفردوس الأعلى والناموس الكوني بهذه المعادلة المربعة التي ينقصها ضلع، لكن أحلم بالرواية وطناً آمناً أفتقره في هذه الخارطة الكونية العاهرة.
- للرواية خصوصية المكان (مدينة كوباني)، وخصوصية أهلها، سواء بالعادات والتقاليد أو الاندماج والامتزاج ببقية المجتمعات المجاورة، يصحب ذلك ضوابط محدّدة في العلاقة بين الرجل والمرأة والتربية الاجتماعية والعائلية، فتظهر فيها أن المجتمع الكوباني وريفه لا يخترقه إلا حضور السلطة السياسية والاختناقات الحزبية واحتضانها المتحارب لكلّ المناسبات الأليمة.هل ندمت لخروجك مع الثوّار في شوارع كوباني؟ ولماذا؟ لكلّ مجتمع خصوصيته، ومن خلال رواية هيمَن انطلقت من تلك التفاصيل الصغيرة لخلق هذه القصّة الكبيرة، لم أبتعد عن بيئتي، حاولت أن أكون صادقاً معي، ولكيلا تنسى يوماً كيف كانت كوباني، لم أندم لأني كنت يوماً أهتف، قد أندم لأننا لم نرفع قبضاتنا منذ زمن بعيد في وجه الظلم.كوباني هي أناس وأسماء وشوارع نتعثّر بذاكرتنا وذكرياتنا فيها، مهما ابتعدنا عنها، حاولت أن أرصد الحياة اليومية للأشخاص، ورسم معالم الأماكن، وكيف طالها القصف وتحوّلت إلى ركام، كما ذاكرة سكانها بوجدهم الكبيرِ سائلين: عمن قام بتشويه لون الحياة. أنت تشاهد خطوط القدر على جبهة الأيام تحت سطوة القذائف على الأرض المرتعدة، وهي حُبلى بالقنابل لتقول: فقط نحن نشبهُنا ضحايا الأرض والتاريخ، ولا يشبهُنا أحد، لذا تكتب ما يجب أن يكتب.
- ما سرّ تسمية بطل روايتك باسم «مَانو – مَاني»، وهو اسم أحد أنبياء الديانة الزرادشتية؟ لم أفكّر كثيراً في التسمية! لكن ذلك الشخص الذي كان موجوداً يوم ولادة مَانو أسماه بذلك الاسم. ومن عادات كوباني وغالبية الكرد أنهم يطلقون اسم الضيف على المولود، وبما أن الضيف لم يكن يحب اسمه قال للوالد محمد: «اسمك محمد واسمي مصطفى، أسماء أنبياء، فليكن هذا الولد اسمه ماني، وهو أيضاً نبي، وكان أحد تلامذة جيكرخوين، وذو توجّه يساري ماركسي ربّما، كان مطلع على التاريخ والثقافة أكثر»، وهكذا أصبح مانو.واكتمل بدر اسمه وملامحه مع الصفحات، والأسماء قد تضع أغلالاً على معاصمها، كنغم الأحرف التي تشكّلت منها اسمه، ونهبت المعنى.
- «ما أكتبه ليس موجّهاً إلى شريحة معيّنة، أنا أكتب للذين يستطيعون إدراك ما أكتب، ولست خاضعاً في كتاباتي لمذهب أدبي محدّد».رائحة مذاهب أدبية كانت تفوح من «فوضى الفوضى»، والآن في «هيمَن تكنّسين ظلالك». هل هذا يعني يا جان أنك تتمرّد على تقنيات الكتابة، وأن المذاهب الأدبية تقف حاجزاً في وجه الإبداع والمبدعين؟ أنا لا أحبّ الكتابة ضمن أطر محدّدة؛ لأنها تحدّد حرّية الكتابة وتعيق الإبداع!لا أستطيع مراقبة نفسي، هل ما أكتب واقعي، أم رمزي، ورومانسي…؟! ونفس الوقت أكتب. الكتابة بالدرجة الأولى وجدانية. لنترك حالتنا النفسية والشعور الذي نعيشه ينساب كجدول ماء، ويأخذ مجراه، والكتابة في مذهب أدبي محدّد هي تقيّد كما التزام الشاعر بالقافية، فيضطر لمراعاة القافية أن يبحث عن كلمة من نفس القافية، لذا بالنسبة لي أن أغوص تجربة الخوض في عمل كامل دون أن أهمل الوصف والسرد والحوار بشكل يليق بما ذكرت، هذا ما أقوم به في أيّ عمل أدبي، في بناء الشخصية والدخول إلى انفعالاتها الداخلية، دون أن أنسى انفعالاتها الخارجية، التي تعكسها ملامحها وإيماءتها، وأنت وسط كلّ هذا لن تستطيع مراقبة نفسك في مذهب تكتب، أحاول كسر السائد والنمطي.
- إذاً: جان يعتبر المذاهب الأدبية مجرّد فوضى نظرية، لا أهمية لها في الأدب؟! ليس هذا بالضبط ما أعنيه، هناك مبادئ وضعت من قبل المدرسة الرومانسية، وكذلك الواقعية، لكن انظر معي إلى العالم الثالث هل أوجد نظرية أدبية خاصة به؟ ولماذا يجب أن نسير على خطى المؤسّسيين الغربيين؟ لدينا خصوصيتنا وإرثنا الحضاري، لماذا لا نستطيع إيجاد شيء نابع منا، كما أوجد اللاتينيون الواقعية السحرية؟ ألم تكن هذه الواقعية السحرية موجودة في تراثنا؟ لماذا لم يتطرّق إليها كتّابنا في كتاباتهم؟لذا أعتقد أن الكتابة والمراقبة في نفس الوقت لا يتفقان، قد ننتقل في فصل واحد من الرواية بين عدّة مذاهب، هذا يعود إلى الحالة السيكولوجية التي نعيشها مع الأحداث، وأن لا نتجاوز المبادئ الأساسية من وصف وسرد وإلى ما هنالك.
- لنعد قليلاً إلى الأسلوب اللغوي، فقد تطرّقت في الرواية إلى الكثير من الأغاني والجمل الكردية… هل يدلّ ذلك على خصوصيتك ككردي، أم لإغناء الرواية فقط؟ الرواية هي جامع، وكما تسمّى ديوان العالم. فهي تحتمل مزج أكثر من جنس أدبي، وكذلك شاعرية اللغة والنزعة الفلسفية، لذا عندما نستخدم مفردات كردية أو أغاني كردية، هي تعطي غنى جمالي وآفاق رحبة للرواية، إن كانت في موضعها ومكانها الصحيح، وأيضاً تشير إليّ كردي، وأن أقول شيئاً بلغة حليب أمي، أحدّد جهة القلب للشخوص.الكردي يتسلّح بالأغاني في وجه الموت، تقرّبه من الهدوء الداخلي؛ نتيجة وقوعه على جغرافية ملغومة وتاريخ يستنزف دمه قطرةً قطرة، لذا غنّت ورقصت هيمَن على المقبرة، تلك الكلمات والأغاني مشغولة ببذخ الألم، لما سال من دم في كوباني، لذلك الفقدان الكبير.
- عهدنا في رواياتك أبطالاً خالدين في الذاكرة، خاصة البطل والبطلة، واللذان كانا يجسّدان دور العاشق والعشيقة من خلال ملحمة عشق أسطورية، كما في روايتي «الأوتاد» بين «شَاهو وأفين»، و «فوضى الفوضى» بين «كُوْرستان ونَازو»، والآن في «هيمَن تكنّسين ظلالك» بين «مَانو وهيمَن».ما الرسالة التي تودّ طرحها؟ وما الرابط الروحي والعضوي بين هذه الشخصيات المتلاحمة؟ أحياناً الألم والانعتاق للحرّية في سيكولوجية الأشخاص تمنحهم إكسير الحبر الخالد، في البحث عن أشكال شخصيات ارتأيت أن تكون قريبة منا تشبهنا، تخلق في أيّ زمان ومكان مساحة من الحبّ، كأحد مكوّنات العمل، وإيجاد شخصيات على نمط هيمَن ومَانو أعطى للرواية ثقل آخر من حيث خصوصياتهم، والتركيبة الشخصية من تفكير وأقوال وأداء، وبالتأكيد شخصيتي مَانو وهيمَن مختلفان عن نَازو وكُوْرستان وشاهو وأفين؛ لأن كلّ منهم وجد في زمان وظرف غير الآخر، هم ليسوا نسخة عن بعض، لا يعقل أن يكتب روائي شخصياته من نفس الطراز، ولا كلّ رواياته بشكل واحد، لكن أن تكون لدي ملامح خاصة بالكتابة لتميّزه عن الآخر، حتى السرد من رواية لأخرى يختلف، لأن الحدث يفرض نوع الحوار.بالطبع الزمكانية تختلف، والشخصية من حيث التركيب تختلف أيضاً.
- تتميّز الرواية بتقنيات أدبية باهرة وكثيرة، ومنها عنصر – تقنية الراوي… كم نوعاً من الرواة استخدمتها في الرواية؟ وإلى أيّ مدى روائي فكري مهم تعدّد الرواة؟ تعدّد الرواة في رواية هيمَن، بين الراوي والمروي له. الراوي الصوت الأول، الذي كان يروي؛ لأنه كان ملمّاً بالشخصيات التي يروي عنهم، ورواة آخرين، إذ لا يمكن لشخصية واحدة أن تحكي عن كلّ الشخصيات. هو انعكاس لها وسيصبحون مرويين، الراوي الذي اتكأ على وسادة المحايد المراقب للشخصيات ويحكي عنها حسب كلّ شخصية ومساحة الحيّز الذي يشغله في صعود وهبوط الأحداث.في النهاية الراوي الأول هو مَن يقود عملية تسيير ونمو الشخصيات، هو الذي يكسوها الخير والشرّ، ويسقطه في فصل ما ويرفعه في آخر، رغم وجوده في المنطقة المحايدة.
- ما التقنية الروائية الأكثر قرباً وصداقة من جان، والتي تُخرج الأفكار من مخيّلته؟. منذ دونكيشوت وإلى هذا العصر، مرت الرواية بكثير من المراحل، وشهدت أشكال عديدة، وخاصة في وسائل الاتصال وعصر المعلومات. التقنيات أصبحت أكثر تنوّعاً، الروائی یستفید من تقنيات الفنون والأجناس الكتابية المختلفة، والمونتاج، والمشھد، والفلاش باك.أنا أستخدم تقنيات متعدّدة حسب ما تستدعي الحالة، فيجب على الروائي أن يستخدم تقنية ناجحة تسرق القارئ منه، لتضعه يتناغم ويتعايش في الأحدث داخل الرواية، أحياناً الأدوات التقنية عندما تكون واضحة تفقد لذة القراءة.
- غلبت على رواياتك الطابع الفلسفي الشعري. ما أهمية ذلك بالنسبة لجان قارئاً وكاتباً؟ ألا تتفق معي أن هذا النوع من الروايات هو مزيج من الأنواع الأخرى؟ وضّحت في سؤال سابق لك، الرواية يمكنها أن تجمع أكثر من جنس أدبي، إن عدنا إلى اللغة الشعرية فهي نابعة من ثقافة الكاتب التي اكتسبها نتيجة مطالعاته الفكرية والمعرفية، التي تزيد من تجاربه في ترجمة خيالاته، في تشخيص المشهد الوصفي والحواري، كذلك يرتكز على رؤاه الفلسفية لقول وتفسير الأحداث المحيطة به بشكل تفسيري، كما أنها مرآة تعكس صورة معبّرة عن استناده على الحالة النفسية والاجتماعية لأشخاصه سعياً وراء أعماقه.وهكذا تأتي اللغة الشعرية، ومع التجربة الداخلية الفنّية والجمالية منسجمة مع النصّ، إن كان يستطيع صوغها في خدمة النصّ. وتقارب المعرفة الفلسفية يعطي للرواية بُعداً وجمالاً آخر، عن طريق تقنية السرد واللغة، لمقاربة روائية للنزعات الفلسفية والتبئير، على الرغم من أن الدلالة والهدف من استخدام هذا هو التباعد الزمني واختلاف المكان، و ظهور الفلسفة في الرواية ليس وليد اليوم.
- بنية الحوار كانت درامية، تفوح منها أحياناً الكوميديا السوداء، وأحياناً كثيرة الواقعية الشعرية الكثيفة. هل أدّت هذه الحوارات وعبّرت عن ثقافة الشخصيات وآرائها؟ الحوار هو بالأساس لقاء شخصيات أو أكثر في أحداث تستدعي النقاش، ومن هنا، كانت الحوارات في الرواية متفاوتة من حيث الرؤى الفلسفية بين شخصيتين مثقّفتين وشخصيات فاعلة ومؤثّرة، وفي نفس الوقت ينتمون إلى بيئة ريفية، حتماً تختلف حواراتها.مع هيمَن ومَانو نشعر بتلك الشاعرية أو السرد الفلسفي، في حين لا نجد عند عيشانه أم مَانو تلك الشاعرية، لكنها تمتلك الحكمة والخبرة، وكأن وعي يختلط بوعيهم كراوٍ أول، كنت مَن يقود القطار، والشخصيات هم الركاب، لكلّ منهم محطة، لا يجب أن يهملها، ويمنحهم تلك الحوارات التي تكون على مقاس أفكارهم.
- بدا واضحاً في الرواية أن «الديالوج والمونولوج» كان معتمداً بشكل مطلق لبناء الرواية.هل ساهما في إيضاح ملامح الشخصيات وتفكيك القضايا، ورسم خطوط واضحة لبناء أفكار مجتمعية سليمة، وبالتالي تجنيده بالقيم النبيلة والمغرفة الواسعة؟ أعتقد أنه ساهم إلى حدّ ما في تبيان وإيضاح السلوك العام للشخصيات، وحتى الغوص في أفكارهم لبناء الرواية، لذا استخدمت الراوي الأول، واستعنت برواة آخرين، لم أخطّط بهذا الشكل، لكن في النهاية ظهرت الرواية على ما هي عليها الآن.في العمل الروائي أحياناً التفاصيل تكون أهم، والمونولوج يُحدِث الفرق بين صوت الراوي والصوت السردي، هل يتم بصوت هامس حميمي، أم صوت غاضب، أو صوت مرتفع، ساخر، صاخب، لا مبال… الخ.كلّ هذه الأصوات السردية تختلف بالطبع، ومن المهم على الروائي أن يكون واعياً بنصّه السردي، ماذا يودّ أن يقول؟ ما هو المونولوج الملائم؟ وكذلك؛ ما هو الديالوج المتماهي مع الشخصية ولا يقلّل من قيمة النصّ ولا الخطّ التصاعدي للأحداث؟ كلّ هذا يشغل الكاتب أثناء الكتابة وليس الحدث وحده، لذا حينما تخطّط لبناء الرواية قد تخذل مخطّطك في السرد أو الحوار.لا أميل بطبيعتي إلى الراوي العليم بكلّ شيء. أحاول من خلال العمل الروائي تقديم معرفة ما للقارئ.
- تميّز أسلوب الرواية بصفات عديدة، إذ تستند على زمكانية محلّية أصيلة ولكن بتقنيات الرواية العالمية.هل القرّاء غير المحلّيين قادرين على الغوص بين سطور الروايات المحلّية؟ أعتقد هذا يعود للقارئ. أما الراوي هو مَن يحرّك الأحداث، ويراقب الأفعال في الرواية. أنا أميل إلى الرواية إن كانت نابعة من المحلّية، مع التقنية السائدة في العالم، من حيث السرد والرواة والتئبير، أن تكون الشخصية الروائية من داخل الأحداث أو فاعلة في الأشخاص المحيطين به بصوت الراوي الأول، لمخاطبة القارئ مباشرة، وباستطاعة الكاتب أن يصبح هذه الشخصية الروائية من داخل الأحداث، أيّ أن يتلبّس انفعالاتها ويتكلّم عنها مباشرة، كأنّه يعيش علاقة حقيقية سواء في الذاكرة أو في النصّ.هي جلب للذات الروائية، أيّ تفاعل واندماج بين الكاتب والشخصية، وأعتقد أن القارئ قادر على فرز كلّ هذا عن بعضه في بيئته، وحتى إن كانت بيئة غريبة عنه.جلبت كلّ ما أوتيت من عشق إلى قلوبنا، إلى كمين القبلات، لتنتشلنا من النفاق، حانقين ينتقمون من العري البشري، استعنت بشهادات حية، أجساد جميلة كيف اخترقها الرصاص بنياشين القبح، ورقاب رخوة بترت بمدية حاقد ليدشن للموت شاهدة منتصبة أعلى من العار، هذا ما ذهبت إليه.
- قراءتك للمشهد الروائي السوري عامّة، والكردي بشكل خاصّ. لست في موقع أن أحكم على الرواية، وأقيّمها. حتماً هناك روائيون كبار، لكن في حقيقة الأمر إننا نفتقر إلى نقّاد أكاديميين لهم يستطيعون أن يفتحوا للكاتب أبواب مواربة هم لا يعرفون ما في داخلها هم أي الكتّاب حكوا حكاياتهم من الخارج، وما إلا أن يأتي الناقد ويحكيها من الداخل وشرح واستبيان المفرودة النقدية.
- وما الذي يحتاجه الناقد الأكاديمي – كردياً – حتى يغوص بشكل علمي ونظري في خفايا الكتاب… جهة إعلامية مموّلة، أم خبرة تراكمية؟ الناقد هو مَن يحاول استيعاب الروايات ويدرك التقنيات؛ ليصل إلى نتيجة مرضية تنصف الكاتب والقارئ، بشكل احترافي، لیعرف المشكلات التي واجهت الروائي، وكشف نقاط الخلل والضعف في البناء الروائي، ولِم لَم يتغلب علیھا، وكيف تجاوزها، ومن هذا النقد يوصلنا إلى الإجابات عن أسئلتنا: إن كان بالإمكان أن نجعل من تقنية الناقد وإلمامه معیاراً لسبر أغوار الروایة، وهذا عمل فردي يقوم به الناقد ولا علاقة له بجهة إعلامية بالخبرة والمعرفة.