مكانة أحمد خاني في الأدب الكردي.. (الحلقة الخامسة)

الدكتور عبدالمجيد شيخو 
الترجمة عن الكرديّة : عثمان عيسو 
 
ملحمة مم و زين
 و كما بيّنا سابقا نتاجٌ أدبيٌّ قيّمٌ وهي ملحمة  لا تحتل مكانة مرموقة لدي الشعب الكرديّ فقط بل لدى معظم الباحثين و النقاد الأجانب و الكرد بدون استثناء فالجميع متفقوق على أنّ ملحمة مم و زين تتبوّأ  المرتبة الأولى في الأدب الكرديّ  .
لقد نسج خاني آراءه ( الفكريّة. و القوميّة و الفلسفيّة و الصوفيّة و الاجتماعيّة و الاقتصاديّة ) بطريقة فنيّة أدبيّة رائعة ، لذلك قال بروفيسور عزّالدين مصطفى رسول : 
 ( أحمد خاني كان شاعراً و مفكّراً و فيلسوفاً ومتصوّفاً )
خاني اتّكأ في حبكة بنية ملحمته على ملحمة مم آلان الفلكلوريّة .
    شخصيّات ملحمة مم و زين 
١- مم Mem : سكرتير ديوان الأمير زين الدين 
٢-زين الدين : أمير جزيرة بوطان 
 ٣- سيتي  Sîtî: أخت الأمير زين الدين الكبرى
 ٤- زين  Zîn : أخت الأمير زين الدين الصغرى
٥- زين و سيتي شقيقتان 
٦-تاج الدين : ابن الوزير الأوّل لدى الأمير زين الدين و هو الصديق المخلص ل مم 
٧-  جكو و عارف أخوة تاج الدين 
٨- هيلانه : عجوز و مربيّة ( سيتي و زين ) 
٩- بكر ( بكو ) : خادم  ( مخبر، نمّام )  الأمير زين الدين .
مم و زين يلعبان دور البطولة في  الملحمة  ( الشخصيّة الرئيسة ) و الشخصيات الأخرى هي شخصيات ثانويّة و لكنها تساهم في مجريات و تصاعد الأحداث .
و بالعودة الموجزة إلى مضمون الملحمة نجد أن أحمد خاني 
قد تحدّث في  المقدمة و بشكل مسهب عن ( الأرض و السماء و الحياة  و مآسي و آلام شعبه و قدّم الحلول لإنهاء تلك المشاكل و العقبات التي تعترض سبيل حريته . 
ثمّ ينتقل للحديث عن جزيرة بوطان ( حيث تجري أحداث الملحمة ) و أميرها زين الدين بشكلٍ عام .
و بعدها ينتقل للحديث عن زين فيقول :
( كانت تجلس مع شقيقتها سيتي في الطابق العلوي من القصر 
وحيدتين تتشاوران و تتساءلان عن سبل اختيار الخطيب أو الزوج المستقبليّ المناسب لهما ….ثمّ تقترح زين أن تتنكّرا بزيّ الرجال لتتمكنا من التجول بحريّة تامة بين الشباب .
و في صبيحة يوم نوروز تنفذان المقترح و تتوجهان حيث الاحتفال بشعلة نوروز 
و من مصادفات القدر فقد توجه شابان متنكران بزيّ النساء إلى الاحتفال بنوروز ، و في  المُحتفل  تتلاقى نظرات الشابين مع نظرات الفتاتين المتنكرتين بزيّ الرجال تقع تلك النظرات عليهما كالصواعق و السهام القاتلة فيفقدان الوعي  و يقعان أرضا ، تندهش زين و سيتي من هذا المشهد  و لا تدركان من يتخفى خلف هذا الزيّ ….و من ثمّ و بعد أن يستعيدا الوعي و يدور بينهم حديث مشوّق مسربل  بنظرات الحبّ يقومون بتبادل الخواتم و يفترقون …و لكن دقّات القلوب تضطرب و تظل تنبض بقوّة الحب و العشق علّّها تصل إلى برّ اللقاء المفقود .
تمرّ الأيام و سيتي و زين سارحتان بالخيال  مسربلتان بالشرود و عندما تشاهد المربيّة العجوز ( هيلانة ) سيتي و زين تتجرعان الغمّ و الأسى تقترب منهما و تسأل :
 يا ابنتي يؤلمني أن أراكما في هذه الحالة …هيا أخبريني علّنيّ أجد لكما دواء شافيا يعيد إليكما الرونق و البهجة …
في النهاية تبوح زين لهيلانة بكلّ التفاصيل ثم تخرجان الخواتم فتأخذ هيلانة الخواتم إلى عرّاف عجوز يخبرها العجوز قائلاً:
  عليك يا هيلانة أن تمتهني الطّبّ  و يجب أن يُذاع صيتك بين الناس كطبيبة حاذقة  قادرة على شفاء كلّ الأمراض و العلل …و بالفعل تشتهر سمعتها بين الناس في وقتٍ قصيرٍ جدّاً كما طلب منها الشيخ العرّاف .
و هنا علينا أن نتذكر الشابين المتنكرين بزيّ النساء ، من كانا ؟ و كيف صارا بعد آخر اللقاء في يوم الاحتفال بنوروز 
كانا مم و تاج الدين ، سهام الحبّ تركت جراحاً عميقة في قلبيهما ففقدا لذّة العيش و الهناء فكان الحبّ و الأرق يبري جسديهما فتغلغلت الأمراض و الأسقام إليهما فأصبحا طريحي الفراش .
هيلانة العجوز التي امتهنت الطّبّ و ذاع صيتها تمرُّ في أحد الأيام أمام منزل مم و تاج الدين المنهاران من العشق و الهيام ، أهل العاشقين يطلبان منها أن تكشف عليهما علّها تجد لهما دواء شافياً …تدخل هيلانة ثمّ تطلب الانفراد بهما ،تستمع إليهما و تستوعب جيداً الداء الذي ألّم بهما ثم تحاول استرجاع الخواتم و لكن مم رفض إعطاءها خاتم زين لأنّه وجد في الخاتم العزاء و السلوى فبه يواجه آلامه و يبدّد وحشة أيامه المظلمة و قد علّق على الخاتم كلّ أماله  فهو بمثابة طوق النجاة ينقله إلى برّ الأمل المنتظر ، استعادت هيلانة فقط خاتم سيتي من تاج الدين ثم عادت إلى القصر و انفردت بزين و سيتي و قصّت على مسمعيهما تفاصيل ما جرى معها و ما آلت إليه أحوال مم و تاج الدين . و هنا علينا ألاّ ننسى أن نيران الحبّ و الشوق كانت تتأجج و تلتهم قلبي زين و سيتي  و عندما تنظر هيلانه  إليهما و هما تفقدان النضارة و الرونق و يتسرب النحول و الضعف إلى جسديهما رويدا رويدا لا تتحمل ذلك المشهد فتعود مرّة أخرى إلى مم و تاج الدين و تقول لهما :
زين تحبُّك يا ممو مثلما تحبها ، و كذلك سيتي يا تاج الدين 
و الدواء الشافي لقلبيكما واضحٌ كالشمس 
الدواء هو في القصر عند الأمير  زين الدّين عليكما أن تتقدما لطلب يد زين و سيتي من أخيها الأمير .
و بالفعل طلب تاج الدين يد سيتي و خطبها  و لكن ممو لم يتقدم لخطبة زين لأنه خشي أن يرفض الأمير خطبة  الأختين معاً
الأمير زين الدين لم يوافق على خطبة تاج الدين و أخته سيتي فقط بل زوّجهما و أقام لهما عرساً ملوكيّاً .
من العادات الكردية القديمة كان الصديق المقرّب يمشي خلف العرّيس ، لذلك  مشى ممو  خلف صديقه تاج الدين و رافقه حتى باب غرفته ، دخل العرسان العشّ الزوجيّة  و غرقا في شهد الوصال و تحقّق حلمهما المنتظر .
خاني في ملحمته الشعريّة  يصفُ  و بأسلوبٍ  فنّيٍّ  رائعٍ  ليلة الدخلة  و ما دار من حديث بين العاشقين و هما يبثّانّ لبعضهما البعض لواعج القلب و ينهلان من الشفاه رحيق الحبّ العذبّ الصّافيّ  ، و قد زيّنا السرير بالورود ،
 يزخر الوصف بصور جميلة و هو في هذا المعنى يقول :
Ew herdu şîrîniyê ji lêvên hev vedixwin 
Gulên sor li dor xwe civandin.
الصديق الحقيقيّ لا ينسى صديقه في كلّ الظروف و هذا كان حال تاج الدين صحيحٌ أنّه نال مراد قلبه و حقّق حلمه و غرق في بحور الحبّ إلاّ أنّ لم ينس صديقه ممو و قلبه النازف  و ظلّ مهموما يفكر بوضعه  دون أن يفقد الأمل و ظلّ متفائلاً ،
و هو يعلم أنّ نيران الحبّ تحرق قلب مم و زين و لا أحد يداوي نزيف قلبيهما و تحوّل الربيع إلى خريف أمام  عينيهما الملأى بالدموع ، و الصبر و الهدوء  قد ضيّعا درب الوصول  إلى قلبيهما. 
بكر عوان المخبر و الخبيث من جهة أخرى كان يعمل جاهدا كيّ يفرّق زين عن مم و لا يصل العاشقان إلى تحقيق مرادهما 
 و كي يحقق بكر غايته بدأ يسمّمُ مسمع الأمير زين الدين بالقصص و الأكاذيب  و تلفيق التهم بحق تاج الدين و صديقه مم فقد أخبر الأمير قائلاً : 
مولاي الأمير يؤسفني أن أخبرك ….لا لا أستطيع أخبارك …أخشى أن تغضب منيّ  و تعاقبني …
لقد كان بكر الخبيث يعلم جيدا كيف يتسلل رويدا رويدا كالأفاعي إلى نفسيّة الأمير كي ينفخ نيرانها و يؤججها ….
و هنا يقف الأمير و يتساءل بنبرة حادّة : 
تكلّم يا بكر و إلاّ أمرت بقطع رأسك 
بكر : مولاي إن لدى  تاج الدين نوايا سيئة فقد سمعته يحلف ل ممو بأنّه سيساعده في الوصول إلى قلب أختكم العفيفة زين إن هو ساعده و لا أعلم يا مولاي ماهيّة المساعدة التي سيقدمها مم لتاج الدين ؟ !!!! .
يتضايق الأمير زين الدين كثيرا و تسوّدُ الدنيا في عينيه حتى غدا كثير التوتر و الهيجان و هيجانه جعله يفقد اتّزانه المعهود فهو يغضب لأتفه الأسباب …بلى فقد سمّم بكو ذهنه بأكاذيبه و أوقع الأمير في حبائل خبثه ممّا جعل الأمير يقسم بأغلظ الإيمان و برأس أبيه و أجداده بأنّه لن يزوّج زين ل ممو مطلقا . 
و علاوة على ذلك فقد غيّر معاملته مع زين و غزا الجفاء و البرود قلبه ..
أمّا زين المسكينة فقد كانت تقضي يومها غارقة في بحار الهموم و الدموع .
جواري القصر تحاولن جاهداتٍ تخفيف أوجاعها و تهدئة أمواج حسراتها المتلاطمة و طرد الأحزان من قلبها المكتوي بنار الحنين و الحبّ و لكن عبثاً فكلّ محاولاتهنّ ذهبت في مهبّ رياح اليأس .
نهار زين يتلاشى حزناً و لياليها تئن من الوحدة ، فهي وحيدة تذرف الدموع و تسهر مع الشموع …وحدتها و احتراق قلبها دفعتها إلى إجراء مقارنة بين نار حبها المتأجج و نار الشموع فها هي تناجي الشموع قائلة :
( نيرانكم تخبو و تنتهي مع بزوغ الشمس ، أمّا نيران قلبي فتزداد اشتعالا ) .
و لم يكن مم بأفضل حالاً فقد اقترب من حافة الجنون فهو يخفي أسراره و آلامه و أحزانه …..دائم الهمّ و الغمّ يطلق حسراته و آهاته من أعماق قلبه المكلوم و المسربل بالشوق و الحنين و أمل اللقاء .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صبري رسول

 

توطئة للفسحات:

يهندس خالد حسين أشكال الحب في قصيدة: واحدة، في مجموعته رشقة سماء تنادم قلب العابر الصادرة عن دار نوس هاوس بداية 2025. المجموعة عبارة عن أربع فسحات، وهي الفهرسة الهندسية الخاصّة التي تميّزت بها، أربعة أقسام، كلّ فسحة مؤلفة من أربع فسحات صغرى معنونة، وتحت كل عنوان تندرج عدة مقاطع شعرية مرقمة وفق…

أصدرت منشورات رامينا في لندن رواية “ليالي فرانشكتاين” للروائيّ والفنّان الكرديّ العراقيّ عمر سيّد بترجمة عربية أنجزها المترجم ياسين حسين.

يطلّ عمر سيّد “ليالي فرانكشتاين”، حاملاً معها شحنة سردية نادرة تمزج بين الميثولوجيا السياسية والواقع الجحيمي، بين الحكاية الشعبية والتقنيات المعاصرة، ليقدّم نصاً مكثّفاً عن الجرح الكردي، وعن الوطن بوصفه جثةً تنتظر التمثال المناسب كي تُدفن…

عبد الجابر حبيب

 

يا لغرابةِ الجهات،

في زمنٍ لا يعرفُ السكون،

وعلى حافةِ قدري

ما زالَ ظلّي يرقصُ على أطرافِ أصابعي،

والدروبُ تتشابكُ في ذاكرتي المثقوبة،

ولا أحدَ لمحَ نهايتَها تميلُ إلى قبري،

ولا حتى أنا.

 

على الحافة،

أُمسكُ بزهرٍ لا يذبل،

يتركُ عبيرَه عالقاً في مساماتِ أيّامي،

كأنّه يتسرّبُ من جلدي

ثم يذوبُ فيّ.

 

الجدرانُ تتهامسُ عنّي،

تعدُّ أنفاسي المتعثّرة،

وتتركُ خدوشاً على جلديَ المتهالك،

كأنّ الزمنَ

لا يريدُ أن…

إبراهيم محمود

 

 

1-في التقصّي وجهيّاً

 

هي ذي أمَّة الوجوه

غابة: كل وجه يتصيد سواه

 

هي ذي أمة الوجوه

سماء كل وجه يزاحم غيره

 

هي ذي أمَّة الوجوه

تاريخ مزكَّى بوجه

 

ليس الوجه التقليدي وجهاً

إنه الوجه المصادَر من نوعه

 

كم ردَّدنا: الإنسان هو وجهه

كم صُدِمنا بما رددناه

 

كم قلنا يا لهذا الوجه الحلو

كم أُذِقْنا مرارته

 

قل لي: بأي وجه أنت

أقل لك من أنت؟

 

ما نراه وجهاً

ترجمان استخفافنا بالمرئي

 

أن…