إبراهيم محمود
أولاً، ليس من بروتوكول ثنائي موقَّع عليه جهةَ الكتابة، بيني متعدد المواهب الصديق إبراهيم يوسف، إنما هي أخلاقية الكتابة التي أُلزمْنا بها منذ عقود، وما فيها من حس المغامرة، ومعايشة الصدمات. ثانياً، لا أكتب عن إبراهيم يوسف بالصفة التي قدّمته بها، لأنه وإياي نقيم في مدينة واحدة، وشهدت على لقاءاتنا أمكنة شتى، وثمة تواصل شبه يومي بيننا، وهو في ” إيسن : ألمانيا ” وأنا في ” دهوك: إقليم كردستان العراق ” ليصير بيننا أكثر من الخبز والملح، إنما هو ملح الحياة وخبز الإقامة في الحياة من داخل ” تنور ” يكون بوسعها. أكتب عنه، ببساطة، لأنه، مهما اُختلِف عليه هو كاتب محترف، وفي هذا نتعلم من بعضنا بعضاً، وفي هذا تؤمّن الكتابة هذه على حياة قادمة، وفي هذه نعيش ما تكونه الحياة في متتالياتها الهندسية .
إبراهيم يوسف الستّيني عمراً، لحظة قراءة ما يكتبه في جوانب حياتية شتى ” وما أعظمها وأفخمها وأغزرها هذه الـ: شتى ” وتحديداً في موضوعات ذات طابع سجالي، حيث تأخذ أسماء أمكنة وأشخاص، ولقاءات وتجاذبات مجراها في النهر السردي لنصه، لا يخطىء القارىء الحصيف إن قال في الحال: يا له من مخضرم. سوى أن في المسألة بعداً استراتيجياً تتكفل الكتابة الحية والمتبصرة بقول ما ينبغي قوله، لحظة معايشة الاسترسال والتشعب الروافدي في كتابة نصه المختلفة، أو نص كتابته المختلف، وهو مشهود له بالحيوية الداعمة للنص الكتابة: الكتابة النص، كما لو أنه لا زال في ” الصفحة الأولى ” مازال يعيش تجربة البحث عن الذات، ومودِع روحه مختبراً لا يحاط به، هو الحياة بتدفقاتها. ولا أشك للحظة واحدة، أن الحياة هي هذه، وهنا يمكن سلوك الطريق إلى ” روما ” إبراهيم يوسف.
مجدداً، أكتب عن إبراهيم يوسف الذي يشغلني بشأنه الحياتي المتشكّل كتابة جامعة موضوعات تترى، ولكم شغلني واقعاً، هذا ال: إبراهيم يوسف كاتباً كردياً أكثر من كونه كردياً، ويتنفس الكردية بلفظه العربي ” سينتفض، أو سيتسفز هنا دعاة الكردية: من لا يكتب بالكردية ليس منا ، لأقول هنا: وماذا منحتم الكردية المطلوبة شارعاً وحياً ومدينة وبلداً وشعباً، بلسان الكردية المزعومة؟ ومن الأكثر تعرضاً لسهام من ليس كردياً، من موقع تمثيل الكردية، وهو بلسان غير كردي هنا؟ أيكون كونديرا فرنسياً وهو تشيكي ويكتب بالفرنسية؟ أكان يشار كمال تركياً حقاً، وهو كردي أماً وأباً، وما كتبه في بضعة مقالات له في الشأن التركي ومأزق نظامه ” ينظَر: السماء المظلمة فوق تركيا ” ليهز عروش قادتها وأباطرة أمنها قبل ربع قرن، وليعادل مقاله هذا أغلب ما سطَّره سدنة اللسان الكردي في فم تاريخه الأدرد ؟…” وأكتب- أخيراً وليس أخيراً- عن إبراهيم يوسف الذي يظهر أن شعاره الصائت هو: الحياة هي ألا تطلق ثانية من عمرك هدراً .
أمامي، بين يدي، ثلاثية مؤلفات منشورة أمازونياً ” موقع أمازون ” عما تفجّره العزلة في مستوطنة ” الحجْر الصحي ” من قدرات لمن ينشغل بأمر نفسه وملؤها حياة، رغم الألم الجسدي الذي يعانيه، ولعلّي نظيره هنا، ليكون رحالة عبر الغابات والصحارى، عبر المروج والوديان، عبر أزقة غشيها خيط العنكبوت، وأطلال تحتفل ببشاشة عشبة خضراء ظهرت إلى العلن، ومقابر تخللت المسافات الفاصلة بين قبورها خضرة طبيعة، كما لو أنها إعلام موتاها: نحن هنا..
ولتضاف هذه الكتب إلى كتبه الأخرى التي تعدت العشرين عنواناً، بين ما هو شعري، وهو الأكثر ” عشر مجموعات شعرية ” وسِيَري، ونقدي، وقصصي وروائي، وبحثي…الخ .
ولكورونا باسمه/ باسمها السيء الصيت الجانب ” الحمدلي ” والميزة الاستثنائية في معايشة الحياة من زوايا أخرى .
ولكل منا كان له طريقة أو أكثر في استخراج الدواء الملهِم من الداء المؤلم كورونياً. فالحياة تستحق أن تعاش بالتالي .
وإذ أتوقف عنده لماماً، فلأن ثمة الكثير ما يمكن الكتابة فيه باسمه، وفي ثلاثيته التي أبصرت النور معاً، وبينها تباعد في الموضوعات، حيث مجموعته الشعرية ” أطلس العزلة ” تحمل بصمتها الشعرية وأكثر من ذائقتها الشعرية، بينما الآخران فهما متشاركان كورونياً في مستجدات ذات انشغالات كورونية، رغم أن لكل منهما ” سلة ” موضوعاته الخاصة طبعاً .
وما أود التأكيد عليه، هو أنني مضطر إلى الاختصار الشديد، وأنا أقيم علاقة قراءة لبعض الوقت، ولبعض مساحة، كما لو أنني أقوم بنوع من مهمة التعريف والتوصيف، على الأقل، لأن في ذلك سَداد دَين صداقة معرفة، وإعلاماً بهذا الثالوث اليوسفي. وأقول ” اليوسفي ” تعزيزاً لوجهة نظر، وهي أن ليوسف كتابته التي تشير إليه تمايزاً .
كتب يوسف، أو ” اليوسف ” منشورة حديثاً في موقع أمازون العالمي، وهي فرصة لمتابعتها لمن به رغبة.
مرتكر فكري:
لعل العزلة أوحت إلى يوسف أن يعيش هواجس فكرية، أن يطلق العنان لأفكار له ذات صلة بما يكتب، من خلال المقدمة التي يُستهَل بها كل كتاب، وهي جامعة بين الومضة الشعرية، وبساطة الفكرة، وجمالية الدلالة بالمقابل .
في ” أطلس العزلة: ديوان العائلة والبيت ” نجد تحريكاً لتصورات، واستشرافاً لآفاق من الداخل، عندما نقرأ ” أطلس العزلة ” حيث نمضي بعيداً عن كل ما هو اجتماعي، وما يحدد أفق العنوان الرئيس ” ديوان العائلة والبيت ” وماالذي تكون عليه العائلة إلا في بيت؟ كيف اهتدى إلى عنوانه المتلاحق والمتقابل؟
هناك حدث يمضي بنا إلى البيت، حيث تكون العائلة، وحيث يكتسب البيت بعداً قيمياً آخر .
في العنوان المتعلق بالمقدمة ” لماذا البيت: مرافعة ” هناك ما يستنوقفنا، إزاء خاصية ” المرافعة ” وهي ذاتية. إذ إن الحدث ” كورونا ” فجَّر أحداثاً ” وطوَّبها، كما في مستجدات البيت، في علاقات غير معهودة منذ عقود من الزمن، خصوصاً في مجتمع يقوم على الفردية، كأوربا، وإبراهيم وعائلته هناك” في ألمانيا ”
يمكن إيراد المطروح في البداية ( بعد أن انتهيت من لم شمل نصوص- هذه المجموعة- التي كتبتها، خلال فترات شبه متباعدة، ضمن أسابيع العزلة الكونية، في مواجهة وباء كورونا الذي قال كثيرون، منذ أول أيام العزلة، المفروضة، بسببه، ما مفاده: لقد آن للشعراء أن يعودوا إلى قصائدهم ويكتبوها، بعد أن اعتزلوها، أو نأوا عنها- ولا أعني من هم مصابون بفيروس الشعر- بل هؤلاء الذين يتواصلون مع جمهرات قرائهم، عبر الوسيلة التي تجذبهم أكثر، وأولئك الذين يئسوا من دور الشعر في زمن وجبات- القراءة السريعة- أو- قراءة الوجبات السريعة- لا فرق، إذ لم يخطر في بالي أن أكتب شعراً ضمن- أقفاص كورونا- الزمنية، لاعتبارات خاصة، ونتيجة فهم خاص، وإنما وجدتني، بين حين وآخر، أكتب للوجوه التي ظلت حولي: في البيت، أحاول محاورتها، في نصوص لم أشأ إدراجها، ضمن الشعر، إلا أنها في الوقت ذاته تنتمي للسرد الصرف، بل إنها كانت- تحديداً- نتيجة تلاقح هذين الفنين: نطفة من الشعر وجسد من السرد . ص 4 )
ينقل شعوراً له إلى الخارج، ويسمّيه تعبيراً عما استجد، وعما هو ممكن القيام به، وما هو جدير التوقف عنده. فالبيت يحتضن أنساً، كما يفجّر خيالاً، كما يدشّن أفق رؤية لكتابات غير معهودة، ويشهد إقامة علاقات اجتماعية مختلفة.
ليحاول وضع مختَتم للمقدمة، وما يمكن أن يكون عليه قارئه إن كلَّف نفسه بقراءة بعض من معايشاته العزلوية:
( وإذ أقدم مثل هذه الشهادة. الإفادة. الإعتراف. المرافعة، فذلك، ليس لأتنصل من المسؤولية الفنية. مسؤولية المغامرة في تناول بعض شؤون الأسرة. البيت. الأسماء. الملامح. بعض تفاصيل المكان الآسر، إذ لدي قناعتي الراسخة في ذلك، ولدي رؤيتي، ولدي مسوغاتي، أنني قدمت عالمي. لحظاتي، ولم أطر إلى عالم فانتازي، خيالي، عبر رحلة افتراضية، بل طوعت ماهو افتراضي- قدر استطاعتي- لما هو واقعي، ضمن مناخات نصوص تناولت الواقع بطريقة الواقعية، كما أنعت بعض نصوصي، التي تتقاطع- فنياً- مع عوالم هذه النصوص، خالل تجربتي مع الكتابة.ص6 .)
ولعل العيش مع نصوصه الشعرية، يمضي إلى مناخات العزلة، طقوسها، مستجداتها، ومسراتها في الوقت نفسه، يمضي بنا إلى خاصية الانسجام العائلية، وهي مكرمة استثنائية هنا.
كما في ” طائر يفك الحجر الصحي ” حيث أتلمس في هذه القصيدة عودة إلى عدة عقود من الزمن، وما فيها من توصيف لحالة تنفتح على أخرى، كما لو أن الشاعر هنا يعيش شروداً، يسترسل مع خيال وهو يحصي موجودات البيت، ثم ليكون كل ذلك ممضياً بما هو كوروني :
ليس ثمة عالم خارج الغرفة
بقايا الأـسرة الكبيرة
كل في غرفته
كتبي المكّومة أنفض عنها النعاس
آخر أخبار مسلسل الخوف
تنشرها الشاشات
التلفزيون الكمبيوتر
الهاتف أثير المدينة الكبيرة
أعداد فرائس الفيروس
الموتى
مودعو المستشفيات
عدو لامرئي لا يهدأ
بين الأصابع
على ثياب النَّوم
على الطاولة
بلاط الغرفة
وفي الممَّرات …ص9
وما يشغل الشاعر به نفسه، ما يخيفه، كما يخيف أياً كان، كأب وجد نفسه هذه المرة في معترك عزلة، إنما في محتدم حياة. كما في قصيدة ” الأحفاد “
مَّر يوم
مَّر يومان
ثلاثة أيام
أسبوع لم تجمعهم عصرونية بيت الجد
آتي بصندوق ألعابهم
تنتشر رائحتهم في صالة الاستقبال
الوقت الآن متأخر
غداً صباحاً أجمعهم كلٌّ من بيته
في مكالمٍة مرئية
على السكايب
إنَّه زمن حر ٍب أخرى
لا مفر منها البتة ! ص12
ليس من صعوبة للقبض على الحدث المحرّض للقول، إنما خوف التباعد وتداعياته.
وما يرجع به إلى حيث كان وكانت مدينته قامشلي، كما في ” بيت طوبو “
الطريق بين عامودا والحسكة
بين” شيقني” و”دوكر” و”علي كوران
” على اليمين تحديداً
كان ثمة بيت
ارتفع بيت آخر مكانه لا أستطيع أن أذهب إليه
أقرأ
أغني
أضحك
أنام ص 67
أشعر أحياناً وأنا أقرأ مقاطع كهذه، كما قرأت العديد من كتاباته الكورونية، كما لو أن يوسف كان يعيش كيفية نسيان أنه في البيت، أنه بين جدران أربعة، فيستغيث بفكره مطيته الشعرية توقاً إلى لقاء يؤاسي به بيتوتيته، فتأتي كلمات بالطريقة هذه وكأنه تخفف من عزلة غير مسبوقة، وتأكيداً على أنه غير محكوم بشروط العزلة، كما يُتصور .
وفي صفحات تترى، في القسم الـأخير، وهو لافت من المجموعة الشعرية ” صص 93-105 “، تفاجئنا رسوم لوجوه البراءة، وجوه أحفاده وحفيداته، ممن تتراوح أعمارهم بين ثلاث سنوات وتسع سنوات ” شيا أيهم اليوسف 9 سنوات- ناشا فائق اليوسف 6 سنوات- ياشا كرم اليوسف 4 سنوات- ساي آراس اليوسف 3 سنوات …الخ “
وقبل أن أسجّل ملاحظتي على هذه الرسوم، أنوّه إلى أنها تحمل بصمة فنية واعدة لو أنها روعيت، وما فيها من شفافية ألوان وخربشات ذات دلالة، تترجم الكثير مما هو قار في نفوس هذه البراعم المصدوم بكورونا .
أما عن ملاحظتي، فهي ليست موجهة إلى الرسوم عينها، وإنما إلى موضعها ضمن مجموعة شعرية، تحمل بصمة شاعرها، وليس الانتقال من مناخ الصورة الشعرية إلى مناخ الصورة الفنية لطفل لا زال منغمراً بالطفولة بسهل، وأعني بذلك لو خصّص لها كتاب كامل، ووضعت لها مقدمة تتناسب وطبيعتها، لكانت لافتة أكثر.
متابعات كورونية:
لدينا هذا العنوان : جماليات العزلة: في أسئلة الرعب والبقاء.
لا يخفي رعبه وسطوته، وإنما القيمة الدلالية بالمقابل، فمن يسمّي كمن يمتلك المسمّى، ويكون المسيطِر.
يمكن للقارىء أن يصل ما بين مقدمة هذا الكتاب و” أطلس العزلة ” حين يقرأ :
( بعد أن استقررت على عنوان الكتاب ” جماليات العزلة في أسئلِة الرعب والبقاء! ” رحت أسأل نفسي: ترى، هل يمكن الحديث عن جماليات العزلة حقاً؟ لاسيما على ضوء الأسابيع العصيبة التي عشناها، على قلق ورعب وخوف وتوتر وتوجس وحذر مابعده حذر. إنه، في الحقيقة سؤال يبدو محيراً لأول مرة، لاسيما إذا تخيلنا حالة التوتر العام التي عاشها العالم كله. الصغير والكبير الرئيس والمرؤوس. إنه القلق الوجودي، بل قلق من نوع آخر أشد، لأنه انبثق. ولد، تفجر، في لحظة مفصلية مهمة من عمر البشرية، وبعد أن تعالت أصوات كثيرة: إنها نهاية التاريخ! إنها نهاية العيش على هذا الكوكب! ص 8 )
ومن ثم لتتسلسل العناوين التي أبصرت أغلبيتها النور في مواقع الكترونية، سوى أنها في الكتاب تكتسب صفة معرفية من جهة، وتعطي اعتباراً بحثياً لمن يقرأ قائمة عناوين فهرسته، من جهة أخرى ، وليس كمقالات منفصلة، حيث يمكن إقامة تنويع من الروابط المعرفية والثقافية بين مقال وآخر، وقراءة المجموع العام من خلال طبيعة التفكير لدى كاتبنا هنا.
يوسف، لا يخفي انسيابية الكتابة لديه، وما تفصح به عن متابعة الكاتب لما يجري بشأن مستجدات كورونا. كما في ” ما قبل ” كورونا” ما بعد ” كورونا” ” حين نقرأ :
( ليس لدينا، الآن، وصفة متكاملة لهذا الخلاص الأخلاقي، لأنه مرتبط بظروف خريطة متناقضة من المصالح، بين جبهتي الشر والخير، بل إن جبهة الخير ذاتها، قد تغيَّرموقعها، وهي تواجه الشر المحدق، بما يمكن أن يُسجَّل دفاعها عن الذات، وحتى العالم! ص 17 )
أو في مقال “الحب في زمن العزلة “
وما يحفّزه الحب في نفس كل منا جهة التعلق بالحياة :
( كل أوبئة الكون لن تمنعني من الالتقاء بمن أحب ويمكن الاسترسال في تفاصيل أكثر، في سرد لوعة الحب التي تشتعل ألهبتها في قلب العاشق الحقيقي، أياً كان، وكذلك بالنسبة إلى عاشقته، بعيداً عن وساوس الخوف من الوصال بين هكذا أنموذجين، ولم يتح لي أن أقرأ نماذج من حالات الإصابة بكورونا بين: عاشقة أو عاشقة، حتى الآن، ولعلها تكون ضرورية بالنسبة إلى اثنين: الكاتب المشتغل في مجال الإبداع، والباحث المختص في ميادين سيكولوجية اجتماعية .ص 41 .)
وهناك مقاله المنشور عن كتابي ” كورونا .. كورنر ” والذي أفصح فيه عن تلك المقدرة في استشراف المثار فكرياً
وما يمكن أن يثيره الحدث الكوروني على أصعدة مختلفة، ومنها تربوياً، كما في مقاله ” المناهج التربوية وما بعد الأزمة!”
( لا أرى الوقت مبكراً، الآن، بعد أن أغلق العالم، المدارس، والمعاهد والجامعات، منذ لحظة اشتعال وطيس فيروس كورونا، نتيجة شرارة ما: طبيعية أو بيولوجية، على أوسع نطاق، وبات التلاميد الصغار يسألون آباءهم وأمهاتهم وذويهم: ما الخطب؟ متى نعود إلى مدارسنا، وإن كان هناك بعض المدارس والمعاهد والجامعات يعتمد صيغة- التعليم الافتراضي- الذي يعد أشبه ب”التيمم في غياب الماء” بالنسبة للمتوضىء في الصحراء الخالية، إذ اكتشفنا- على حين غرة – أن هناك فجوات كبيرة في تعليم أبنائنا…ص 105 .)
خارج السور، داخل العالم :
في كتابه الكوروني الآخر ” خارج سور الصين العظيم: من الفكاهة إلى المأساة ” يوميات كاتب ” ” هناك انبثاقات وجدانية، وومضات ذاتية تقيم صلاتها مع العالم، وإن كان اسم ” الصين ” بحامله الكوروني طارحاً نفسه، ولكنها استطالات فكرية، وبحثية، وتصورات تنم عن انهمام محسوس بموقع الفيروس هذا وتداعياته ، أي ما يفجّر سور العزلة كرمى رحابة الآتي.
وفي المقدمة الطريفة ” مقدَّمة معقّمة ” ما يعكس هذا المزج بين الشعري والبحثي :
( لم يكن في بالي، وأنا أستقبل نبأ مقدم شبح الضيف المباغت إلى هذا الجزء من العالم الذي لجأت إليه، هربا من الاستبداد والحرب، على أنه بلد آمن، أن يفاجئني هناك إمبراطور. سفاح أعظم، تخر له جباه كل دكتاتوريات العالم، صاغرة، ويؤجل كرمى له سدنة الحروب حروبهم، بل إن أقطاب الإرهاب ذاته ارتبكوا بسببه، وتردد أنهم أوقفوا سلسلة جرائمهم إلى إشعار آخر.ص7 )
وما يمضي بنا إلى استدعاء ما كنا عايشناه، وما تفاعلنا معه عبر أجهزة اتصالات مختلفة، ومنابر إعلامية شتى، ومن خلال حالات ولقطات وحتى مقاطع فيديو، عشتُها بدوري هنا وهناك، ومن ذلك ” بابا المذيعة تعطس “
( معلومات مهمة جداً بات تبَث بدءاً من توصيف الفيروس، وطبيعته، وأصله ، وفصله، وقرعة أبيه. الحديث عن مستقبله وسلالاته الهجينة، وكيفية الوقاية منه، بالإضافة إلى محاولات إيجاد اللقاح والعلاج اللازمين. كانت المذيعة تبدو مبتهجة، وهي تحقق النجاح في حلقة برنامجها، لا سيما أن معلومات جديدة قيلت في البرنامج، على ألسنة الضيوف والمداخلين!ص 16 .)
أو ما يستحضر صورة للصيني من زاوية التفكير بجنسية الوباء كما هو المتداول هنا وهناك عنه ” صيني في كورس اللغة “، حين يقول باحثنا بأسلوب بسيط ولافت معاً :
( لكم نظر إلى الصيني، خارج مهاده، سواء أكان سائحا أو مقيماً بغرض العمل، أو سواهما، ، على أنه محل ريبة من قبل الآخرين، سواء أكان ذلك في المطارات، أو الأسواق، أو أماكن العمل، أو السكن. بدأ ذلك منذ أن استفحل أمر مرض كورونا في الصين، وقيل الصين مصدر الوباء، أو إن مشاركات الصينيين في كرنفالات رأس السنة نشرت الوباء في هذا البلد أو ذاك، إذ واجهوا تحديات كبرى، وبات يتم التعامل من قبل جهات كثيرة، من خلال مبدأ الشك بأنهم يحملون فيروس كورونا ويصدرونه. ص73 )
وإذا كان لي أن أبدي إعجابي التذوقي، وما يخفف عن إقامتي الجبرية في البيت الآن، فهو في الفقرات الأخيرة، التي لكم تمنيت أن تتم معالجتها، إن جاز التعبير، أي كتابة عناوين في السياق نفسه، لنكون إزاء نوع من القصص القصيرة جداً، وما فيها من ابتكار، لما فيها من حسية المباغتة وعذوبة المفارقات في آن ، كما في ” مذكرات كورونية: نصوص ميكرو سكوبية “، مثل ” كمامتك من فضلك! “
بعد أن أنجزت معاملتي وخرجت من الدائرة الرسمية التي راجعتها، اقترب مني أحد الواقفين في- الطابور الطويل- وهو يقول لي هامساً: لم تعد الكمامة تلزمك. اعطني إياها لأدخل وأنجز معاملتي! ص 106
أو ” لامبالاة “:
لم يجد حاوية قريبة…..
بعد أن نزل من باص النقل الداخلي
رمى قفازتي يديه على الأرض وواصل سيره! ص 107
أو ” عصر كورونا “
ثمة سلسلة كتب كورونا ستظهر في مكتبة العالم!
مقياس فيزيائي كوني جديد
سريع، كما كورونا…!ص 110
ما يمكنني قوله إثْر هذا التقديم، هو أن الشاعر والكاتب الصديق إبراهيم يوسف، يحمل أطلس عالمه داخله، ورغم ثِقَله، لا يتراءى خافضاً رأسه، إنما وهو يستشرف العالم من جهاته الأربع. أرض روح إبراهيم يوسف لازالت لافتة بخصوبتها وبالمزيد من أوجه العطاء. ذلك يقيني، وذلك تأكيدي على ما سطَّرته، ولو ، سريعاً فيما تقدَّم.
تحية إلى روح صديقي إبراهيم يوسف، وبوركت عائلته، كما بوركت عزلته !