أحزاننا الخضراء في زمن الكورونا

خالد إبراهيم

كيف أستطيع نسيان ما قالته الحياة لي يوماً؟وكأن الصداع يقيم حفلا في رأسي ، يتسللُ الانهيار نحوي مِثل الأفعى !!هكذا هي الحال في أوج نهوض الجائحة التي تحيط بنا من الجهات الأربع، حيث ما كنت لأترك نفسي كفريسة سهلة لأي كان و في أي زمان و مكان، أقاوم اليمين و اليسار ، أغطس في مياه هذا الزمن، أتوقف في عُمقه عنوة، أمسح مرآة حزني ، و أخيط أكياس عمري كي لايتسرب هذا الحزن عبر باب أحد .
ألا أنني على ما يبدو أتغلب على نفسي فقط ، أجرحُ ما تبقى مِن جلد وجهي المتفتت نحو العدم ، هكذا هي حال من يفكر بهذا الطاعون ، لذلك تعالوا و ليكتب كُلٌّ مِنا قصة حياته قبل و بعد هذا الطاعون 
دون تزييف و كذب، لنتحلى قليلاً بالجرأة 
الإنسان مجرد ذكرى عابرة ، فلن نحزن على أحد ، كلها أيامٌ معدودات وكُل منا يعود و يمارس طقوس حياته و شهواته و ملذاته.
عندما يقول لكَ أحدهم : لن أحزن عليكَ سوى بضعة أيام ، حينها لتعلم أن هذه الحياة مازالت بخير ، و فيها شيء مطاطيٌّ نحو جذر السماء الأحدب. هكذا تسير الخفافيش في عتمة الليل، و هكذا تكتب العيون لغة الوداع الأخير شخصيا بقيت لأكثر من ثلاثة أيام دون طعام أو سجائر أحياناً ، و هنا في ألمانيا أتذكرُ أنني مشيتُ في منتصف الليل لأكثر من ثلاثين كيلومتر، سيرًا على هذه الأقدام التي أصابها مؤخرا طاعون الديسك، ووصلتُ فجرًا ، و لم ألبث إلا و أن غصت في نوم عميق تحت تلك الشجرة، و لم أكن أشعر بشيء من شدة الألم ، نمت مراتٍ عديدة بلا طعام ، و في غفلة من كياني و نبض قلبي، قذفوني في كامب للرجال ، بقيتُ فيه أسوأ أيام عمري ، حقيقة الأمر أنني لا أعلم كيف أبدأ الحكاية ، و لكنها على ما يبدو في سطورها الأخيرة تخيل نفسكَ تحت المطر ، تريد النجاة و تحاول الفرار منه ، فجأة ترى نفسكَ تحت شلال يُسقِط الخناجر على جسدكَ النحيف، يعيدون لكَ الأخطاء و المحسوبيات و كأنك دخيلٌ أو طارىء على هذه الحياة !!تقفُ و أنتَ في حيرة من سِركَ ، مُتسائلا ، متمنياً لو أن طاعون الكورونا قطعة شكولاته لتبلعها في” بلعومكَ” الناشف دون نقاط تفتيش أورادع يثنيكَ حتى عن القفز من نافذتكَ التي تعلو سطح المبنى المؤلف من  طوابق حجرية عدة، تلوح في هواء عمركَ ألف ألف مسخ .
هذه هي حقيقة الإنسان العاجز عن فعل الشيء الجديد و الملفت للنظر ، عندما يكون هناك مزيجٌ من اللا توافق فيما فعلته لأجل أحد أو ماستفعله لاحقاً ، حقيقة الأمر يجب ألا تتفاجأ بِردات الأفعال، ما أفعله هو أنني فقط أقرض الأفعال المؤلمة، الكلمات القاتلة، و عليكَ أن تكون رجلا إلكترونيا تعيش على Remote Control و هي التحكم بكَ كيفما أراد هذا الزمن .
على ما يبدو أنني في حجر عام ، يجتاز عنوان الصحة و مآخذها الفضفاضة. حجر العواطف و الأحاسيس و المشاعر ، و لذة البقاء مِن العدم المتخم باللاشيء ، المنسوف بردًا ، و المجهول المفترس ، حجر النظر بالعين المجردة ، حجر الإحساس بالشم و السمع المرتهن ببياض أفخاذ الشعوذة و السحر الأفّاق ، و السقوطِ و المسخ المشحون عبر بالوناتٍ معدنية مركونة على رصيفٍ ساخنٍ  ممتلئ بالبصل اليابس وأوراق النعناع المسروق. لا أشعر بنفسي فكيف لي الشعور بمن حولي ؟ كيف نقرأ الإنسان الذي ينعدم حِسُ الشعور لديه ؟ الضغط النفسي وحده كفيلْ بأن يجعل منكَ قالبا إسمنتيا متحركا ، و كمية أوراق البريد المتعثر أمامكَ مثل رائحة العقارب ، و عجزك اللغوي في فكَ الشيفرة المُبرمجة ضدكَ زورا و بهتانا ، و أشياءٌ كثيرة لا يمكن  ترجمتها عبر هذه الكلمات المصابة بداء الكورونا 
هل سنعيش من جديد ، و نبحث عن أنفسنا بكل جدية ؟ لستُ مِن أبناء المدن المتخمة بالنبلاء ، و لستُ ممن كان لديه إسطبلات للجياد ، و لم يسنح لي هذا الزمن أن أكون يوما مثلهم ، هكذا تفترُّ السنين بين أصابع الله ، و تصب مياه مراراتها على أكواخنا الترابية في تلك القرى ، و بين تلك البساتين ينبتُ عشبٌ و يموت طيرٌ ، و تقفزُ سحلية على ساقٍ وردة حمراء وهي بين يديَّ عاشق ينتظر بداية أحزانه الخضراء كُن طريا مثل ورقة توت بري ، أو  قضمة إجاصة مسروقة حينها ستنتهي اللعبة

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…