هيثم هورو
-١
كانت تعيش في إحدى قرى عفرين عائلة فقيرة ، تزوجوا جميع شبابها وبناتها ، لكن بقيت الفتاة الوسطى ، لم يتقدم لها الفتى المناسب كي تقبل به .
تميزت هذه الفتاة من بين اخواتها ، بنشاطها واناقتها و حبها لأعمال المنزلية الريفية ، في رعاية الخراف والجدايا وطيور الدجاج ، حيث كانت ماهرة في فن الطبخ التقليدي على نار الحطب .
وكانت بارعة في قطاف الزيتون ، وكما نالت الفتاة
( ميديا ) شهرة واسعة بصفاتها الحميدة ، حيث اكتسبت شعبية كبيرة في محيطها ، ولا سيما كانت قارئة الفنجان .
في احد الايام الربيعي ، قامت ثلاث فتيات( مريم _ ليلى _ خديجة ) بزيارة ميديا في دارها ، حيث جلسوا جميعاً فوق المصطبة المطلة على دالية العنب في فسحة دارها ، والتي كانت تحيطها سلاسل جبلية وكروم الزيتون والعنب ، وغابات حراجية كثيفة ، تهب نسماتها العليلة على وجوه الزائرات ، وتستلذن بشرب القهوة ، والاحاديث الممتعة المتبادلة ، بعد ذلك مباشرةً ، قامت الفتيات بقلب فناجينهن تمهيداً لقراءتها من قبل المختصة ميديا المستضيفة .
– ٢
هذه الثقافة السائدة في تلك البقعة الشرقية ،
لازالت تتلقى اهتماماً لدى شريحة متواضعة الثقافة،
ولا سيما عند الفتيات والنساء ، وهم يعتقدون بأن مصائرهم المستقبلية ، مدونة في فناجين القهوة .
بدأت ميديا بقراءة طلاسم فنجان مريم اولاً : وهي تنظر إلى عيون مريم تارةً و تارةً اخرى إلى جوف الفنجان ، ثم ابشرتْ لمريم بأيام سعيدة قادمة إليها ،
وبعد نظرة عميقة أخرى قالت ميديا : لمريم ارى خاتماً ، وهذا يدل على تلاشي الغيوم الداكنة فوق سماؤك ، وحظ سعيد يحل عليك ، اما مريم تصغي إلى ميديا مسرورةً جداً ، وهي لا تراودها اي شك على ما تقول لها قارئة الفنجان .
وفي النهاية طلبت ميديا من مريم بأن تبصم قعر الفنجان وقائلة لها : اتمني بان يتحقق كل ما يجول في خاطرك ، بصّمتْ مريم قاعة الفنجان ، ثم قرأت ميديا ثانيةً وابْشرتْ مريم قائلةً : هناك شاب وسيم سيتقدم إليك ، ويطلب يدك ، ثم تابعت ميديا قراءة فناجين ليلى و خديجة ، وابشرتهن بمستقبل مشرق ،
عادت الفتيات إلى بيوتهن وقلوبهن مليئة بالسعادة المرتقبة .
-٣
وفي ذات يوم زارت إمرأة عجوزة برفقة شاب ، والدة ميديا بحجة انها مريضة ، استقبلت ميديا الزائرين بحفاوة ، ولكن سرعان ما أدركت ميديا خبايا زيارة تلك العجوزة والشاب المرافق لها .
بعد ان قدمت ميديا من الحلويات والقهوة إلى ضيوفهن ، لكن عينيها كانتا تلمعان ، من الغبطة والسرور ، وهي تنظر برقة إلى ذلك الشاب المرافق للعجوزة ، وكأنها تقول له أنك فارس أحلامي يا شيروان ، و بعد ساعتين من الحديث المتبادل بينهم ،
ودعت ميديا العجوزة وشيروان ، وهي مقتنعة بأن شيروان سيخطبها قريباً ، لكن وقعت ميديا في حيرةٍ تامة ، وكانت تتساءل كيف اترك والدتي المريضة طريحة الفراش؟؟
ولماذا لا يحق لي ايضاً بالزواج مع فارس احلامي؟؟
– ٤
لكن كانت ميديا مخلصة لأمها ، فصرحت من مآل زيارة العجوزة وشيروان ، ثم اردفت قائلةً لوالدتها : أمي الحبيبة ! سيؤلمني ضميري جداً ، اذا تركتك مريضة ووحيدة ، فردت الام بأحسن منها وقالت : نعم انا مريضة جداً والرحيل لا بد منه وهذا قانون إلهي ، وكما أثمن مشاعرك وعواطفك النبيلة اتجاهي ، لكن أرغب بتلهف شديد ان اراك عروسة بالثوب الابيض ، وام اولاد يا ابنتي الحنونة ، تأثرت ميديا من اقوال والدتها العقلانية والانسانية ، فارتمت بنفسها إلى حضن والدتها ، وكأنها كانت تريد القول لها : أصبت يا أمي ! وانت خيرة الأمهات في العالم ، وأمتزجت دموع السرور والحزن معاً على وجنتيها.
قالت الام : ثانيةً لابنتها المدللة ، اذا كنت تعتقدين بأن شيروان هو الشخص المناسب لك ، وسيسعدك في الحياة ، فأتكل على الله ولا تفقدين هذه الفرصة الذهبية وقلما يتكرر الحظ الجيد .
-٥
بعد اسبوع حلّ شيروان برفقة والدته ، ضيوفاً في منزل ميديا ، لكن في الزيارة استطاع شيروان الاجتماع مع ميديا دون والدتها ، ثم صارحتها قائلاً : انا اخطبك يا ميديا ! ردت ميديا عليه بإبتسامة خفيفة دون أن تنبسْ بكلمة ، ثم تابع شيروان الحديث قائلاً لها : لكن انا متزوج سابقاً وطلقت زوجتي ، ارجوا ان لا تتسرعي في اتخاذ القرار الان لكي لا تقعين في الاخطاء ، ولا تندمين على ما فعلتِ.
استغربت ميديا على صراحة شيروان ، وتحليه بالصبر ولا سيما انهم يعيشون في مجتمع بسيط وتقليدي ، و بعد دردشة متواضعة بسيطة على بعض الامور في الحياة الزوجية ، استأذن شيروان ووالدته ، ميديا ووالدتها وهما يأملان ان يتلقيا الإجابة في الوقت اللذان يرونها مناسباً .
– ٦
ولم تمضي وقتاً طويلاً ، زارت الصديقات الثلاث ( مريم _ ليلى _ خديجة ) ميديا ثانيةً ولتدعوها مريم ، ميديا إلى حفلة خطوبتها ، ثم شكرتها على قراءتها الصحيحة في الفنجان ، وقدمت لها هدية من اطيب العطور لم تتملك ميديا مشاعرها وبهجتها ، ثم أخبرت صديقاتها وقالت : وفي الأمس القريب ، زارنا شاب اسمه شيروان نلت اعجابه ونال ايضاً اعجابي ، بيد انه كان متزوجاً ، لكن طلق زوجته وهو الان يخطبني ، اما انا في حيرة تامة ، لا أدري كيف اتخذ القرار
الأنسب !! أجابت خديجة وتفوح من كلامها افكار تقليدية وقالت لها : قد يكون لهذا الشاب مشاكل اجتماعية جمة ، وتندمين على اختياره .
تغيرت ملامح سحنة ميديا قليلاً ، ثم اردفت قائلةً : لا يا صديقتي ! ان هذا الشاب ، وسيم وهو فارس أحلامي فلن اتردد على اختياره ، أجابت الفتيات ثانيةً وقالوا لها : انت فتاة مجنونة ، ولربما ينتظركِ مصائب لا تحمد عقباها .
– ٧
لم يمر وقتاً طويلاً ، ودعت ميديا خليلاتها ، ثم صارحت والدتها وقالت : أمي الحبيبة ، أثناء زيارة شيروان إلى بيتنا حيث صرح لي في اللقاء الثنائي انه كان متزوج وطلق زوجته فما رأيك وكيف تنصحيني؟ أجابت الام وقالت : هذا هو قدر ونصيب ، ولربما لم يتوفق في الزواج الاول يحالفه الحظ في الشوط الثاني وان يصيب الهدف تماماً ، ولا سيما ترعرعتِ في بيئة خالية من الشوائب الاجتماعية ، وهنا أصبحت ميديا لم تتردد في موقفها الايجابي اتجاه شيروان ، ثم اطمئنت على مستقبلها الزاهر .
تمت حفلة الزفاف ، وبعد مضي اسبوع العسل بدأت ميديا تقلق على والدتها المطروحة في الفراش ، فقرر حالاً العريس الجديد مرافقة زوجته بزيارة حماته الرؤوفة ، مصطحباً معهم بعض الهدايا الثمينة .
استقبلت حماة شيروان ابنتها بحفاوة بالغة وبينما ارتمت ميديا إلى حضن امها بتلهف ، متشوقة وباكية من سرور اللقاء ثانيةً مع امها التي خرجت تواً من المستشفى .
ومن ثم قبْلَ شيروان يد حماته ، ومتوسلاً الله ان يعيد اليها العافية ، واما ام ميديا كادت أن تنسى آلامها جراء هذه الزيارة ، ثم عبرت عن مشاعرها اللطيفة .
– ٨
سرعان ما انتشرت خبر زيارة ميديا وزوجها إلى القرية ، سارعت صديقات ميديا لزيارتها ، حيث جلسوا جميعاً على مصطبة امام غرفة والدتها ، ثم بدأوا يمطرون الاسئلة على ميديا بخصوص شيروان ، واجابت ميديا على الأسئلة وقالت : الحمد لله لقد حالفني الحظ ، بأن زوجي طيب القلب ولطيف جداً ، حينها تفاجئت الفتيات بتلك الاجوبة ، وبدأ الحماس إلى قلوبهن ، فبدأت خديجة تطرح سؤالها على ميديا ، هل لزوجك اقارب يتسمون بنفس صفات زوجك ؟
استغربت ميديا من سؤالها ، ثم قالت لها : كنت تقولين لي انك مجنونة يا ميديا ، كيف تقبلين بشاب طلق زوجته ؟ اما اليوم تسألين عن اصدقائه وأقاربه ، ثم تابعت ميديا مدح زوجها بأجمل الصفات ، وتحمست الفتيات هنا اكثر فأكثر وتناولوا القهوة ، لكن لسوء حظهن ، لم تستطع ميديا قراءة فناجينهن بسبب كثرة الضيوف ، ولم تمضي ايام كثيرة عادت ميديا برفقة زوجها إلى منزلها في حلب .
– ٩
بعد ثلاثة أشهر شعرت ميديا ببعض الآلام وزارت طبيب نسائي برفقة زوجها وبعد الفحوصات اللازمة، حيث تبين ان ملاكاً تنتظر الخروج إلى الحياة الاوسع فكانت فرحة الزوجين بوسع الدنيا ولا سيما لدى شيروان لأنه لم تنجب زوجته الأولى الاطفال ، بقيت ميديا طيلة فترة الحمل تحت مراقبة طبيبها الخاص ، والتزمت بتعليماته حول كيفية تحركاتها في المنزل.
وبعد أن ارتاحت ميديا وتجاوزت المرحلة الخطيرة زارت والدتها مرةً ثانيةً ، ثم أخبرتها بأنها تنتظر طفلاً ، اطمأنت الوالدة بهذا الخبر السار ، ثم أجابت لأبنتها،
الحمد والشكر لله سأغادر الحياة وانا مرتاحة
ومطمئنة البال على مصيرك يا ابنتي الغالية ، وقضت ميديا فترة ليست بالطويلة في ضيافة والدتها ، ثم عادت إلى بيتها مبتهجة ومطمئة على أحوالها .
وبعد أشهر قليلة وفي صبيحة احد الايام علم شيروان بوفاة حماته وهنا وقع شيروان في حيرة وارتباك تامة ، كيف سيخبر زوجته عن الفاجعة الآليمة ولا سيما هما ينتظران مولودهما الأول ، لكن حدستْ ميديا من خلال الوجه العابس لزوجها ، لانها لم تتعود سابقاً بأن تراه هكذا ، ثم انهمرت الدموع من عينيها سائلة : هل توفت أمي يا شيروان ؟ تلعثم لسان شيروان ، وهزّ رأسه باكياً حينها صرختْ ميديا بملئ حنجرتها قائلةً :
Anê , Anê ! Ez Qurbana te bim, çima te
zû ji vê dinê barkir.
وهنا احتضن شيروان زوجته بحنان ، وبدأ يواسيها بكلمات رقيقة ناعمة قائلاً : هذا هو مشيئة الله وقدر والدتك ، يا زوجتي الغالية ، وانا سأذهب حالاً من دونك إلى قريتكم ، وسأتكفل القيام بكل الواجبات الرسمية ، اتجاه والدتي الثانية ، لكن اصرت ميديا في البداية ان ترافق زوجها ، بيد ان خرج شيروان ، استطاع بعد جدال ومناقشة هادئة ، ان تقنعها بعدم مشاركتها في مراسيم الجنازة ، لانها تشكل خطراً جسيماً على طفلها المرتقب .
حضر شيروان المآتم وتقديم كل مالزم من الواجبات المألوفة في التقاليد والعادات الكردية ، طيلة ثلاثة أيام ، ثم عاد إلى زوجته الحزينة ، وقدم لها العبارات الحنونة ليخفف وطأة الحزن الثقيل عليها .
-١٠
مرت الأشهر التسعة العصيبة ، وشيروان طوال تلك الفترة ، كان منهمكاً جداً بسرد القصص الواقعية المشوقة لزوجته ، والحفاظ على صحة طفليهما ، وأخيراً فتحت الطفلة عينيها ، وخطت من وطأة عذاب والدتها الحنونة ، وسميت هذه الملاك حالاً من والدها ب( Rozvita )وذلك تيمناً بأسم زوجة اخيه السويسرية التي استقبلته بحفاوة بالغة عند زيارة شيروان إلى تلك البلد الراقي والحضاري وفاءً للوعد الذي قطعه معها .
– ١١
اما Rozvita الأن اصبحت في الصف الرابع الابتدائي وتسأل والدتها باستمرار عن سبب تسميتها بهذا الاسم الغريب والغير المألوف في مجتمعنا ، وشرحت امها سر ذلك ، ومنذ أن عرفت الطفلة الحقيقة وإلى الان تتعلم اللغة الالمانية ، وتتحدث معها بلغتها ، ثم تدعوها إلى قريتها بزيارة ودية لترد الجميل بالجميل ، ناسية بأن منزلها أصبح حطاماً ورماداً جراء الحرب التي جعلت قريتها منطقة منكوبة حين دخلها الغرباء!!!!
ترجمة:
أمي ! أمي ! تقبريني
لماذا رحلت باكراً من هذه الدنيا.