رسالة إلى أبي

أفين إبراهيم
   ترك لي أبي رسالة صوتية على هاتف المنزل يقول فيها: ” كفوكا مني سبي ” أنا أبوك حبيت أطمن عليكم … أتصلي فيني بس ترجعي “.
 كنت أضحك بشكل هستيري في كل مرة أسمع فيها هذه الجملة (أنا أبوك) الجملة التي تجعل قلبي يرتجف، تجعلني أفكر؛ هل حقا نستطيع أن ننسى أصوات من نحب؟ 
مرت الأيام، تراكمت الرسائل، مسحتها كلها دفعة واحدة، دون أن يخطر لي؛ بأني سوف أكون محتاجة يوما ما لسماع صوته، ولن أستطيع! 
ظهر الهاتف النقال، ظهر معه شلال الدم السوري الذي لم يتوقف حتى الآن. خرج أبي مثل الكثيرين، ومثل الكثيرين أيضا لم يصل إلى مبتغاه. 
 سألته مرة: كيف يكتب اسمي في هاتفه الصغير جدا؟ ضحك وأجابني: ” كفوكا مني سبي “. 
مات أبي، بقيت الحمامة محبوسة في شاشة ذلك الهاتف، تخرجها أمي كل فترة، تقبل الهاتف، تشمه، ثم تعيده الى الخزانة.
 ترك لي أبي رسالة صوتية على هاتف المنزل، يقول فيها: “كفوكا مني سبي ” أنا أبوك حبيت أطمن عليكم أتصلي فيني بس ترجعي”. 
تذكرتها ليلة أمس وأنا أشاهد برنامج وثائقي، عن الخفافيش، بأنها من الحيوانات الطائرة التي تشكل الكثير من المخاطر للإنسان، أنها كائنات ليلية تنام مثلنا نحن البشر، عندما نصاب بداء الحزن طوال النهار. تعيش في مستعمرات كبيرة، في مواسم التزاوج تغمض عيونها، مثلنا، رغم الظلام! بأنها الحيوانات الوحيدة، الثدية – بعدنا نحن البشر – تستطيع الطيران.
 إن الغشاء الذي ينمو بين طيات قلوبنا في كل مرة نخسر فيها شخص نحبه، يشبه الى حد بعيد تلك التحورات التي تتمدد مع الوقت، بين أطرافها، لتتحول الى غشاء طري يساعدها في الطيران. أنها مثلنا؛ تضع أطفالها مقلوبة برؤوس تتدلى نحو الأسفل.. تغادر لساعات طويلة لتأكل، عندما يمتلئ ثديها بالحليب؛ تعود، تعود للتعرف على طفلها من بين الزحام الذي يضم أطفالا غرباء، كلهم متشابهون، تعود للتعرف عليه من خلال ذاكرة المكان؛ من صوت صياحه؛ تتعرف عليه من خلال رائحته، بين كم كبير من الخفافيش الصغار. منها من يصاب بفقدان الذاكرة، مثلنا ينسى مكان المولود. 
هذا النوع من الخفافيش يشبه الى حد كبير الشعراء؛ في كل مرة يرى فيها مولود يعتقد انه طفله يطير نحوه بشغف مهول، يخرج كل ما في قلبه ويعطيه له دون حساب. 
وجوه الخفافيش متباينة؛ مثل وجوهنا نحن البشر، بعض الخفافيش لها عيون كبيرة واضحة، بعضها بعيون صغيرة، كالخرز، لا تستعملها للرؤية، ولا تبصر بهما.
 صغار الخفافيش التي يقل عمرها عن 9 أيام؛ تكون عمياء في البداية، مثلنا، لكنها بعد ذلك تصبح قادرة على الرؤية، تموت بالكأبة أو منتحرة في الظلام! 
  ترك لي أبي رسالة صوتيه على هاتف المنزل يقول فيها ” حمامتي البيضاء ” أنا أبوك، حبيت أطمن عليكم، أتصلي فيني بس ترجعي” 
 تذكرت الرسالة ليلة أمس، وانا أشاهد برنامج وثائقي عن الخفافيش، عن أنها الحيوانات الوحيدة، الثدية – بعدنا نحن البشر – تستطيع الطيران، عن أن الحمامة بقيت محبوسة في شاشة هاتفه الصغير، عن أمي التي تخرجها كل فترة، تقبل الهاتف، تشمه، ثم تعيده الى الخزانة، عن أنى كيف؟ كيف، رغم كل هذا الخراب؛ مازلت أستطيع الطيران؟ 
 ظهر الهاتف النقال، ظهر معه شلال الدم السوري الذي لم يتوقف حتى الآن، خرج أبي مثل الكثيرين، ومثل الكثيرين أيضا لم يصل، سألته مرة: كيف يكتب اسمي، في هاتفه الصغير جدا؟ ضحك وأجابني: “كفوكا مني سبي ” 
أفين إبراهيم
الولايات المتحدة الأمريكية
1/3/2020 
” كفوكا مني سبي ” تعني باللغة الكردية؛ حمامتي البيضاء.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

مسلم عبدالله علي

ونحن صغار، كان أبي دائمًا يُصرّ أن نجتمع جميعًا حول سفرة الأكل دون استثناء. لم تكن السفرة تُمدّ إن كان أحدنا متأخرًا، بل ننتظر حتى يأتي.

وإن تحجّج أحدنا بأنه ليس بجائع، كان يُصرّ عليه بالجلوس، وأي جلوس! بقرب كيس الخبز وقنينة المياه ليصبّ لكل من أراد ذلك. وأحيانًا كانت أمي تحاول إنجاز بعض…

ماهين شيخاني

تتوالى الأنباء كما لو أنها خيوط حزن تتسرب إلى القلوب: خبر وفاة مناضلٍ كبير، وشخصية كوردية تركت بصمة عميقة في الوجدان والتاريخ.

لقد التقيتُ به أكثر من مرة ، في مناسبات عامة وفي داره العامر، حيث كان الاستقبال ودوداً والبساطة شاهدة على عظمة رجلٍ لم تُغره المناصب. وحين بلغني خبر رحيله ، شعرتُ كأن صفحة…

خالد بهلوي

لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي مجرد منصات للترفيه والتسلية، بل تحولت إلى فضاء واسع للتعبير عن الرأي وتبادل المعرفة وصناعة الوعي الجمعي. وفي الحالة السورية، التي تمر بمرحلة حساسة من التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، تزداد أهمية هذه الوسائل بوصفها أداة فعّالة لرصد الواقع وكشف الحقائق والمساهمة في رسم ملامح سوريا المستقبل.

أغلب مستخدمي هذه…

المهندس باسل قس نصر الله
حينَ أنظرُ إلى أبنائيَ اليومَ، وقد أصبحَ كلُّ واحدٍ منهم يقودُ حياتَه ويصنعُ عائلتَه، أبتسمُ في داخلي وأقولُ: نعمْ … لقد صارَ لكلِّ بيتٍ جيشُه الصغيرُ، ومجموعُ هذه الجيوشِ هو جيشُنا الكبيرُ.

تعودُ بي الذاكرةُ إلى البداياتِ … إلى صباحاتٍ كنا نستيقظُ فيها على صوتِ أمِّهم وهي تُصدرُ أوامرَها الصارمةَ والحنونةَ معاً….