لهذه الأسباب ألّفتُ كتابي تأريض الإسلام

لم أكتب هذا الكتاب لأنال به درجة أكاديمية أو لأحظى برضى جهة ما، وإنما لأحظى على رضى ذاتي، ولتزيدني الحياة قسطا من القيمة الوجودية، هذا ما أعتقدته، ولكن السبب الحقيقي ربما قد يكون شيئا أخرا مختلف تماما، فالإنسان تحكمه حتميات لا فكاك له منها، إننا لا نختار الأشياء التي نقوم بإنجازها بإرادتنا المحضة كما نعتقد، وإنما بدوافع وأحاسيس شديدة القوة تشبه قوة الجاذبية التي تحرك الأجسام، تنطلق من داخلنا ولا طاقة لنا بردها، واستجابتنا لهذه الأحاسيس وقوة الدوافع في دواخلنا لا تختلف عن استجابة القمر للدوران حول الأرض ولا تختلف عن استجابة الأرض للدوران حول الشمس، لكن لو نطقت الأرض لقالت أنها تدور حول الشمس بخالص إراداتها ونفس القول سينطق به القمر لو قدر له ذلك. فكما أن الأرض هنا ليس لها أي علم بدوارنها بفعل قوة الجاذبية التي أخبرنا بها نيوتن (1643-1727) وسماه بقانون الجذب العام والذي ينص على أنه توجد قوة تجاذب بين أي جسمين في الكون تتناسب طرديًا مع حاصل ضرب كتلتيهما، وعكسيًا مع مربع المسافة بينهما” قد يكون كذلك الإنسان أيضا، الذي يدعي أو يتصور أنه يتحرك ويعيش ويعمل بكامل إرادته، لكنه في الواقع قديكون العوبة في أيدي الحتميات التي تتشكل بفعل عوامل اجتماعية ونفسية وبيئية ودينية وغيرها والتي يخضع لها دون أن يدري. 
 أفضل  وأقرب تفسير وجدته لهذه المعضلة، وهي ما إذا كان الإنسان حر الإرادة أم لا، هو ما أدلى به الفيلسوف اليوناني ابكتيتوس (55-135م) الذي سِيق كواحد من العبيد إلى روما، ثم صار من أشهر فلاسفة رواق (ستوا) وهي من أكثر المدارس الفلسفية تأثيرا في التاريخ الغربي كما يقول بعض الباحثين. 
يقول هذا الفيلسوف ابكتيتوس: تصور وكأنك مجرد ممثل على خشبة المسرح تقوم بالدور الذي اختاره لك وكلفك به الخالق، أي ليس لإرادتك شأن في اختيار دورك في الحياة، فقط يتوقف عليك أن تلعب دورك هذا جيدا، أي تنحصر إرادتك فقط في القيام بهذا الدور بالشكل الذي تريده. وهذا ليس بالقليل من حرية الإرادة الإنسانية، بل يجب أن يكون كذلك، وإلا ستعم الفوضى وينعدم الإنسجام والتكامل بين البشر وبالتالي ستتوقف الحياة. إذن هناك قوة ما تقوم بتوزيع الإدوار لنا، كما يقوم المخرج بتوزيع الأدوار للممثلين، وانجح المخرجين أو لئك الذي يوفقون فعلا بمنح الدور المناسب والملائم لكل ممثل.
وقت قمت بدوري هذا على مسرح الحياة وكتبت هذا الكتاب ودون أن أضع خطوطا حمراء أو حواجز أمامي، ودون مراعاة لأية مخاوف أو إعتبارات. لذلك لم أشعر بأي قيد أو ضغط قد نال من حريتي، فحريتي هي وجودي وعندما أشعر بأن حريتي قد سلبت أو حددت، أشعر وكأن قطعة من إنسانيتي قد قطّعت مني وسقطت أرضا. ومن لا يكتب بكامل حريته لايمكنه أن يكتب جيدا، ويقال أرقص وكأن أحدا لا يراك، وانا كتبت وكأن أحدا لا يراني. إن اسلوبي في الكتابة بدا بسيطا والمعاني في منتهى الوضوح والشفافية ولايحتاج من القارئ أن يجهد نفسه ليفهم ما كتبته لأني لم أخفِ شيئا بين السطور.  ومع بساطة الأسلوب والمعنى إلا أن المقدم إلى القارئ هنا في منتهى الأهمية والصلة بحياة  كل منا. كون الموضوع الديني يحدد القضايا الكبرى التي تهم الوجود الإنساني. 
وعلى الرغم من أني أدرك بأن تناولي للموضوع الديني بهذا الوضوح وبهذه الصراحة قد يعتبره البعض تجاوزا للحدود وتعدي على المزاج العام أو أنها إنتهاكا سافرا لقدسية الدين حسب الثقافة السائدة في المجتمعات الإسلامية، ومع ذلك لم أتردد في الخوض فيه، وأعلم أن جزءًا أساسيا من تكوينهم الذاتي قد يتعرض إلى الشك والإرتياب والقلق، وبالتالي إلى إثارة النوازع الشكية، وحتى إلى بعض الإضطراب النفسي. وهذا كان هدفي الرئيسي من هذا الكتاب. لأن الشك والقلق والإضطراب هي التي تصنع التحفيز في العقل الإنساني للقيام بعملية التفكير وبالتالي المساهمة في صنع الصيرورة الوجودية وأنتاج حياة أفضل، أو ربما سيدفع القارئ إلى إعادة النظر في واقعه الديني الذي يشكل كينونته والبحث في الظاهرة الدينية بصورة مختلفة. كما قد يفضي ذلك إلى توقّدجدل ذاتي ، أو بصورة أوضح، قد يُحرك لديه ماكينزمات التفكير والوعي، وبالتالي التعاطي بوعي مع الظاهرة الدينية. 
وباعتبار أن “الدين هو إدراك المجتمع لذاته دون وعيّ” كما يقول عالم الإجتماع الفرنسي إميل دوركهايم (1858-1917)، فإن التعاطي الواعي مع الدين سيغير من نظرة ومعرفة المتدين للدين. إذ أن التعامل بوعي مع الظواهر المختلفة طبيعية كانت أو إنسانية يجعل الإنسان أكثر قوة وقدرة على التعامل معها بما يخدم رؤيته ويحسن وجوده، لأنه يصبح قادرا على الإمساك بالخيوط التي تقرر وتتحكم بوجوده، ويصبح سيد نفسه وليس تبّعا، مما يُمَكِّنه من تقرير مصيره بإرادته الخاصة والحرة. كما أن عامل الشك يحرّض العقل على أن يتحرر من قصوره وانكفائه وخضوعه وسذاجته وتقبله للظواهر دون تحقيق وتمحيص، ويحرضه أيضا على أن يعي ويدرك بأن الحقائق التي يعتقد بها ليست بالضرورة كما يعرفها ويدركها، لذلك فإن تناول هذه الحقائق بمنهج شكي يعتبر ضرورة ملحة، فالعقل الذي لا يشك أي العقل الذي يفتقر إلى القوة الشكيّة غير قادر على التفكير ، لا ينتقد، والعقل الذي لا ينتقد لا يمكنه ان يكون عقلا فاعلا ومحسِّنا، وإذا لم يكن العقل عقلا فاعلا ومحسِّنا ، فلا يمكنه أن يرتقي إلى مستوى العقل المبدع القادر على التحرر من سطوة السائد والمألوف، والناقد للواقع والقادر على ابتكار الآليات وخلق القدرات التي تعمل لخلق ظروف ملائمة ومناسبة أو جعلها كذلك، ويمتلك القدرة الذهنية التحليلية التي تساعده على فهم مختلف الظواهر التي تسود الواقع وقد تساعده أيضا على رؤية الخيوط اللامرئية أو ما يسمى بالترددات التي تتحكم بعملية الربط بين مختلف الظروف والأحداث لإحداث التغيرات والإصلاحات الحقيقية في بنية وثقافة المجتمعات. 
ولايمكن للعقل الفاعل أن يكون عقلا عظيما مبدعا إلا إذا كان مشبعا بالمبادئ الإنسانية العظيمة كالحق والعدالة والحرية والخير والجمال، ويقدر ويحترم حرية الإرادة الإنسانية ومبجلا للروح السامية العليا الكامنة في الإنسان، والتي تضفي على الإنسان بُعديّ القيمة والمعنى، وتمنحه فكرة الخلود الأبدي، إذ إن الإنسان بدون قيمة هو مجرد كتلة مادية، والإنسان المجرد من الروح يكون حكما مجرد من فكرة الخلود، وإذا لم يحظ الإنسان بفكرة الخلود فهو شيء محدود غير ممتد، اي لا يختلف عن قطعة حجر أو أداة من الادوات، إي أنه كائن مجرد من المعنى. 
لا يمكن لأحد أن ينكر ما لعبه الدين الإسلامي من دور هام في تقرير مصير الشعوب الإسلامية والعالم في مختلف نواحي الحياة، لكن توقّف ذلك إلى حد كبير على كيفية التفاعل والتعاطي مع هذا الدين، فالشعوب التي عملت على الإشتغال بالدين بوعي وادراك، تمكنت من توظيف الطاقة الروحية للدين لمنافعها وتعزيز قوتها، على خلاف تلك الشعوب التي ظلت خاضعة وضعيفة بسبب قصورها في تعاطيها مع الدين.  
فيما يتعلق بالكرد، فإن الدين لم يكن له دورا إيجابيا في تاريخهم السياسي والإجتماعي عموما، صحيح أن الدين قد سد جانبا هاما من الإحتياجات الروحية للإنسان الكردي، لكن اقتصر دوره العملي في إرساء ثلاثة مفاهيم لا تخلوا من مغالطات، أولها فكرة أن الأخلاق منشأها الدين، وثانيهما في ترسيخ مبدأ الأخوة في الإسلام وأن الكفار أعداء. وثالثهما تجذير فكرة الإيمان بالقدر خيره وشره من الله. وبذلك تم خلق شخصية ضعيفة، مهزوة، سهلة الإنقياد، مستسلمة ومستكينة راضية بذاتها، وشخصية توكلية خالصة وكل ما يصيبها ويحدث معها مقرر ومقدر بشكل مسبق في كتاب القدر. وقد طابت لهذه الشخصية هذه الصفات فتفاعلت معها إلى درجة الإنسجام وأمست تكوينا أساسيا لها ولا سيما وبحكم أعتمادها على الزراعة والرعي أي على نزول الماء من السماء. لذا سادت ثلاثة ظواهر سلبية، أولى هذه الظواهر الثقة المفرطة برجل الدين، وثانيها الثقة المفرطة بالمسلمين الآخرين، وثالثهما فقدان روح المبادرة والشكوى الدائمة من القدر (الفلك) عند كل نازلة وفاجعة سواء على مستوى الفرد أو على مستوى الجماعة. وأصبحت هذه الظواهر من السمات البارزة في الثقافة السائدة عند الكرد. 
وأنا هنا لا أدين الدين المحمدي لدوره السلبي في التاريخ السياسي الكردي ، فقط أردت أن اشير إلى حقيقة تاريخية لا أكثر، فالدين في حقيقته ما هو إلا معطى تاريخي يتوقف دوره في التاريخ البشري عموما على كيفية التعاطي معه، فالخلاف الأموي/العلوي والعلوي /الخوارجي الذي ظهر في فجر الإسلام إلى الخلافات الكثيرة الأخرى التي يزخر بها التاربخ الإسلامي وإلى يومنا هذا،  كانت أسبابه تكمن في الإختلاف في كيفية التعاطي مع الدين. وكما قال علي بن أبي طالب عندما حصل خلاف بينه وبين الخوارج في مسألة الخلافة: 
“لا تخاصمهم بالقرآن، تقول ويقولون فإنّ القرآن حمّال أوجه”. 
وكذلك قوله: ”هَذَا اَلْقُرْآنُ إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْطُورٌ بَيْنَ اَلدَّفَّتَيْنِ لاَ يَنْطِقُ بِلِسَانٍ وَ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَانٍ و لا ينطق بل ينطق به الرجال”  .
ومهما كان السياق التاريخي الذي قيل فيه ما نسب لمن كرم الله وجهه، فإن الوقائع التاريخية في التاريخ الإسلامي وغيره من الأديان تؤكد بكل وضوح بأن الدين منتج تاريخي قابل للتكييف والتأويل حسب رغبة الناطقين بإسمه. لأن مكر الإنسان وأنانيته ومصلحته تتخطى العهود والمواثيق والأخلاق والوصايا التي تحويها الكتب ومن أي نوع كانت. ويبدو كأن الإنسان جُبِلَ بالاِسْتِئْثَار والاسْتِحْوَاذ والأنانيّة، وفي داخله شيطان مخادع، فإن عجز عن تحقيق مبتغاه بطريقته، كلف شيطانه بذلك دون تردد.  
فالخوارج مثلاً تعاطوا مع الدين بدوغمائية خالصة أي بحرفية تامة، وكان بينهم أكبر نسبة من حفظة القرآن، وكان شعارهم “لا حكم إلا لله” المستمد من القرآن “إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ”. وقد ردّدَ الخوارج هذ الشعار رافضين بذلك موضوع التحكيم بشأن الإختلاف في الخلافة بين علي ومعاوية، وقد رد أبا الحسنين على مقولتهم بمقولة أضحت مثلا بقوله: “كلمة حق أريد بها باطل”.
 أما زوج البتول فاطمة الزهراء وشيعته فقد تراوح تعاطيهم مع الدين بين الدوغمائية والبراغماتية، بينما كان تعاطي الأمويين مع الدين دائما بمنتهى البراغماتية. فكانوا يوؤلون الآيات بما يخدم توجهاتهم ومصالحهم السياسية، وكانوا لا يترددون في وضع واختلاق الأحاديث المحمدية لفرض سيطرتهم على العامة وتثبيت حكمهم.
ولكن الكرد للأسف تعاملوا مع هذا الدين دون وعي وإدراك لحقيقتة، وهذا ما أعاق تطورهم. على عكس الشعوب المجاورة لهم الذين اشتغلوا على هذا الدين بطريقة أو بأخرى جعلت منه وسيلة أو فاعلا سياسيا لخدمة مصالحهم. لذلك أنا لست ممن يلقون باللوم على الدين الإسلامي في دوره أو تسببه في تأخر الكرد وبقائهم إلى الآن بدون كيان قومي يجمعهم، وأستطيع الذهاب أبعد من ذلك لأقول بأن العلة الأساسية لم تكن في الدين، وإنما كانت في الكرد أنفسهم، لأنهم قصّروا في الإشتغال على فهم واستيعاب هذا الدين وفشلوا في سبره والإحاطة به وبجوهره الحقيقي وطاقته الروحية الكامنه في هذا الجوهر وإنطاقه بناء على ما يخدم مصالحهم السياسية، هذا من جهة ومن جهة أخرى لم يجدوا بديلا او بدائل أخرى مناسبة عن الدين، لذلك أمسوا بدون هوية واضحة مشتركة، وأعتقد بأن غياب هوية موحدة وجامعة للكرد تسببت في غياب دورهم المستقل والفاعل بين شعوب المنطقة.  
لا ريب أنه كان للتعاطي الكردي الغير نفعي مع الدين إرتداداته السلبية الطاغية والتي انعكست سلبا على صيرورة الكرد التاريخية سياسيا واجتماعيا وقوميا، كما كان لهذا التفاعل الكردي الغير براغماتي مع الدين أسبابه أيضا، كاختلاف اللغة وتعدد اللهجات وصعوبة العامل الجغرافي الذي صعّب تواصل الكرد فيما بينهم، وانعزال الطبقة الدينية وعلماء الدين الكرد عن مجتمعاتهم بل وحتى ابتعادهم عنهم جغرافيا أحيانا، فقد رحل العديد من علماء الدين الكرد إلى أمصار أخرى بعيدة عن أوطانهم، واستمرت هذه الظاهرة إلى وقت متأخر وكان آخرهم عالم الدين محمد سعيد رمضان البوطي الذي شاع صيته وانتشرت كتبه في العالم الإسلامي، وقام بتأليف أكثر من 60 كتابا تدور كلها حول الموضوع الديني عدا عن مؤلفين اثنين هما رواية ممو زين وسيامند ابن الأدغال، الذي هاجر إلى الشام مع والده حيث استقر هناك إلى أن قتل سنة 2013 في جامع وهو يحاضر، في عملية اجرامية لم تنسب أيه جهة لنفسها. أما مساهمات علماء الكرد في خلق الحضارة الإسلامية سواء في مجال العلوم الطبيعية أو العلوم الدينية فقد كانت مساهمات فاعلة وكبيرة جدا، وليس من الشطط او المبالغة أن نعتبر الكرد من أكثر الشعوب الإسلامية التي تفانت في خدمة الدين الإسلامي والحضارة الإسلامية وتفاعلت إيجابيا مع الشعوب الإسلامية الأخرى على مستوى النخب. وعلى الرغم من الوضع البائس الذي وقع فيه الشعب الكردي بعد إنهيار الخلافة العثمانية، وضعف إمكانياتهم العلمية والبحثية، فإن الحقيقة الناصعة في مساهمات الكرد العظيمة في صناعة الحضارة الإسلامية لم يستطع خصوم الكرد اخفاءها، فقد كان من بين من ساهموا في الإبداع الحضاري العلمي العالم الفيزيائي بديع الزمان أبو العز بن إسماعيل الرزاز الجزري(1136-1206م) الذي يعد من أعظم علماء الميكانيكيا في التاريخ الإنساني، واخترع العدبد من الآلات الميكانيكية التي أصبح بعضها نواة وأساس لاختراعات هامة في عصرنا الراهن، فقد برع في صناعة الساعات المائية والساعات الميكانيكية وآلات القياس وآلات رفع المياه والنافورات المائية والآلات الموسيقية، وهو مخترع الصمام مانع الرجوع. وقد ترجمت العديد من مؤلفاته إلى اللغة الألمانية والإنكليزية. والجزري هو أول من تحدث عن ذراع الكرنك أو عمود الكرنك وهو جزء من المحرك يحول الحركة الخطية المستقيمة للمكبس إلى حركة دورانية. وقد قام دونالد روتليدج هيل (1922- 1994)   وهو مستشرق ومهندس إنكليزي قام بترجمة أحد كتب الجزري إلى الإنكليزية والذي وصفه بانه وثيقة لم تقدم الحضارة البشرية مثيلا لها وأن اية وثيقة من حضارة أخرى فى العالم ليس فيها ما يضاهى ما فى كتاب الجزرى من غنى فى التصاميم وفى الشروحات الهندسية بطرق الصنع وتجميع الالات. 
كما أن العالم الفلكي والرياضي محمد بن جابر بن سنان البتاني الحراني وُلد في بتّان من نواحي حران في كردستان تركيا سنة 850م، يعتبر أحد الفلكيين العشرين الكبار الذين ظهروا في العالم على حد زعم العالم الفلكي الفرنسي أندريه لالاند الذي ظهر في القرن الثامن عشر. وأكثر من تأثر بهذا العالم من علماء الفلك والرضيات هم البوزجاني، البيروني ونيكولاوس كوپرنيكوس، وقد استعان هذا الأخير عالم الفلك الأوروبي كوپرنيكوس في تأليف كتابه الشهير “حول دوران الأجرام السماوية” (الذي فجَّر ثورة علمية في أوروبا وأسس لنهضة أوروبا) بكتاب البتاني “زيج الصابئ” (الزيج: كُلُّ كتاب يتضمن جداول فلكية يُعرف منها سير النجوم) الذي ترجم إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي، ودُرِّس في الجامعات الأوربية حتى القرن الخامس عشر الميلادي كما أنه أي كوپرنيكوس استعان بروسومات البتّاني الفلكية، ويقال أن البتاني من القلائل الذين اكتشفوا كروية الأرض، وتكريما لعلمه ومساهماته في تقدم الحضارة البشرية سميت على اسمه “فوهة البتاني” على سطح القمر. حسب ما ورد في موسوعة المعرفة.
أما الدينوري نسبة الى موطن مولده دينور في كردستان ايران، واسمه أبو حنيفة أحمد بن داوود الذي توفي سنة 895 ميلادية فيعتبر من كبار علماء النبات و الفلك في العصر الاسلامي. أشهر أعماله كتاب “النبات” الذي أصبح الأساس لعلم الأعشاب. 
وللموضوعية البحتة لا بد أن أذكر أن كتُّاب السير في التاريخ الإسلامي غالبا ما أغفلوا أنفسهم عن ذكر الأصل القومي للشخصيات الإسلامية لعدم أهمية ذلك عندهم، واكتفوا بذكر جغرافيتهم فقط. لذلك من الصعب الجزم بأصولهم القومية، واستغل هذه النقطة بعض الكتاب من العرب والفرس، فنسبوا الكثير من الشخصيات الإسلامية إما جهلا او بدوافع شوفينية بحتة إلى الأصل العربي أو الفارسي، وكأن منطقة الشرق الأوسط لا يقطنها غيرهم. 
ولعل من المفيد أن أذكر أن الإستاذة تريفة أحمد عثمان قد أعدت كتابا حول إسهامات العلماء الأكراد في بناء الحضارة الإسلامية كبحث مقدم لنيل درجة الدكتوراه في العلوم الإنسانية في الجامعة الإسلامية العالمية – ماليزيا، ذكرت فيه أن عدد العلماء الكرد قد بلغ حوالي ٤١٩ عالمًا كرديًا خلال القرنين السابع والثامن الهجريين، أغلبهم فقهاء ومحدثون، وبرز من بينهم علماء اشتهروا وأضافوا ذخيرة وتراثًا لا يمكن الاستغناء عنه في المكتبة الإسلامية بمناهجهم وموضوعاتهم التي بلغت ٥٤١ مؤلفًا والتي عالجت جوانب عديدة من جوانب المعرفة النظرية.
وليس المجال هنا متاحاً للتوسع أكثر في مساهمات الكرد في هذا الموضوع، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: إذا كان الكرد قد ساهموا في خلق الحضارة الإسلامية بهذه القوة والأهمية فكيف نفسر هامشيتهم في معظم فترات تاريخ العالم الإسلامي؟
أعتقد أن بالإضافة إلى ماذكرت سابقا حول عدم تعاطي الكرد مع الدين بوعي ودراية وبراغماتية، وضعف تفاعل رجال الدين الكرد مع العامة وهجرة الكثير منهم لبلدان أخرى، وغياب إمكانية الكتابة بلغة كردية سائدة لدى الكرد، هذه العوامل وغيرها ربما أقصت عامة الكرد عن الدراية بالدين وجعلت بينهم وبينه سترا وحجابا، مما أبقى الدين شيئا غريبا عنهم وبالتالي انتشرت ظاهرة الإغتراب الديني مع تمظهراتها السلبية عند الكرد، والتي كانت من نتائجها الضّارة نشوء تشوهات وإنحرافات مختلفة في الدين، تجسدت في الواقع الكردي بشكل تيارات ومذاهب وطرق دينية غاية في التسطيح والبساطة والجزئية، كما افتقدت هذه التيارات المختلفة إلى التعاطي النفعي مع الدين بسبب عدم قدرتهم على فهم الجوهر العملي للدين، الذي يحرك صيرورة الحياة ويمدها بالقوة الروحية والقدرة والفاعلية.
واقصد بالإغتراب الديني هنا تحديدا ضعف وسطحية وهشاشة الصلة التفاعلية بين النص الديني والذهنية الكردية. وهذا أفضى إلى غياب أو ضعف الإنسجام الروحي والعاداتي بين الكرد، مما أضعف الرابط القومي بين الكرد. وكانت هذه النتائج السلبية بسبب إنتشار هذه الظاهرة الإغترابية الدينية بينهم، وانعكس كل هذا بشكل سلبي على العلاقات الإجتماعية والسياسية والثقافية في الوسط الإجتماعي الكردي، مما تسبب في تباطؤ نشوء علاقات سليمة بين الكرد على مستويات الأفراد والعشائر والقبائل. لذلك لم يشهد التاريخ الكردي الإسلامي نشوء وحدة قومية أو إتحاد موسع يستوعب مختلف مكونات بلاد الكرد المترامية الأطراف ، بإستثناء ظهور وحدات كردية شبه مستقلة أحيانا لغياب تشكل عقل جمعي كردي خالص. وهذا بالتالي منع من تفعيل تطور العلاقات السياسية والإجتماعية والإقتصادية ، مما أبقى الكرد طويلا في مرحلة متأخرة كمجتمع زراعي إقطاعي وقسم آخر مجتمع بدوي رعوي متنقل.
وباعتبار أن الإهتمام بالدين اقتصر عموما على طبقة رجال الدين والبنية الفوقية في المجتمع الكردي، لذا فقد اقتصر الدين في الإنتشار العمودي ولم ينتشر أفقيا ليشمل الأوساط العامة للكرد، مما عزز من سطوة الزعامات القبلية والدينية ودوام سيطرتها على الأفراد والعامة. ولهذا ظلت الغالبية من الكرد تعاني من مشكلة الإغتراب الديني إلى جانب معاناة الكرد عموما من غلبة حس الإنتماء العشائري والإقليمي على الحس القومي العام. مما سهل ذلك على الآخرين مهمة ابقاء الكرد كتابعين أحيانا وخاضعين أحيانا أخرى لهم.
وأذكر أنه قبل أن تموت عمَّتي بأيام قليلة ، وكانت قد تعدّت الثمانين من عمرها ، أنّي سألتها يوماً بعد أن أنهت صلاتها ، وكنت وقتها شاباً يافعاً ، ما هي الآيات أو السور التي تذكرينها في صلاتك؟ فأجابتني بالكردية بأنها تتلو سورتي ” الحَمْدهْ اوو قلْوَليه ” أي الفاتحة والأخلاص، و قلْ وَلية أي قُلْ هو الله، وحين سألتها ما إذا كانت تعي معنى هاتين السورتين، قالت يكفي أن أعلم أنه من كلام الله.
 تذكرت هذا بعد مايقارب الثلاثين سنةً وأنا أُطالع كتاب “مروج الذهب ومعادن الجوهر” للرحالة والمؤرخ أبي الحسن بن علي المسعودي المتوفي سنة 346 للهجرة عندما يروي الواقعة التالية: “حكي مثل هذا عن عبد الملك بن مهلهل الهمذاني، وكان سميراً لسليمان بن منصور،… فدخل فسلّم قائماً ثم قال: أصلح اللّه الأمير، فبينما أنا في طريقي إذ أذَّنَ مؤذن، فَدَنوْتُ، ثم صعدتُ إلى مسجدٍ مغلقٍ، فصعدتُ ثم صعدتُ ثم صعدتُ، قال سليمان: فَبَلَغْتَ السَّماءَ فكان ماذا؟. قال: فتقدم إنسانٌ إمّا كُرْدِيٌ أو طمطمانيٌ فأَمَّ القومَ بكلامٍ ما أفهمه ولُغَةٍ ما أعرفها، فقال: وَيْلٌ لكلِّ زممةٍ زماً مالاً وعده قال: يريد وَيْلٌ لكلِّ همَّزةٍ لمزةٍ الّذي جمع مالاً وَعَدّده، فإذا خلفه سكران ما يعقل سكراً، فلمّا سمعَ قراءته ضرب بيديه ورجليه وجعل يقول: أيْرُ عبكى درليلكا في حَرِّ أمِّ قارئكِ ومصلِّيكِ. فضحك سليمان حتى تمرَّغ على فراشه، وقال: ادْنُ مني يا أبا محمد، فأنت أطيب أمة محمد”.
المسافة الزمنية بين زمن هذا الإمام الكُردي أو الطمطماني و زمن عمَّتي، هي ألف عامٍ ويزيد، إلّا أنّ المسافةَ الثقافية أو العلمية كما يبدو من الروايتين معدومة. وعلى رغم بساطة هذيْنِ الحدثين ، فإنّ الدلالة التاريخية كبيرةٌ ومفجعةٌ جداً وهي: إنَّ العَقْلَ الكُرديَّ لم يطرأ عليه أي تقدمٌ يذكر خلال هذه القرون العشرة. فعمتي كانت لاتعرف معنى هاتين السورتين “الحمده اوو قلْوَليه” في القرن العشرين، كذلك كان الإمام الكردي هذا في القرن العاشر أيضا لم يعلم معنى ماكان يتلوه للمصلّين من سورٍ وآياتٍ قرآنية، ناهيكَ عن هؤلاءِ المصلّينَ المساكين من خلفه.
وهذه الحقيقة التاريخية تبين لنا بوضوح بأن ظاهرة الإغتراب الديني كانت سبباً رئيسياً من أسبابِ تخلُّفِ الكُردِ و وقوفهم في آخر الصف من بين الشعوب الاسلامية، كما تشير هذه الحقيقة التي أمام أعيُننا كيفَ أنّ العقل الكردي امتنع أو أمتُنِع من القيام بوظيفته الأساسية، ألا وهي التفكير، التفكير بأيةِ ظاهرةٍ من ظواهرِ الحياة والطبيعة والانسان ، لأنه حُوصِرَ أو قُيِّدَ بكتابٍ لم يتمكّن أن يعلم أو حتّى أن يتعرَّفَ على ما يحمل بين دفتيه ، لأنه وصل إليهم بلغةٍ غريبةٍ عنهم، بعيدةً كلُّ البعدُ عن لغتهم المختلفة عنها في القواعِدِ والنُطقِ و طريقةِ تركيبِ الجُمَلِ وغيرها ، واكتفى المتنوِّرونَ الكُرد الذين قرَّروا الإنسلاخَ عن مجتمعهم الكُردي، بتلقين المجتمع وتحفيظهم بعض الآيات والسور القصيرة على طريقة “قلوليه و لكل زممة زماً مالاً وعده” لأداءِ صلواتهم ،وهذا الجهل الكبير بهذا الكتاب وسوَرِهِ ومعاني آياتهِ منع الكرد ليس فقط من التعاطي البراغماتي مع الدين، وإنما أي نوع أخر أيضاً، مما أدى ذلك إلى غياب أو بطء تشَكُّل هويّة كردية قوية جامعة وواضحة، أي أنهم عجزوا عن خلق أي رابط يوحدهم، فلا رابط لغوي بسبب تعدد اللهجات، ولا رابط ديني ولا وعي جماعي بسبب اغترابهم الديني وتعدد مذاهبهم، حتى روابط العرق والتاريخ والجغرافيا لم تعد فاعلة بقوة بسبب غياب لغة كردية مكتوبة ومشتركة لكل الكرد، بمعنى أنه لم يعد للكرد إي إنتماء قوي واضح ومشترك وأية ثقافة أو أفكار جامعة. لذا عندما ظهرت فكرة الكردايتية مع انتشار الأفكار القومية في منطقة الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى بدت الكردايتية كالقرعة الفارغة لا تصدر سوى الصفير عندما يُنفخ فيها.  
وقد ظهرت تجليات هذا الإغتراب الديني بوضوح في الثورات الكردية، ولذلك لم نشهد ثورة كردية جامعة أو ثورة كبيرة اشترك فيها قسم كبير من الكرد، بل على العكس من ذلك فقد اقتصرت الثورات الكردية على مجموعة  من العشائر او على قبيلة أو قبيلتين، ليس هذا فحسب وإنما أدى هذا الإغتراب الديني عند الكرد ليس فقط إلى وقوف العشائر الكردية موقف الحياد أو اللامبالاة تجاه الثورات الكردية، وإنما أحيانا لم تتردد بعضها في التحالف مع الخصوم ضدها. لأن هذا الإغتراب الديني الذي امتد إلى المجال العمومي منع الكرد من أن يستثمروا قوتهم الذاتية لمصالحهم القومية، مما سهل على الغير التحكم بمصير الكرد. والتجربة الوحيدة في التاريخ الكردي الإسلامي التي نجحت في الإنتفاع من الدين وتسخيره لمصالح ووجود الشعب الكردي هي الدولة الأيوبية التي تأسست خارج بلاد الكرد ومن ثم ضمت الجزء الأكبر من كردستان وأطياف كبيرة من الكرد إليها. وبإعتبار أن عصر قيام هذه الدولة في القرن الثاني عشر كان عصربا دينيا بإمتياز، فقد كان من الطبيعي أن تأسس هذه الدولة على أساس ديني وليس على أساس قومي، كغيرها من الدول والإمبرطوريات وقتئذٍ.  أما محاولة البرامكة الكرد في صياغة رؤية دينية خاصة بهم لبسط نفوذهم في عهد هارون الرشيد التي سبقت الدولة الأيوبية بقرون وكذلك محاولة أبو مسلم الخراساني في ركوب حصان الدين قبل ذلك، فقد فشلتا واخمدتا بعنف شديد من قبل أصحاب هذا الدين من العباسيين الذين عملوا على إحتكار حق القوة الدينية ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، بإعتبارهم الورثة الشرعيين للدين فهم الأولى بأية منافع تحققها هذه القوة حسب فهمهم وتأويلهم للدين.   
بعد انهيار آخر كيان يمثل الإسلام المحمدي وهي الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، وانتشار عدوى الفكر القومي والفكر اليساري في المنطقة كان الكرد أقل تجاوبا من غيرهم مع هذين الفكرين الجديدين بسبب افتقادهم لرابط قوي جامع يجمعهم، على عكس الشعوب المجاورة للكرد التي نجحت في تأسيس كياناتها الجديدة على اساس قومي بفعل الرابط الديني والعامل التاريخي، بينما افتقد الكرد لهذا الرابط بسبب الإغتراب الديني الذي منع نشوء أية رابطة أو صلة قوية فيما بينهم ، ولذلك بقوا متفرقين ولم ينجحوا في تأسيس كيان قومي رغم إتاحة الفرصة لهم في إتفاقية سيفر. علاوة على ذلك استغلت الشعوب الأخرى هذا الضعف والتمزق الكردي في فرض سيطرتهم عليهم وأحيانا تسخيرهم لتحقيق مصالحهم القومية كما فعل أتاتورك عند تأسيس الجمهورية التركية. 
إن فشل الكرد تاريخيا في صياغة خطاب ديني خاص بهم يعود إلى افتقار النخبة – وهم رجال الدين الكرد البارزين – إلى الحس القومي، لذلك ركز معظمهم جهودهم في صياغة خطاب إسلامي عام.  ولعدم توفر هذه الرابطة القوية فيما بينهم، فقد عملوا متفرقين وسخروا جل إمكانياتهم في خدمة الدين عموما ومنحوه الأولوية، معتقدين أن ذلك يُدرج في خدمة الله والرسول والدين الذي أنزله الأول على الثاني، ويعود ذلك لعوامل شتى أهمهما عدم توفر ظروف ملائمة لتشكيل مرجعية دينية مشتركة لغياب الوعي التاريخي الجامع والمشترك، إلى جانب عوامل أخرى أيضا.
وما يسري على رجال الدين الكرد في تفاعلهم مع الدين يسري تماما على تفاعل نسبة لا يستهان بها من المثقفين الكرد مع الفكر اليساري والشيوعي.
قد يعتقد البعض أني أُؤَيِّد تشكيل وعي ديني أو خطاب ديني جديد عند الكرد، ومع عدم معارضتي لذلك، إلا أنني لا أرى أن ذلك سيفضي إلى نتيجة إيجابية، لأن مستوى الوعي الإنساني عند اغلبية المسلمين بمن فيهم الكرد قد تجاوز مختلف مستويات الرؤى الدينية. ورؤيتي الواقعية للحالة الكردية الراهنة يشوبها بعض التشاؤم، وذلك عائد لغياب دور النخبة الثقافية للقيام بدورها الفعال، فكما أن النخب الدينية القديمة أهدرت طاقاتها الفكرية حين جندت عقولها لخدمة الدين، فإن النخب الثقافية الكردية طوال تمانية عقود من القرن الماضي أهدرت هي الأخرى جهودها وإمكانياتها الفكرية عبر تمجيد أفكار ورؤى وأيديولوجيات ضحلة ، لذلك أعتقد بأنه سوف لن يحدث أي تغيير إيجابي حقيقي عند الكرد إلى أن يبادر الجيل الجديد من السياسيين والمثقفين الكرد الإمساك بزمام الأمور، لأنه جيل حر ومنفتح على مختلف الثقافات والإتجاهات الفكرية والسياسية، بفعل انتشار وسائل الثورة التقنية الحديثة التي تقدم للمثقف الراهن مختلف الإنتاج الثقافي العالمي بكل يسر. وبقدر تمتع العقل بالتنوع الثقافي وانفتاحه بقدر ما يكون قادرا على العطاء وإنتاج ثقافة فاعلة. فكلما تنوع الجسم في غذائه كلما زادت مناعته وقوته، وكذلك الروح والعقل أيضاً. لذلك أتوقع أن المثقفين الكرد الجدد الذين لاتستويهم الأدلجة والتدين سينجحوا في تفعيل الذاكرة التاريخية الكردية بعد إعادة تأسيسها وضخها بدم جديد مشبع بالأفكار التنويرية العظيمة المؤسسة على مبادئ الحق والعدالة والحرية.  
لا ريب في أن أكثر الظواهر التي شغلت عقول الفلاسفة والمفكرين والمتكلمين واللاهوتيين هي الظاهرة الدينية، وأول من اشتغلوا حول هذه الظاهرة بشكل عقلاني هم الفلاسفة اليونانيون. 
عندما سقط نيزك على شواطئ اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد، طعن الفيلسوف اليوناني أنكساغوراس (500- 428ق.م) بدين قومه، حين رفض ألوهية الشمس ووصفها بأنها مجرد حجر أحمر ملتهب أكبر حجما من جبل البلبونيز، وبأن القمر أرض فيها جبال ووديان وبأنه كان قديما جزءا من الأرض مثل هذا الكتلة الحجرية التي أمامكم والتي سقطت من السماء. وذهب هذا الفيلسوف انكساغوراس إلى القول بوجود قوة عاقلة أزلية خالدة قائمة بذاتها قامت بتنظيم العالم. وقد أدين انكساغوراس عام 450 ق.م بسبب أرائه هذه أمام المحاكم الأثينية، ووجهوا إليه تهمة مناصرة الفرس والكفر بألوهية الشمس والقمر، وقد نجح في الفرار من المدينة بمساعدة صديقه بركليز واستقر في مدينة لامبساكوس حتى فاضت روحه.
أما السياسي والمؤلف المسرحي كريتياس (460- 403) ق.م  والذي ذكره أفلاطون في محاورات سقراط فقد ذكر في مسرحيته سيسفوس أن الإنسان هو من أبتدع فكرة الدين والأساطير التي تتحدث عن الخلود وأن القوانين والآلهة من وضع البشر أريد بها إرهاب الماكرين والمتمردين على نظام الدولة من العصاة والمارقين، ولم يغب عن بال كريتياس أن من اخترع علم الآلهة بكل شاردة وواردة يفعلها الإنسان أراد بذلك منع الناس من إرتكاب جرائمهم في الخفاء.
 
ويمكننا اختزال معظم افكار هؤلاء الفلاسفة بأنها لم تعارض فكرة الألوهية، بل ذهب بعضهم مثل أفلاطون الى وجوب اختراع اله في حال عدم وجوده، وهذا هو مذهب معظم الفلاسقة على مر العصور. لكنهم اختلفوا في مسألة الدين والآلهة المتعددة وانتقدوا الأساطير والخرافات التي كانت تشكل جوهر دياناتهم.
فوقف أغلب الفلاسفة مع فكرة الدين الطبيعي، ومن لم يكن كذلك فقد عمل على عقلنة الدين بدمج أفكاره الخاصة به. وكان ثمة من حطم ألواح الوصايا الدينية فوق رؤس رجال الدين وثمة آخرون اعتبروا أن الدين منتوج منتهي الصلاحية يجب تجاوزه أو القضاء عليه للوصول بالبشرية إلى غايتها القصوى في الخير الأسمى.
ومع استمرار النزاعات الفكرية بين المهتمين بالظاهرة الدينية بمختلف إتجاهاتهم استمرت الأديان بالإنتشار والتوسع والسطو على عقول البشر طوعاً احيانا وعنوة أحيانا أخرى. ومع تطور العلوم الفلكية في أوروبا في القرن الخامس عشر وتقديمها لنظريات تعارضت مع رؤية الكنسية والكتاب المقدس برز العقل وبدأ صراعه مع الدين إلى أن فرض العلم المدعوم بالعقل نفسه على الساحة الاوروبية، ومع انخفاض أسهم الدين عجزت الفلسفة عن سد الخلل الذي تركه الدين وخاصة بعد ظهور الثورة الصناعية وانتشار الأفكار القومية بقوة، فظهرت أيدلوجيات مختلفة حاولت الإحلال محل الأديان، أبرزها الفاشية في أيطاليا والنازية في المانيا والماركسية  في روسيا، وكانت هذه المرحلة من أسوأ المراحل التاريخية التي مرت على أوروبا والبشرية كلها وتسببت في نشوب حربين عالمتين كارثيتين. فتم القضاء على الفاشية والنازية ثم انهارت الماركسية بإنهيار الإتحاد السوفيتي. اما في منطقة الشرق الأوسط فقذ حاولت العديد من البلدان تطبيق النظام العلماني الذي قام بتهميش دور الدين، لكن ما لبثت هذه البلدان أن أطاحت بالعلمانية المزعومة وعاد الدين بقوة ليحتل دوره من جديد. ففي إيران التي حاول الشاه تحديثها وعلمنتها على مدى عقود طويلة، أرجعها آية الله الخميني سنة 1979 الى إسلامه الشيعي، وفي تركيا حصل ما يشبه لإيران فبعد استمرار النظام العلماني عشرات السنين جاء أربكان ثم أردوغان سنة 2003 لإإعادة تركيا إلى عقليتها العثمانية الإسلامية. ومع انفجار الثورات العربية أو ما سميت بظاهرة الربيع العربي تسلم الإخوان المسلمون في مصر مقاليد السلطة بعد الثورة التي اطاحت بنظام مبارك العلماني، فقضى عليهم العسكر بانقلاب دموي فساء الوضع أكثر من السابق، وكذلك عادت تونس إلى حزب النهضة الإسلامي وصدَّرت إلى داعش أو ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية  أكبر عدد من المقاتلين رغم أنها أصغر دول شمال أفريقية وبالرغم من أن الحبيب بورقيبة حاول على مدى عقود جعلها دولة علمانية حديثة بتحديث المجتمع التونسي، لكن تبين أن العلمانية ليست وصفة جاهزة وإنما ثقافة لها أسس معرفية ومجتمعية قبل أن تكون نظاما للدولة. وقد كانت المعالجة للوضع الإجتماعي كما أتاتورك وشاه إيران وعبدالناصر والبعث معالجة سطحية ومجرد تقليد أجنبي فرض بالعنف والخوف على الشعب ولم يكن تغييرا جوهريا وحقيقيا. كما تفجَّرت في كلٍ من ليبيا والعراق البعثي وسوريا البعثية العلوية واليمن براكين حارقة من الكره والحقد الإجتماعي والديني والمذهبي والطائفي والعرقي بعد أن كانت مطمورة ومضغوطة بالعنف العلماني البعثي الفاشي وغيره. وفي روسيا عادت الأرثذوكسية بقوة بعد انهيار النظام الشيوعي 1989، وفي بولندا عادت الكاثولكية بثقلها أيضا، وفي المانيا وبعد توحيد الألمانيتين وتحطيم جدار برلين برز الشعور الديني أكثر وزادت أصوات حزبي الإتحاد الديمقراطي المسيحي والإتحاد الإجتماعي المسيحي بصورة ملفتة. 
إن سبب عودة الموجة الدينية بقوة في المنطقة الإسلامية هو غياب البديل عن الدين، فالعلمانية ليس فكرا بقدر ما هي آلية نظام تقوم بفصل الدين عن الدولة وفصل السلطات الرئيسية الثلاث، و تقف على مسافة متساوية من جميع الأديان والمذاهب والطوائف والأثنيات، والسبب في نجاح العلمانية في أوروبا عموما هو أن الفلسفة الأوروبية  قامت بدعم النظام العلماني حين تمكنت من إيجاد بدائل عن الدين الذي تم حصره في الكنائس، تمثلت هذه البدائل بمذاهب فكرية متعددة رسخت في الذهنية الأوربية مفاهيم إنسانية عليا كالحرية والعدالة والمساوة وحقوق الإنسان والعدالة الإجتماعية وحقوق الفرد، ورافق ذلك تطور في الإقتصاد والعلوم التطبيقية والنظرية، ثم تحققت الثورة الصناعية وتحول النظام الإقطاعي إلى برجوازي ثم إلى الرأسمالية بأشكالها المختلفة حتى وصلت إلى الليبرالية الجديدة، وبغض النظر عن الإنتقادات التي تعرضت وتتعرض لها الرأسمالية إلى الآن،  فإنها توفَّر للأوروبيين أمنا أقتصاديا وحرية فكرية وحياة كريمة جعلت ثقتهم بالعقل والعلم ثقة قوية جدا، لذلك لم يعد يشعر الأوربيون بحاحتهم الماسة إلى الدين رغم عدم تخلي الأكثرية عنه. وصار بابا الكنيسة الرومية الكاثوليكية (التي تمثل أكبر مذهب كاثوليكي عدد معتنقيها 1.2 مليار شخص) أينما ذهب يبدأ بغسل أرجل الدراويش والمساكين الفقراء من الناس أسوة بسيده المسيح، في حين كان البابوات في عصر الكنيسة في القرون الوسطى يقومون بتنصيب الملوك والإمراء على عروشهم وتنزيلهم منها بإشارة أصبع،  وبنهب أموال المواطنين بشتى السبل والوسائل وبحرق المفكرين والساحرات على حد سواء، وأصبحت الموبقات التي ترتكب باسم الكنسية حدا لا يطاق، وتفشى التعدي على أعراض الناس، حتى أن البابا يوحنا الثاني عشر (955-964) قُتل وهو يغتصب إحدى السيدات المتزوجات في شارع  من شوارع ضواحي روما.
إن اختلاف الحالة الإسلامية عن الحالة المسيحية يجعل من محاولات الكثير من المفكرين المسلمين في عقلنة الدين أو تجديد الخطاب الديني أن تشبه إلى حد كبير محاولة الخميائي الذي يهدر وقته وجهده في محاولة تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب، فلا يمكن لأي قراءة جديدة للنصوص القرآنية أو لأي تأويل جديد لها سواء أكان عن طريق اجتهاد أو تفسير جديدين او عن طريق التأويل اللغوي أن تعقلن الدين أو تجدد خطابه، لتعذر قياس الإسلام المحمدي على الدين المسيحي والدين اليهودي، والسبب يكمن في أن القرآن عند المحمديين هو كلام الله النازل من السماء والموجود في الكتاب المحفوظ، أي أنه كلام مقدس. بينما التوراة والأناجيل ورسائل الرسول بولص لا تعتبر كلاما مباشرا نازلا من الله، أي أنه ليس كلاما مقدسا، مما سهل على المؤولين الأوروبيين المسيحيين والفلاسفة وحتى اللاهوتيين مهمتهم في تأويل وتفسير الكتاب المقدس براحة وقدر كبير من الحرية، وبذلك تمكنوا من إيجاد صياغات تأويلية جديدة للكتاب المقدس. هذه من ناحية، ومن ناحية أخرى قدم فلاسفة أوروربا رؤىً وتصورات إنسانية بديلة عن الكتاب المقدس في معاني وجود الله والعالم والإنسان. وبهذا خفّت كثيرا وطأة المقدس الديني عند المسيحيين واليهود. بينما الإسلام المحمدي مازال يتحكم بقوة بعقول المسلمين، لذا لم ولن نشهد أبدا رجل دين مسلم يغسل قدم مسكين أو يزيح أمام ضرير حجرا كي يجبنه الوقوع أو يصنع بسمة على وجه طفل بريء، بل ما يحصل هو العكس تماما وهو السيطرة على عقول المساكين وإدخال الخوف والفزع في قلوب الأطفال بحكاياتهم الدينية المرعبة، كي يحافظ رجل الدين على نفوذه ومكانته بين الناس.
زاغروس أمدي – فيينا 2017
————————————————
• نشأت في مدينة حلب منذ السابعة، بعد أن هاجرنا من قرية كردية قرب الحدود الشمالية من تركيا تدعى مامالى  MAMALI.تقع في أقصى الشمال الغربي في اقليم كردستان سوريا.
تخرجت من كلية الهندسة المدنية 1981من جامعة حلب.
• سافرت إالى النمسا سنة 1989 بقصد الدراسات العليا، لكن هدفي الرئيسي كان للإطلاع على الثقافة والحضارة الأوربية ، قراري بالبقاء سنولت قليلة في الخارج امتد لسنوات طويلة، عدت إلى سوريا سنة 2006 واشتغلت عدة سنوات في التعهدات الهندسية الخاصة في مدينة عفرين، ثم رجعت الى النمسا عام 2012 بسبب الحرب الأهلية في سوريا.
• من قبيل التغيير ورفض كل مفروض على الإنسان اخترت اسماً أدبياً “زاغروس آمدي” ونشرت معظم كتاباتي بهذا الإسم، عدا عن بعض المقالات السياسة التي نشرتها بإسمي المفروض حسين قادر. 
• تحررت من إعتناق الإسلام المحمدي كلياً.
• أعتنق منذ 2002 الإسلام  الإبراهيمي كطريقة للحياة.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…