إبراهيم يوسف
كنت أقاتل واللوردات يقيسون على شرفات فنادقهم بالناظور مساحة أشجاني ونواميس الرهبة حيث يعوم على أسرة دينوكا ملاكان من الثلج.
(كل داخل سيهتف لأجلي)
للحقيقة إن أية دراسة للشعر العربي بعامة, والسوري منه بخاصة, فيما إذا أغفلت اسم سليم بركات, هي قاصرة, تعسفية.. ذلك أن هذا الاسم بحق, قد أعطى القصيدة الجديدة آفاقاً لا متناهية, حيث وشمها بأنفاسه الحرى ورائحة أصابعه, فهو صاحب تجربة معروفة على نطاق واسع جداً, بل صاحب تجربة (استثنائية) ورغم أنه لا يزال مستمراً في إبداعه, وأن يديه لا تزالان بعد في الصلصال, كما يقال.
وكي لا نكون مبالغين كثيراً, فإن سليم بركات في الوقت نفسه ـ لا يمكن النظر إليه على أنه تجربة قد نمت خارج مختبر الشعر, فهو انفعل وتفاعل مع الإرث الذي اتكأ عليه (وباعترافه الشخصي) ولكنه بتوقه المعروف لم يبق في حدود دوائر أحد, بل راح يجبل طينة قصيدته على طريقته الخاصة.
ستنام, أعرف ان غصنك ذاهب (لينام, ان ثمار هذا الغصن والأوراق ذاهبة وجذعك ذاهب لينام, أني ذاهب والريح ذاهبة, وأرضك مثلنا ستنام: فأملأ راحتيك بخردل وقطيفة وانثر زبيبك في ظلام أخضر تجتازه الأجساد مثل القافلة, واذهب فأنك ذاهب نحو التواريخ المعادة كالصدى والمهملة.
(للغبار, لشمدين لأدوار الفريسة وأدوار الملك).
سليم بركات يجد نفسه سليل معاناة استثنائية, لذلك فهو يحاول ان تصرخ كل الأشياء لديه, معربة عن حجم مساحة الألم, وربما هذا الإحساس هو الذي يقوده من دمه الى المبكى.
بكل الطرق التي يمكن ان توازن معادلة تعامله اليومي مع كل ما يحيط به.. باختصار شديد: سليم بركات صحافي لامع ـ وشاعر جد متميز في ميدان الشعر, وكاتب رواية من الطراز الرفيع في هذا الحقل, وكاتب سيرة مثيرة في مجال الأدب السيروي لدرجة انك تخاله يكتب سيرة شمال كامل خارق غارق في حمأة النسيان ولجّة التغييب.
إن مثل هذا الأمر ليس اعتباطيا لديه, بل إن له دلالات كثيرة ـ وسنحاول الإشارة إليها ولو بسرعة, ذلك انه حوذي الأبعاد المهملة وسفير الشمال الى الشمال والجهات الأخرى, يفك طلاسم الجهة الغامضة, ويتهجى مجازرها.. وضحكها كي يعكف على فك الامراس عن عنق أدركته عقد الأنشوطة وأصابع الرعب, قبل ان تشتهيه بلاغة الأمواس.
سليم.. الطفل الكردي المشاكس الذي لا تهدأ روحه ولا تستكين أمام إنذار أو وعيد مسكون بالحكمة, بالعنف والرفض. وكما يرى هو في مقابلة أجريت معه, اتكاؤه على إرثه من المعاناة مدروس بشكل جيد فهو لا يغرق في الشعارات والفجاجة, وكذلك فهو يمنح الشرعية الجمالية للأبعاد التي يتناولها. هذه الشرعية التي قل ما يفكر بها الشاعر الكبير ابن القضية الكبيرة, علاقته بهمه الخاص هي علاقة الريح بالأتون, كل منهما يهب الآخر فعالية وتحفيزا, فالنار تطهو العصف من الغبار العالق بجسده السريع أثناء مهامه الجسام والريح تبارك أنفاسها حتى يزداد اللفح بدوره.
وفي اعتقادي, ان لجوء سليم بركات الى النثر وكتابة, أرواح هندسية, فقهاء الظلام, الريش, الى جانب عملية السيرويين, هو دليل أكيد على حرصه والتصاقه بمتلقيه. فهو لا يترك بابا إلا ويطرقه, كي يتم, حضور كلمته. وهو في كل مقابلة صحفية تجرى معه, يؤكد ان علاقة المبدع بقارئه, إنما هي الأساس, ولكن هل يكسر شاعرنا الجدار الذي يحول بينه وبين جمهرة متلقيه بعامة (فيما إذا استثنينا النخبة قراءة الأثيرين).
بالتأكيد سيكون الجواب هنا بالنفي, ذلك ان نصه الصدامي. يراوح بين قارئين, احدهما عكس الآخر, يصر على ضرورة ان يمسه النص وان يتغلغل في عالمه (كونه هو المعني بهذا الخطاب الأدبي) وهذا من حقه.. لولا ان سليم بركات, لا يجهل هذه الخصوصية, وسواها, بل ان نصه مسكون بلهفة هذا المتلقي عينه, وان أصابعه محتلة به, الأمر الذي يشكل بالتالي قطيعة مع القارئ (الآخر), ربما ستستغرق كثيرا من الوقت.. وهذا بالتحديد ما يحول دون انتشار نصه عموديا وأفقيا, كما هو مطلوب.
ليس كلتا النقطتين ـ بالطبع ـ في صالح الشاعر إذا ما سلمنا بأن دور الأدب والفن ينبغي ان يكون مباشرا, سريعا, وان الأغنية هي ضحكة المقاتل, وان القصيدة هي زوادته, ونشيده, وحنين غامض يدخل في تكوين الدم وتشكيل الروح.
واذا كان قارئ نثر سليم بركات على وشك ان يقول دائما: هذا ما كنت سأقوله أنا.. فإنه إزاء قراءة نصه الشعري سيقول لا محالة: هذا ما لم يكن يدور في خلدي.
لا شك ان كثافة نص الشاعر موظفة بإتقان, وهي ليست اعتباطية, فالشاعر يتحدى الذائقة العامة المحكومة بأنماط متخلفة من وجهة نظره, وهذا تحديدا, ما يكمن وراء انصرافه الى اللّعب بالنار غير خائف على أصابعه وهو يهدم تابوات كثيرة عبر هز المتلقي ـ في أعماقه ـ ودعوته لمجاوزة المتهالك, المهيمن, والتأسيس لموسيقا أخرى تتخذ مسارا عكسيا مشاكسا أيضا.
قراءة نص الشاعر ليست مستحيلة, وهي كذلك ليست بالمسألة السهلة, اذ لابد من الاستعداد أثناء الانغماس في لحظته الوثابة دائما مادام القارئ متورطا سلفا في الأقدام على مغامرة, قاد نفسه إليها متطوعا.
أولا: ان قصيدة الشاعر هي القصيدة المتجددة, شديدة العمق, التي لا تنتهي ـ دفعة واحدةـ وهي تعكس من الواقعي ملمحا سريعا, خافتا قد لا تعلق به الحواس غير المتمرسة لذلك, بيد ان القصيدة تمنح مفاتيحها وأعنتها تدريجيا لمرتاد طقوسها في حال تكرار المغامرة والألفة والتواصل, عموما ان لقراءته متعة تغري المتلقي دائما وتجعله يقبل على دفع الضريبة حتى وان كانت جد باهظة في أكثر الأحيان. وكما هو معروف.
سليم فانتازي من الطراز الاول, أدواته الدهشة, ومن أدواته الإبهار.. يخلب متلقيه عبر المخيلة الغارقة في الخصوبة واستحضار التفاصيل وتخيرها بدقة, في سياق رسم صورة تتقطر مفارقة ومرارة وحنانا واغترابا.
ثانيا: إن الجرأة التي تجري في عروق الشاعر, مع دمه, كانت تدعوه الى عدم التعامل مع تابوات ــ مسبقة من خلال رؤية مسبقة ـ أو تقديسية, بل انه لم يكن ليولي الشرانق والاسارات التي كانت تسد طريق الإبداع أية أهمية, وهذا بالضبط ما دعاه الى ان يتمتع بهامش كاف, أمكنه من التنفس بحرية خلال محاولاته في صياغة قصيدة, سليم بركات, لا تشبه قصيدة احد:
الطيوف التي من سمسم ترفع الفجر كالستارة, وأنا أيها الشهي المرتبك كجناح الزيز, اشق طريقي إليك بشبكة المصارع وحربته, لهاثي كرفس وعرقي صواعق من فراء ناعم.
ثالثا: من المفيد ان نشير الى ان للتعامل الجديد مع الإرث اللغوي جذورا تمتد الى قبل مرحلة سليم بركات, حيث ان ادونيس كان من الأسماء الهامة التي لم تحفل بحواجز القداسة التي وضعت للغة, ولكن سليم بركات انشأ لنفسه ضمن هذا الفهم ـ قاموسه اللغوي ــ ليس على صعيد الاشتقاقات والتوليدات الجديدة, فحسب, وإنما بتوجه الى الحوشي, والمهمل والنابي من الكلام وشحنه بمزيد من الشاعرية التي جعلتنا نوقن المرة تلو الأخرى انه ليس ثمة كلمة مسبقة الشعرية, وأخرى محرمة على الشعر, فالكلمة, تستمد أهميتها ضمن البنائين:
الخاص والعام, وان المفاهيم الأخرى, كانت جد قاصرة ـ يضاف الى هذا ان سليم بركات اعتمد على جمهرة جنود أوفياء من الطيور والحيوانات وأسماء الأطيار والأمكنة التي استوقفته في محاولة لأنسنتها أو إخضاعها لجملة علاقات إنسانية ـ بدائية جدا ـ ربما كردة فعل منه, ليحملها مهمة التصدي لمواجهة شرسة من خلال إتقان أبجدية خاصة تتلقاها على بدء:
أنا صغيركم أنا الخزف المتناثر من فوهة الأغاني, شقيق الهزائم كلها, شقيقكم, أضع بيضي في أعشاش الرئات, وأعطي الجسارات بالريش, أنا.. آه, كم ملك مرّ بي, كم أساطير, كم نهاية. غدي ضربة الراعي بعصاه على تيس الجهات.
ان للطقس الصوفي الذي فتح عليه سليم بركات عينيه في صباه وفتوته المختصرين. أثرا بارزا في نصه الأميل الى الدائرية, والمشبع بالرهبة والغموض المكتنزين كمعادل ونتاج للغائب الأسمى, حيث التوق العارم لارتشاف ماء الكمال والهرولة عاليا الى حيث لا سدود تقف أمام حشود الأساطير الناهضة متعمدة بإقدامه تدعمها أساطينه الهمجية بتوقها, والفتها.
ضمن هذا الإطار يفهم الشاعر أهمية النص الذي يؤسسه بعد ان يستغرق كثيرا من تعبه ومعالجاته.. فالنص ديانة, والشاعر يقود مركبة النبوءة التي لا تتقاطع مع ضروب التهويم قط, ولا بأس بأن يكون حظه من النصال والعويل إزاء ذلك بأكثر من حظوظ سواه, بيد ان نرجس الذات في حركة تنام خلال كل هذا, انه يواكب الأمنيات الجسورة, المنفلتة من بين أصابعه الملساء كماء خؤون, أو كأنثى ناكرة لفضاء جميل من الحب طرزته هي بلهفتها وبرهاتها.
كذلك ان نص الشاعر يجنح الى الملحمية, وكأنما تنظيره الشعري يستوجب الحاجة الى البطل, في زمن ندرة الأبطال اللاوهميين, وبطله عادة ـ خارق, عنيف, كما لغته, الهادرة غير المروضة لولا رائحة أصابعه التي لا تشبه أصابع احد, انه يعرف ذلك السوبرماني, بل ان كلا منهما يعيش الآخر, ويلتبس به.
ان البرهة الظليلة بأحزانها واحباطاتها تجعله يفكر بأشغال وظيفة شاغرة دائما, وهي قيادة كل ما حوله لإحساس بخذلان الأشباه وعدم جدارتهم بالمهمة التي يتنطعون لها, لذلك فإنه يؤسطر للرجل الانكيدوي المختلف كي يشفي غليله أمام هول الانكسارات.
يا ابن صليل وهتاف النعمى والثدي تقدّم.
ويا ابن القول الأكثر مما سيقال تقدّم..
ويا ابن الحبق المسفوح ورائحة الخردل والسماق تقدّم
يا ابن حياة تتجانس في ميزان الموت تقدّم
حقيقة أن كلا من قصيدتي سليم بركات الأخيرتين, تدابير عائلية, مهاباد, كان من اللازم ان تجرى عنهما دراسة مطوّلة ومنفصلة, فهو الشاعر غزير الإنتاج, يحاول التأكيد عبر هاتين القصيدتين على رهان قديم له, يتعلق بشغفه وقربه من أناس مذريين في تخوم الخريطة المهمشة والمهمشة, تمارس بحقهم أنواع شتى من السلب, مهددين بطمس ملامح هويتهم, صرختهم تكاد تشبه الصرخة في واد حدوده متاهة, ان فداحة البعد الزمكاني (مضافاً إليه الاغتراب في الوقت عينه) هو الذي يكمن وراء الإحساس المر بالفجيعة, ذلك الإحساس الذي يعزز بمعطيات هي مؤلمة أيضا في نهاية المطاف كونها مغترفة من دم لا يخطأ في ترجمة فحواه, تدفعه للتفكير بأن يرفع روحه إلى أطم ربوبية تبتكر التدابير العائلية, وتخفف من وطأة شخوص لا توسط في سلوكهم, شخوص مختلفون بهمودهم, وعنفهم وبشراسة تكتنز حنينها الهائل, ناهيك عن انه هو (الشاعر المختلف):
ذاهب لأصمت أكثر من شبهة تكرر الشكل آدمياً آدمياً
فلوعتي مكان, وحنيني حنين الوقت إلى أمومة الجماد.
كأني هكذا سأعيد على الحقيقة سرد ظنونها, وأحفن الشمال
حفناً كأنه حنطة لم ينثرها الحراثون في الأثلام العميقة.
عود على بدء فإن مشروع سليم بركات الشعري لهو هام جداً, وأن شاعرنا ليشكل مدرسة خاصة به, وهو لم يكتف بأن يكون مؤثراً في الجيل الذي جاء بعده.. فحسب, بل أنه أثر كذلك في الأسماء التي واكبته زمنيا, من مجايلين له وسابقين عليه, حيث ان مفردته تدل عليه, (في نص كانت.. ولأي قامة عالية).. إنها تنادي باسمه, مثلما الطيور تتبع ظلال صاحبها.
ورغم ان دراسات سريعة قليلة تناولت تجربة هذا الشاعر, إلا أنها لا يمكن ان تواكب توترات التجربة وان تقدمها تماما, وفي وقت أن توجس كثيرين منه إبداعيا يكمن وراء تغييبه الواضح والفاضح, فمن المؤلم حقا ان يعرف الآخرون سليم بركات (قبلنا) وان يصدر إلينا (نجزا) دون ان نستمر في تتبع خطواته الإبداعية الأولى كما حدث ويحدث عادة مع كل تجربة.
ان النقد الأدبي عندنا مقصر تجاه هذا الاسم غير العادي, سواء اختلفنا معه أم اتفقنا, وبدهيا انه لا يمكن الخوف على تجربته مادام أنها قد رسخت ملامحها بقوة, وانه قد بدأ ينظر إليها كواقع.. في وقت تتشابه فيه أصوات الجميع, بل ان ثمة كثيرين, يقلدونه حتى في طريقة كتابه.. وسعاله, وأسلوب تدوين رسائله.. ولكن انعدام الموهبة, عند اغلبهم, واللاصدق الذي يعانيه بعضهم الآخر يجعلان نصوصهم تندحر الى الهاوية حتى ولو انه تشبث بالجبل والرجال, فشخوصهم زائلة وبلا ممالك لأنهم أفاقون و (مهوبرون) وعلى سبيل المثال: ثمة من جاء بعد سليم متناولا بعض رموزه الأثيرة: الحجل, الجبل, السفح, الذرا.. الخ.
دون ان يضيف إليها, معتمدا عليها من خلال شعرية مسبقة الصنع, لترقيع نصوصه الباهتة.. ولكن.. هيهات, مادامت عروش المرض والوهم زائلة هي الأخرى.
وهذا ان دل على شيء, فانه ليدل على علو قامة هذا الشاعر المهم, أولا وأخيرا.
سليم بركات
من مواليد القامشلي, سوريا
لم ينه دراسته الجامعية في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق.
من إصداراته: كل داخل سيهتف لأجلي, وكل خارج أيضا, شعر منشورات (مواقف) 1973 ــ كنيسة المحارب, مذكرات 1976 ــ الجمهرات, شعر, دار ابن رشد 1979 ــ الجندب الحديدي, سيرة, دار الطليعة 1980 ــ الكراكي, شعر, ضمن المجموعات الخمس 1981 ـ المجموعات الخمس 1981.
المقال مكتوب منذ أكثرمن حوالي ثلاثين سنة
وللأسف هوجزء من مقال طويل اقتطعته الجهة الناشرة الأولى وليس لدي تتمته
http://www.jehat.com/AR/RaesAltahreer/Pages/alnas.html