الحديث في هذا الكتاب لا يقتصر على موضوعة كورونا، بل يجعلها المؤلف ـ كما يظهر من محتوياته ـ مناسبة ومنطلقاً لتوسيع دائرة بحثه ليشمل تاريخ الأوبئة ومسمياتها قديماً وحديثاً (الآيدز، إيبولا، الملاريا والطاعون وغيرها) وأعراضها ومناطق انتشارها وطرق انتقالها وآراء العلماء حولها، وعن الحياة والموت كذلك. وهذا ما يستدعي من الباحث الحديث عن تاريخ الطب وأشكال العلاج (الطب الشعبي والطب النبوي) وتطورها من جهة، وعن التاريخ العام والجغرافيا والفلسفة والسياسة من جهة ثانية، سعياً منه إلى الربط بين كل هذه الفروع المعرفية لتقديم رؤية أوسع عن الوباء بأشكاله القديمة لفهم شكله الجديد.
هذه المادة العلمية المعرفية الغزيرة المشفوعة بالأرقام والتواريخ وأسماء العلماء والمفكرين وأقوالهم وآرائهم لا يقدمها محمود في قالب بحثي كلاسيكي، بل من خلال حوارات يجريها بين ستة أشخاص ينتمون إلى مناطق مختلفة من العالم (نوبين/ دهوك، يانغ/ ووهان، آرنست/ بوسطن، ألبيرتو/ فيرونا، هومي/ جوهانسبرغ، منتظري/ أصفهان)، يتحاورون عبر موقع ألكتروني حول موضوعات متنوعة. يقوم نوبين بطباعة حواراتهم الخاصة بفيروس كورونا على الورق ويأخذها إلى المؤلف كي يقوم هو بنشرها بأسلوبه الخاص، باعتباره كاتباً كبيراً وذا تجربة مهمة في هذا المجال.
حوارات الأشخاص الستة، الذين يبدو أنهم يمتلكون معارف عميقة في مجالات شتى، لا تقدم المادة العلمية والتاريخية لمجرد المعرفة، بل لتضع الحدث من خلالها في إطاره الثقافي التحليلي. لذا سيجد قارئ الكتاب الكثير من الإجابات على الأسئلة المطروحة بخصوص الحدث الراهن بوصفها خلاصات تحليلية لما يحدث الآن ولما حدث سابقاً أيضاً. وهذه نماذج من تلك الآراء:
ـ “كان الهدف من العديد من القواعد الدينية الأخرى هو الحد من انتقال المرض. كان الحظر المفروض على الشرب من نفس الزجاج (…)، وحظر لمس الجثث والمواد التي تفرزها الأحياء من بين هذه القواعد. علاوة على ذلك، كان تدمير الحشرات، وخاصة الذباب، عملاً موصى به. بالإضافة إلى ذلك، في النصوص المقدسة للزرادشتيين، هناك فقرات تتعلق بالحجر الصحي للمرضى المعديين وتدمير ملابسهم”.
ـ “واليوم، أصبحت سرعة ومدى التبادلات البشرية تجعل من مكافحة الأمراض المعدية مشكلة عالمية لأنه لا يمكن لأي دولة التفكير في الحماية خلف حدودها. خطر الوباء عالمي. جميع البلدان بها أوبئة والبلدان المتقدمة بها أوبئة داخلية خاصة بها”.
ـ “لقد حُمّل الحيوان تاريخياً، وإلى يومنا هذا ما لا يُحتمَل، وهو “يُقوَّل” ما ليس فيه، والمذنب هو الإنسان”!
ـ “هناك تداعيات سياسية للمرض. بناء عليه، إن المهمة الأولى أمام الطبيب إذاً سياسية: أي إن الكفاح ضد المرض يجب أن يبدأ بحرب ضد الحكومات السيئة؛ فالإنسان لن يشفى بالكامل وبشكل نهائي إلا إذا تحرَّر: “من عليه إذاً أن يفضح الطغاة أمام الجنس البشري، إن لم يكن الأطباء الذين يجعلون من الإنسان درسهم الوحيد…”.
الحديث هنا عن المرض بصفة عامة وليس عن كورونا تحديداً. فالشفاء التام مقرون بتحرر الإنسان، والتحرر يعني فضح الطغاة والفاسدين. وهذا يعني بالنتيجة أن السكوت عن الفساد هو الذي يجلب المرض وينشره. وأول من عليه أداء هذه المهمة هم الأطباء كما يقول.
هذا الكلام يفسر للقارئ سبب إهداء روبين الكتاب إلى ليانغ الطبيب الصيني الذي أذاع انتشار الفيروس في ووهان الصينية (أي أنه فضح الطغاة) فاعتقلته السلطات بتهمة إذاعة أخبار كاذبة. ثم أعلن أن الطبيب أصيب بالفيروس وفقد حياته وسط شكوك حول طريقة وفاته. لذلك يفضل نوبين إهداء كتاب “كورونا .. كورنر” على النحو الآتي:
الإهداء
إلى لي وين ليانغ، طبيب العيون الصيني الشاب “34 عاماً”، في مستشفى ووهان المركزي. قبل كل شيء، أول من كشف علانية عن وباء الكورونا، وكان أول شهيد له في 6 شباط 2020.
نوبين
من الواضح أن الإهداء إلى ليانغ فيه احتفاء به كما سبق القول، ليس فقط بوصفه أول من أعلن عن وجود الفيروس ثم فقد حياته، وإنما أيضاً لأن السلطات الصينية احتجزته (وربما عاقبته) بتهمة نشر إشاعات كاذبة. وقد دارت أحاديث كثيرة حول أسبابه موته. لهذا يستحق ليانغ ـ من وجهة نظر نوبين ـ أن يهدى الكتاب إلى روحه، لأنه يمثل صوت ضمير الطبيب الذي يجب أن يفضح الفاسدين إذا أراد للناس الشفاء التام. وإذا كان الكلام في الفقرة السابقة عاماً، فإن إشارة صريحة إلى ليانغ نفسه ترد في موضع آخر من متن الكتاب، إذ يقول: (…) وتم القبض على لي وين ليانغ من قبل الشرطة المحلية لنشره “شائعات كاذبة”. (…) إن انفجار الوباء (…) قد أثبت للعالم أنه يقول الحقيقة “البحث عن الجناة”. إن وفاته، التي أعلنتها السلطات الصينية في 7 شباط، رفعته إلى رتبة الشهيد بالنسبة لملايين الصينيين، ويصبح المبلغ عن المخالفات “البطل” الذي دفع ثمن حياته للكشف عن أن القوة الصينية أرادت التزام الصمت”.
ليانغ يمثل، إذاً، في الإهداء وفي المتن صوت الحقيقة الذي لو سُمح له في حينه بأن يرتفع ويدق جرس الإنذار لما حصد الفيروس كل تلك الأرواح في موطنه وفي كل أصقاع الأرض ولما دفع العالم كل هذه الخسائر من بشره واقتصاداته المهددة بالهلاك.
العالم أمام مرآة ذاته الأخلاقية (يريد الكتاب أن يقول)، فإما أن يتوحد في وجه الفيروس ويسمح لصوت الحقيقة أن يرتفع وإما أنه سيحشر نفسه في زاوية مهلكة لا محالة. هذه هي الزاوية “كورنر” التي يعلن عنها عنوان الكتاب، ليصبح “كورونا” الفيروس هو نفسه “كورنر” ـ الزاوية المهلكة للعالم الفاسد الذي بات الإنسان خارج حساباته. تجدر الإشارة هنا إلى ما بين الملفوظين (كورونا.. كورنر) من جناس يحبذ محمود توظيفه في كتاباته عادة.
من يكون المؤلف؟
ثمة مؤلفان لهذا الكتاب: نوبين، وهو أحد المتحاورين الستة على الانترنت عبر موقعهم المسمى “كروب”، والذي يسلم أوراق حواراتهم الخاصة بكورونا إلى الباحث إبراهيم محمود الذي يقرؤها ويقوم بما يلزم من تنسيق وتعديل وينشرها في كتاب. وبذلك يكون على الغلاف اسم إبراهيم محمود، أما مادة الكتاب (الأوراق) فهي لنوبين وأصدقائه. وهي لعبة فنية يرغب بها محمود في كتابته. لذا لا يوقع تحت الإهداء بل يترك الأمر لصاحب الأوراق نوبين.
في هذا الإطار الفني كان بودي لو أن المؤلف تدخلَ في الحوارات بين حين وآخر بوصفه قارئاً لها أيضاً. بمعنى أن يبدي رأياً أو يقدم تعليقاً (تأييداً، تأكيداً، اعتراضاً، زيادة) على ما يقوله المتحاورون ليكون الصوت السابع (6+1) الذي يمثل رأي القارئ حول الموضوع المطروح من جهة، وكي يترك محمود مسافة بينه وبين نوبين (الشخصية المفترضة)، مادام قد اختار هذا الأسلوب لتقديم كتابه من جهة ثانية، وكي لا يقتصر دور مؤلف الكتاب على نشر أوراق نوبين ورفاقه من جهة ثالثة.
الكتاب يبدأ بأربعة اقتباسات تحت مسمى “ومضات” لكل من ميشيل فوكو، كريستيان بوبين، ديدييه فان كويليرت وغيوم موسو. كما أن ثمة اقتباساً يسبق كل فصل من فصول الكتاب. إذا كان الإهداء موقعاً صراحة باسم نوبين، فإن القارئ لا يستطيع الجزم تماماً بمرسل تلك الاقتباسات، وما إذا كانت من اختيار نوبين وموجودة ـ مثل الإهداء ـ أساساً في الأوراق، أم أنها من اختيارات المؤلف إبراهيم محمود وإضافاته إلى أوراق الحوار؟.
وقفة وجدانية
مع كل هذه المادة العلمية التفصيلية الغزيرة والتحليل العلمي الثقافي التاريخي للموضوع، يأبى الباحث أن يخلو كتابه من نفحات وجدانية تظهر الجانب الإنساني المأساوي المؤلم للمسألة، إذ يكون الموت أكثر من مجرد موت. في هذا الإطار يقدم الكتاب مقطعاً/ نصاً هو مزيج من العاطفة ووجهة النظر والمواساة والعزاء والرثاء لقارئه. النص يأتي في وسط كتاب الباحث الصديق إبراهيم محمود، ولكنني سأجعله خاتمة لهذه القراءة، وهو الذي ينتهي بإشارة استفهام كبرى برسم العالم قاطبة:
“لا يصرخْ أحدكم إن أُعلِم بإصابته، لئلا يسرع في موت نفسه
وليودّع أهله عن بعد
دون عناق
دون مصافحة
دون بكاء
ودون نظرٍ طويل
ودون أي كلام ينقل عدواه إليهم
إنها لحظة الشدة والجَلد
لحظة الموت العالمي في وباء عالمي
بطقوس ابتدعها كورونا والكورونيون
إنها حسابات كورونا التي لا يُعلَم من افتتحها وفي أي جهة
وبأي رمز” ؟.