في العام الماضي

خالد إبراهيم 

بما يماثلُ هذهِ الأيام من العامِ الماضي، كُنت بينَ أربعةِ جدرانٍ حقيرةٍ، باردةٍ كالثلجِ، مخيفةٍ، ولها أنيابُ وحوشٍ ضاريةٍ، و ذيلٌ كَنصلٍ الغدرِ، ونافذةٍ تَطلُّ على حاوياتِ القمامةِ والبشرِ.
كانت العتمةُ تتراقصُ بين حجارة ذلكَ الشارعِ الطويل كذئبٍ صحراوي، وكنت أتكلم مع الأشباح كما لو أنّها أحدٌ أعرفه: حدثوني عن هذه الدنيا، ثم اصمتوا، اقلبوا العدمَ إلى يقينٍ، ثم سأصدّقكم أنَّ الشمسَ تقفُ فوقَ شجرةِ الصَبّار، ولا تتأذى بأشواكها، ولا تصرخُ من الفَزع!
أنا داخلُ قلعةٍ، بيديَّ سيفٌ، وعلى ظهري حزمةٌ من الرِماح، و بندقيةٌ صدئةٌ، ولكنني اختبأ مثلَ فأرٍ، سيأتي يومٌ ولن أجدَ سوى نفسي هكذا بِلا وجهٍ ودمٍ 
وسيندمون عليَّ- الذينَ لم يصدقونني- وسنبكي معا، سنبكي كثيرا، كما لم نبك يوماً!
وربّما سأكون مِثل أثرِ قدمٍ في رملِ الصحارى.
أنا الأرضُ التي لم تعدْ تحتملُ أبناءها، ربما سأخسر المزيد أيها اللاجئ الذي في داخلي، وربّما لن أجدني فيك، وسأبقى أطاردُ كغجري حريتي وكبدوي صحرائي..
في مثل هذا اليوم قبل عام، أردتُ تجربةَ تناولَ ثمانين قرصًا لعلاجِ المفاصل و المعدة و الاكتئاب وفعلتها، كنتُ شجاعاً لأفعل ذلك، و لم أنجح بنقلِ ذلكَ الحزن خارجَ الجسد، فشلتُ كثيراً، أعترف أنني هشٌ في معرفة، أضعف من أن أغتالها، كان أمامي جدارٌ عالٍ بنته الملائكة ربما، لئلا أحظى بشرفِ ميتةٍ سريعةٍ.
أعترفُ أن هذا الجسد ليسَ ابناً للموتِ في الوقتِ الراهنِ، وعليه أن يضحكَ، أن يبكِي، سعيداً بهذه النجاةِ المؤقتةِ، وسعيداً بهذهِ المشاعر التي تتخالط في داخلي مثل أسماك في وحل!.
أعترفُ أنني لا أستطيعُ قتل نملة، ولا حتى قنص عصفور في قفص، بل حتى النظر في المرآة دون أن أضعفَ أمام وجهي، فكيف فكرتُ في القتلِ، في قتلي تحديداً!
من المؤلمِ أن يتقصّدَ صديقٌ لكَ على القيامِ بعملٍ يعلمُ سلفاً أنكَ لا تحبّهُ فيجرحكَ جرحاً عميقاً، ويخدشَ الألفةَ التي بينكما، ليشبعَ غرورهُ، وهذا ما يجعل العزلة ولو كانت موتاً ممكنةً
قبل عامٍ مِن الآن: 
كانَ بردُ أوروبا كخنجرٍ يغورُ في ظهري، يصفعُ الجلدَ ويصدّعُ العِظام، البردُ قاتلٌ آخر مثله مثل الغدر والأكذوبةِ..
قالت: اغرز سيف رجولتكَ، ودع ألوان الحزن تتساقط مِثل طيف وجهكَ العاثر أمامي صُبح مساء!، اذهب، اخرج، فهناكَ مَن كان يَبثُ الحب بأحشاء أنوثتي العطشى، ولا يبعدُ عني، اغرب عن وجهي فأنتَ لستَ سِوى قهرٍ وغرابٍ وبقايا رصيفٍ يتبولُ عليه رجالُ عابرون..
قالت: لا أحبُّ الممثلونَ، سأقتلعُ هذا القلبَ واقذفهُ ما بين مدينة بوخوم ودورتموند ومدفن حبل سرّتي في البلاد البعيدة جداً.
بكيتُ قليلاً وكتبتُ 
كُنتُ وما زلتُ رضيعاً يبحثُ بين نساءِ الأرضِ عن أمٍّ، تحمي صِغارها القُصّرَ الضعفاءَ من الأذى والشوق.. 
قالت ونزيف الشوق يسيلُ مع كلامها:
لم أرَ مِنكَ سوى العويل والبكاء والندمَ على شكلِ أغنيةً غنّاها قلبي يوما في رثاء المدنِ المنكوبةِ من كوباني وإلى آخر مدنِ الله !.
كانَ عليَّ أن أحلمَ
وها أنا ما زلتُ أحلم بكلِّ طاقتي.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

دريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…