صبري رسول
تشهد الساحة الأدبية والسردية ولادة كثيرٍ من النّصوص التي تُصنَّف في باب القصّة القصيرة جداً، وبغيابٍ نقديّ تام، ما يجعل القارئ غير المختصّ لا يميّز بينها. وهذا اللون السّردي له قواعد خاصّة وعناصر تميّزها عن غيرها.
في هذا المقال ستتناول هذه القراءة أحد هذه النّصوص للكاتبة هيفي قجو بعنوان «اكسر الغياب»، لكن قبل ذلك لا بدّ من قراءة النّصّ القصصي أولاً:
اكسر الغياب
هل كان حلماً؟!!
الوردةُ الحمراءُ ــ الحالمةُ على تلكَ الخزانةِ الصغيرةِ بجانبِ السَّرير ــ كانت تشي بأنّكَ كنت هنا؛ لايزال المكانُ يحتفي بنكهتكَ ولايزال حضورُكَ ماكثاً، متخثراً بين أصابعي. في الحقيقةِ لستُ بحالمةٍ، ها أنا أستعيدُ كلَّ تفصيل بيننا: معطفكَ الأسود الذي أُحبُّه كان على ذلك الكرسيّ بجانب طاولةِ الكتابة، كنتُ قد نزعته عنكَ بنفسي، وكذلكَ أَسْتَعيْدُ الرَّقصةَ حين هَمَمْتَ بمراقصتي، جَذَبْتَنِي من أصابعي إلى أعلى كتفكَ ثم رفعتَ رأسي وتعمّدْتَ عدم تقبيلي لكنك لم تقاوم الكرز فذقتَهُ ممزوجاً بنبيذ معتق! اكسر الغياب…عاصفةُ الشوق تجتاحني..
ما يميّز هذه القصة أنّ العنوان والجملة المُصاغة كسؤال في البداية يختزلان النّص كلّه، ويغلقانه بمفتاح مُلقَى على باب القارئ.
«اكسر الغياب»، يشير العنوان من خلال الحقل الدلالي أنّ هناك قطيعة طويلة وقعت بين السّاردة، مستخدمة الضمير الأول “أنا” وبين الغائب، الموُجَّه إليه الخطاب والعتاب، استخدام الضمير الثاني “أنت”. فالغياب يدلّ على وقع القطيعة، واستخدام فعل الأمر “اكسر” توجيهٌ قويّ ومطالبة بتجاوز «القطيعة» المرّة.
وصيغة «كسْرُ الغياب» تدلّ على أنّ العلاقة كانت سابقاً مفعمة بالحميمية وبالتواصل، مُورّدة، ويؤكّد ذلك الوصف المكثّف لحضوره سابقاً، «لايزال المكانُ يحتفي بنكهتكَ ولايزال حضورُكَ ماكثاً، متخثراً بين أصابعي»، فلم يكن له حضورٌ فقط، بل كان لحضوره نكهةٌ تعوَّد المكان عليها، والاحتفاء بشيء هو التحضير الكامل والاستعداد له، واستنفار مكوّنات المكان بوجوده، ما يدلّ على البهجة التي يُحدِثُها وجوده، من جانبٍ آخر، غيابه ليس سوى اختفاء فيزيائي محضّ، فحضوره مازال قوياً في المكان، حيث اللقاء، ومازال عالقاً بين أصابعها، وكأنّها مازالت تقبضُ على حضوره السابق.
تكسّر بالعبارات الآتية مكنوناتها التي لا تلجأُ إليها النّساء غالباً: «معطفُكَ الأسود الذي أُحبُّه […] كنتُ قد نزعتُه عنكَ بنفسي، وكذلكَ أَسْتَعيْدُ الرَّقصةَ حين هَمَمْتَ بمراقصتي». أنْ تحبَّ شخصاً يعني أنْ تُحبّ أشياءه، قلمَه، كتبه، رقمه، ألوانه، ومعطفه. استعداد صاحبة المكان لاستقباله، يجعل المكان كلّه في أقصى تأهّبه، فتنزع عنه المعطف، وتطعه على الكرسي هناك. اللحظة الحميمية جعلتها تحفّز ذاكرتها التصويرية على استعادة الرّقصة؛ إنّها البهجة الكبرى. المراقصة الثنائية تذويبٌ لروحين تنتشيان في جسدين يلبيان لنداء الضرورة الذي يفرضه المكان واللحظة الشعورية في الزّمان. كلّ هذه الأسرار تبوح بها بسبب غيابه، والنساء يحتفظنَ بها كأحد أسرار الطبيعة الأنثوية، لكنّها هنا تكثّف بتفصيلها بعد إن فاض بها الشّوق.
وكي تقدّم له الإغراء أكثر، وتدفعه إلى كسر الغياب المؤلم، تذكّره بمتعة القبلة «رفعتَ رأسي وتعمّدْتَ عدم تقبيلي لكنك لم تقاوم الكرز فذقتَهُ ممزوجاً بنبيذ معتق!» الرّقصة التي راهنت على حصان اللهفة، وقرّبت بينهما، جعلته يكسّر قواعد الرّقصة فيرفع رأسها، ثمّ تغريه حبّات الكرز اليانعة، فيغترف من نكهتها كأسه، وكأن مذاق الكرز استمدّ روحه من روح النبيذ المُعتّق.
وفي استخلاص المعنى العام لهذا النّص نجد عمق الأثر الذي تتركه القراءة الأولى له، وهذا قد لا يشعر به المتلقي العادي، والعمق ذاك، يولّده الإيقاعُ القصصي المتدفق بوتيرة متوتّرة، حيث الحديث عن اللحظات الشعورية، والاثنان «عمق الأثر والإيقاع القصصي» يخلقان معاً الدهشة الناتجة عن الدعوة القوية باستخدام فعل الأمر «اكسر». فالعتبة النّصية والخاتمة تمتزجان معاً ليكون الأمر طريفاً، فسبب الدعوة يتوضّح من الختام والسبب «عاصفةُ الشوق تجتاحني»؛ وعند النّظر إلى أركان (ق. ق. ج) التي حدّدها النَّاقد أحمد الحسين، نجد أنّها «الطرافة، الإدهاش، عمق الأثر، الإيقاع القصصي».
في هذا النّص نلاحظ كثافة اللغة، حيث تثقل الجمل بالمعاني الكثيرة، بإيحائية، فنلاحظ أنّ هذه العبارة «جَذَبْتَنِي من أصابعي إلى أعلى كتفكَ ثم رفعتَ رأسي وتعمّدْتَ عدم تقبيلي لكنك لم تقاوم الكرز…» تأخذُ من لغة الشّعر جانبه الموحي، وكثافته الدلالية المشعة، وفق تعبير الناقد العراقي صالح هويدي في كتابه الأخير «السَّرد الوامض»، فتجمع بين اللغتين الشعر والنثر، وهذا ما دعاه إلى أن يطلق على لغة هذا اللون الكتابي بـ«لغتها الخاصة».
فكلّ جملة تُكتَب، تحمل معنىً ما، بل «يجب ألا تكتب كلمة واحدة لا تخدم غرض الكاتب» حسب تعبير إدغار آلان بو. لكن في هذا السّياق يمكن تسجيل الملاحظة التالية على عبارة «لكنك لم تقاوم الكرز»، فهو قاوَم ذلك، لكنه لم ينجح، أو كانت مقاومته ضعيفة، وكان يمكن الاستعاضة عنها بـ«لكنّك فقدتَ المقاومة».
هنا تظهر المفارقة بين القصة القصيرة جداً وبين القصة القصيرة، التي قد تقبل مساحتها السردية التطويل والوصف والحوارات. أما (ق. ق. ج) فذات آليات جمالية مختلفة، لقصر مساحة السّرد، وبسببها يُصبحُ مركزُها المغامرة على حبل اللغة، «أتَعيْدُ الرَّقصةَ حين هَمَمْتَ بمراقصتي، جَذَبْتَنِي من أصابعي إلى أعلى كتفكَ» بهاتين الجملتين يفهم المتلقي حيثيات الحدث القصصي.
لو تمكّنَ بعضُ الكتاب الكُرد كتابة «النّصّ الومضة» باللغة الكردية مع مراعاة كثافة اللغة والدّهشة وعمق الأثر لكان ذلك قفزة نوعية في عالَم السّرد.
——————————-
الحلقة الثالثة: قصة عامر فرسو