الشاعر في عزلته!


  إبراهيم اليوسف
 
ماالذي تغير على الشاعر في مرحلة العزلة؟
من شأن سؤال – كهذا- أن يلقى العناية به، ونحن ننظر إلى الشاعر، وهو محجور مع سواه. أسرته. ذويه، أو وهو وحده، واختياري لأنموذج الشاعر جاء لأنه ممكن النظر إليه كرمز إبداعي، وهنا فإنه يمكن استبدال اسمه في توصيفه بغيره، من المبدعين، أياً كانوا، ومنهم: الموسيقي، أو التشكيلي، أو المسرحي، أو الروائي، او القاص، أو الممثل إلخ، إذ ثمة ما يجمع هؤلاء جميعهم، من جهة ميلهم إلى العزلة – بشكل عام- بسبب متطلبات الإبداع، وإن كانت هذه العزلة في جذرها نتاج انفتاح على الآخر. انهمام به. انشغال به. انسكان به. تماثل فيه، لأنه محط عنايته، يقاطعه ليتواصل معه. يعيشه من الداخل، يستدعيه، ليعيد صورتيهما- صورته والآخر- في الشكل المتوخى!
ولعلَّ الدافع إلى تناول حالة الشاعر في معتزله، في محتجره، أن العزلة إحدى مفردات الإبداع، إذ يؤثر المبدع أياً كان- عالم الخلوة، كي يتواءم مع طقسه الإبداعي، بعيداً عن أية مؤثرات قد تشغله عن حالته، أو تخرجه منها، وهناك شعراء كثيرون على سبيل المثال لا يخرجون من – بيوتهم-  فترات طويلة، يعتكفون خلالها على عالمهم الإبداعي، ليغدو هذا الانقطاع عن الناس جزءاً من شخصياتهم، فلا نراهم بيننا إلا نادراً، ولدواع  اضطرارية، يكرهون، خلالها، عن الخروج على العالم الذي ألفوه، وأدمنوه، وإن كنا لنجد في المقابل، شعراء، يكادون ينظرون إلى بيوتهم. إلى الأمكنة، وكأنها- صفائح ساخنة- لايمكنهم المكوث فيها طويلاً، بل دأبهم الانتقال من مكان إلى آخر.
أتذكر، أنني لطالما كنت أرى أنه لا يمكن الشاعر أن يكتب قصيدته إلا إذا كان في – خلوته- مختبره، بل ولايمكنه أن يقرأ، بعمق، إلا إذا كان في طقس خاص: عزلة وموسيقا وشاي أو قهوة وموسيقا وقبل كل ذلك روح أنثى أو عطرها، ودأبت على هذا الاعتقاد. هذا الرأي، سنوات طويلة، قبل أن أضطرَّ في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي لأن ألتحق بالعسكرية الإلزامية، لأجدني قد كسرت وهم عدم مقدرة القراءة أو الكتابة، وسط الضجيج، إذ كنت أفتح كتاباً ما – وغالباً- كتاباً أدبياً، لا دراسة، ونقداً، وبحثاً، وأغوص في عالم الكتاب، ومن حولي من الضجيج الذي يذكر بذلك النوع الذي ما كنت لأتحمله يوماً ما، بل إنني كنت أحياناً أخرج قلمي وأوراقي من جيبي وأكتب بعض ما يخطر في بالي، لأرسله، كما كتبته، إلى الصحيفة، أو المجلة، أنشره، بعد أن أوقعه باسمي!
والآن، بعد أن تمَّ فرض العزلة على الناس جميعاً، يخطر في بالي، أنه لو خير الشاعر الذي اعتاد العزلة، بين أن يواصل عزلته، وأن يخرج إلى الناس، لاختار الخروج إلى الناس، ليس لأن البيت بات يعجُّ بأفراد أسرته الذين ما كان لهم من قبل أن يجتمعوا معاً، وإنما لأن روحه الفوضوية – وهذا  حكم غير قابل للتعميم- روحه  المتمردة، التي لا تستسلم، ولاتستكين أمام أية قوانين لايشاءها، تدفع به إلى الخيارات الاستثنائية، خارج ما هو مألوف، خارج ما هو روتيني، بالرغم من كل ما يترتب على هكذا مغامرات من ثمن باهظ، في أحيان كثيرة.
مؤكد، أنه الآن، وفي هذه اللحظة التي أهرب من عالم القصيدة، أو في هذه اللحظة التي تنفلت القصيدة من بين يدي، فألجأ إلى كتابة ما أمكن من سرد. من مقال، فإن هناك شعراء مبدعين، من الأسماء ذات الحضور المعروف، أو من الأسماء الجديدة، تلك التي تكتب قصيدتها التي ستقرؤها الأجيال، وسيستظهرها كثيرون، وستتناولها الدراسات النقدية، لما لها من أهمية، لأن الشعر يكتب دائماً، أياً كان ظرف الشاعر، مادام أنه ينطلق من موهبة أصيلة، وأنه لما يزل وفياً لما بينهما من بروتوكولات، وعقود، لاتنقض!
 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

حيدر عمر

تمهيد.

الأدب المقارن منهج يعنى بدراسة الآداب بغية اكتشاف أوجه التشابه والتأثيرات المتبادلة بينها، ويكون ذلك بدراسة نصوص أدبية، كالقصة أو الرواية أو المقالة أو الشعر، تنتمي إلى شعبين ولغتين أو أكثر، و تخضع لمقتضيات اللغة التي كُتبت بها. ترى سوزان باسنيت أن أبسط تعريف لمصطلح الأدب المقارن هو أنه “يعنى بدراسة نصوص عبر ثقافات…

نابلس، فلسطين: 2/7/2025

في إصدار ثقافي لافت يثري المكتبة العربية، يطل كتاب:

“Translations About Firas Haj Muhammad (English, Kurdî, Español)”

للكاتب والناقد الفلسطيني فراس حج محمد، ليقدم رؤية عميقة تتجاوز العمل الأدبي إلى التأمل في فعل الترجمة ذاته ودوره الحيوي في بناء الجسور الثقافية والفكرية. يجمع هذا الكتاب بين النصوص الإبداعية المترجمة ومقاربات نقدية حول فعل الترجمة في…

سربند حبيب

صدرت مؤخراً مجموعة شعرية بعنوان «ظلال الحروف المتعبة»، للشاعر الكوردي روني صوفي، ضمن إصدارات دار آفا للنشر، وهي باكورة أعماله الأدبية. تقع المجموعة الشعرية في (108) صفحة من القطع الوسط، و تتوزّع قصائدها ما بين الطول والقِصَر. تعكس صوتاً شعرياً، يسعى للبوح والانعتاق من قيد اللغة المألوفة، عبر توظيف صور شفّافة وأخرى صعبة، تقف…

عبد الجابر حبيب

 

أمّا أنا،

فأنتظرُكِ عندَ مُنحنى الرغبةِ،

حيثُ يتباطأُ الوقتُ

حتّى تكتملَ خطوتُكِ.

 

أفرشُ خُطايَ

في ممرّاتِ عشقِكِ،

أُرتّبُ أنفاسي على إيقاعِ أنفاسِكِ،

وأنتظرُ حقائبَ العودةِ،

لأُمسكَ بقبضتي

بقايا ضوءٍ

انعكسَ على مرآةِ وجهِكِ،

فأحرقَ المسافةَ بيني، وبينَكِ.

 

كلّما تغيبين،

في فراغاتِ العُمرِ،

تتساقطُ المدنُ من خرائطِها،

ويتخبّطُ النهارُ في آخرِ أُمنياتي،

ويرحلُ حُلمي باحثاً عن ظلِّكِ.

 

أُدرِكُ أنّكِ لا تُشبهينَ إلّا نفسَكِ،

وأُدرِكُ أنَّ شَعرَكِ لا يُشبِهُ الليلَ،

وأُدرِكُ أنَّ لكلِّ بدايةٍ…