وفي الألم عبرة !!!!

 د. بسام مرعي
مازالت صرخات الوالد الناجمة عن ألمه،  بسبب ذلك المرض اللعين حاضرة في ذهني، وكأنها البارحة لم تسعفه كل معرفتي بعلم الصيدلة، وتسكين الألم، واستشارات الأطباء، في إيقاف ألمه أو تسكين حدة وجعه ، الى أن حانت ساعته ٠ رحلتي التي بدأت بالباراسيتامول الى المواد الأفيونية المعتدلة مثل الكودئين والديكستروبروبوكسيفين والترامادول وصولا الى الافيونات القوية مثل  المورفين باءت  كلها بالفشل. 
صرخة أخرى شقت عباب الصمت لتزمجر داخل رأسي، وظلت مدوية هناك في إحدى العيادات المختصة بعلاج الألم  في دمشق، حيث خرج كل من في المكاتب والعيادات المجاورة، على صدى زئيره الموجع، الأقسى من أن يحتمله كائن رقيق كالأنسان، الذي خصه الله بقمة الإحساس والوجع، لأقف مذهولاً!!!! أمام مريض يعاني من  نوبة صداع نصفي  (الشقيقة )، وقد كانت أخر صرخة له، وأخبرني الطبيب فيما بعد إن له قصة جينية وراثية في عائلته، ولم  يكن الضحية الأولى فيها.
 يبدو لي أن هذا العلم  مازال قاصراً، بالرغم من الكم الهائل من الدراسات والأبحاث، وتطور علم تصنيع الأدوية، لأنتاج عقاقير عساها تخفف شيئاً من آلامنا، ولكن عبثاً فمع كل تقدم  في الحياة، نكون قد فتحنا أبوابا لآلام جديدة، في حياتنا  بقدر تقدمها.
لا أدري كم لامست الحادثتين شغاف الوجع والتساؤل عندي لأقول: 
هل كلنا نتألم بنفس السوية؟ وهل عتبة الألم واحدة لدى كلا منا ؟
 وهل وراء كل ألم معاناة؟  أم أن هناك ألم لتحرير وخلاص حياة وروح جديدة كما هو ألم الولادة؟
 وهل المرأة تتألم أكثر من الرجل ؟
نعم بعض الحوادث هكذا، تترك أثرها على النفس، لتولد فيه مئات الأسئلة، ومئات المحاولات للإجابة، التي ربما تشبع الروح المتولدة التواقة للمعرفة. 
لاشك أن كل أنسان مختلف في جلده وأعصابه وأحاسيسه، وكذلك في صفاته النفسية والجينية ، ففرهاد ليس كأراس وزين ليست كشيرين، فلكل توليفة خاصة تكون معدنه وعجينته أو طينته النفسية، فسمات الشخصية تورث وتحمل على الجينات وتتدخل البيئة بعد ذلك لتلعب دورها في الاكتساب لا التوريث. 
ولكي نفهم الانسان ونتعامل ونتعايش معه لابد أن نفهم ونعرف سمات شخصيته أوحتى البارزة منها، والتي تؤثر في أسلوب تعامله  مع المحيط، و منها استجابته للألم ودرجة احتياجه له، فالألم معنى وهو كذلك احتياج، ولعل الألم والإنسان صنوان لا يفترقان..  
لن أتحدث عن آلية الالم، وكيفية انتقال الاحساس بالألم ضمن مسارات الأحساس الصاعدة الى الدماغ، 
فكل إنسان يبحث عن مغزى لآلامه كونها ليست ظاهرة حسية مجردة، فالألم خبرة نفسية وتجربة سيكولوجية، تشتمل على الأحساس بالمعاناة، وترتبط بمتاعب الجسد وعذابه ، والعذاب بهذا المعنى يعتبر خبرة ألامك.
وفيما يبدو لي أن الألم يؤدي وظيفة هادفة في حياة الإنسان، بل ولديه وظائف هامة مثل الاوكسيجين، فكلاهما مرتبط باستمرار حياة الانسان ، فهو مرتبط بالحب والاستمرار على نحو صحي، فكما لا يستغنى الإنسان عن الأوكسيجين، وإلا ماتت خلاياه فهو لا يستغني عن الألم، وإلا ماتت نفسه أو على الأقل ذبلت بعض معاني الحياة فيها، كما ألم  الضمير لديه، نتيجة الندم والاحساس بالذنب، وبهذا المعنى  فهو عقاب للذات  حيث يتنازعها ألم الحب وألم التعذيب والقوة، والكثير من الآلام النفسية. 
تعذب أيها الأنسان!!!! واصرخ ٠٠٠ وإياك أن تكف عن الإحساس بالألم أوالشكو ى منه، فهو يحفظ توازنك ويمنع أويشفي تلك الدوامات العاطفية التي كادت أن تبتلعك.
وليس الصراخ دوما ضعفا وقيلة حيلة، فهل الألم مرتبط بالعدوان والقوة؟ 
فأذا أردت مثلاً أن يكون لك سيطرة على الأخرين، فاجعلهم يشعرون بالألم، ومن هنا يبرز ارتباط  الألم بالعدوان وبالقوة.
الطفل يرث العدوان في خلاياه، ثم يتعلمه ويعرف تاثيره، و أول ضحاياه عندما تنمو أسنانه، ويغرزها في ثدي أمه وتتألم الأم صارخة وتنهره،  أنه أول درس عن تأثير العدوان على الأخرين ، لنتمكن من السيطرة عليهم، حتى لو كانوا أحباءنا. .
ترى لو لم تكن لدينا نهايات عصبية في اجسامنا تستشعر الألم هل كانت ستستقيم علاقة الانسان بالإنسان؟ وهل يمكن أن يكون الألم أحد ابعادها؟ 
وماالمازوشية والسادية إلا استعذاب الألم، الألم الجسدي والاستمتاع بالألم النفسي، وكل مازوخي يحتاج إلى سادي والألم دواء هذه النفوس السقيمة المحملة بالخوف والذنب.
– الألم والحب 
  هذا هو لسان حال العاشق: 
إنك جزء لا ينفصل عن جسدي، عن طريق الخلايا والشرايين والأعصاب،  فأنت جزء مني أشعر بك مثلما أشعر بأي جزء من جسمي، فإذا ابتعدت عني لا قدر الله ، فكأني فقدت جزءاَ من جسمي، هكذا أنت بالنسبة إلي وحينما نفترق يضرب وينهش الألم جزءاً من جسمي،  ويمنعني من الحركة او يمنعني من النوم . 
ولا ننسى أن هناك أعصاب خاصة بالعواطف، وتغذي عضلات الوجه، وتأخذ أوامرها مباشرة من وجدان الإنسان، أي من قلبه ومشاعره وأحاسيسه، وثم تنطلق إلى الوجه لترسم لوحة ناطقة تقول وتعبر، أنا أحب أو انا أتألم، أو أنا حزين، وكل ذلك التدفق، ومازال العلم عاجزا عن تفسير ذلك النور الذي يملأ الوجه حين يشعر بالحب !!!!! 
 الرأس في خريطة الألم: 
 لكل ألم معنى ومغزى، ولاشيء في حياة الأنسان يحدث  بدون معنى، إلا إذا كانت حياته مفروغة من قيمتها ومعناها ٠ 
الرأس وهو أهم مكان في جسم الإنسان، وهو بلاشك ذا مغزى،  ولذا كان محط الكثير من الألام وهو المكان القديم الذي عاش خبرة الألم في كل الظروف التي عشناها .ولن يجعلنا موضوع الألم نتناسى أن الصحة نعمة، وتاج على رؤوسنا، من يملكها يملك القوة والغنى، فالمرض ضعف وفقر وهاوية مظلمة لا ترفرف فيها إلا خفافيش اليأس، والصحة الموفورة تصاحبها فترات ألم وسويعات عذاب مرتبطة بألم لذيذ النوع !!! 
المرأة والألم : 
آلام المرأة التي تعتبر عتبة الحياة لكل إنسان، فلحظات بداية أي انسان على الأرض، تصاحبها ألام شديدة هي الأعذب والأحلى في حياة الأم ولا أبالغ إذا قلت إن تجارب الولادة بدون ألم، حققت تعاسة للأمهات فولادة بدون ألم، ولادة منقوصة وأن افترضنا ذلك في الجانب المعنوي، وهناك دراسة أشارت  أن أغلب الأمهات، يفضلن الولادة بألم وهي المرة الأولى في تاريخ الطب، التي يرفض فيها مساعدة الطبيب في تخفيف الألم، لأنه ألم مرتبط بوجدان الأم، وألم بزوغ أسنان الطفل أيضاً أكثر ألم بريء تفرح له الام .وهذا الألم الذي يعذب صاحبه أحيانا، وتستطيبه الروح أحياناً أليس له علاج؟ 
علاج الالم: 
اكتشف الإنسان حديثا خلايا في مخ الانسان وفي الغدة النخامية، تصنع مواد تسمى الفا وبيتا اندروفين، وأن هناك خلايا خاصة في الجهاز العصبي، تسمى مستقبلات الأفيون، أي انها تستقبل الافيون على سطحها، ومستقبلات الافيون داخل مخ الانسان، خلقت قبل أن يهتدي الإنسان إلى الأفيون ووجود خلايا في المخ تحتوي على مادة(( الانكفالين))، وفاعلية هذه المادة عشرة أضعاف فاعلية الأفيون، شجرة الخشاش، فجسم الإنسان يصنع مسكنات الآلام الخاصة به، ولأن الالم ضروري لحياة الإنسان، كان لابد أن يصنع الجسم المادة التي تخفف هذه الالام . 
ألا توافقونني إن للألم مذاق من خلاله ندرك طعم الحياة وقيمتها، وقيمة أن نستمتع بها، وقيمة أن نحافظ عليها وقيمة أن نطورها ٠ 
الاكتئاب له عقاقير تشفيه، والألم له مسكنات وهذا بديهي وصحيح، ولكن لا نستطيع أن نمنع نفساً من أن تكتئب، ولا جسداً من أن يتألم، إذن هو قدر الإنسان، وهو ثمن حياته، ومن كتب عليه الحياة عليه أن يتألم . 
قال نيتشه عن الٱغريق يوماً :  
كم عانى هذا الشعب حتى خلق كل هذا الجمال
ويقول أيضاً  : كل شيء يملك ضده في ذاته .
وهنا أقول جملتي من رحم الألم تولد اللذة٠٠٠٠ 
ومن رحم المعاناة تولد قيمة الحياة ٠٠٠٠
هولير 19-5-2020 
مراجع :
-كتاب الالم العضوي والالم النفسي للدكتور عادل صادق استاذ الطب النفسي والاعصاب بكلية عين شمس 
– كتاب  فلسفة اللذة والألم – اسماعيل مظهر 
اللوحة : للفنانة الكوردية سمر دريعي 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…