التَّعْمية أَصْلٌ في الشِّعر! شعرية سليم بركات: القراءة النَّقدية وإهدار سِياق النَّصَّ

د. خالد حسين 

 أولاً: علم التَّشفير والتَّشفير الشِّعري

التَّعميةُ أو التَّشْفير علمٌ راسخٌ في النَّشاط البَشَري وفي مختلف مناحي هذا النّشاط وهو علمٌ يهتمُّ “بتحويل المعلومات من وضعها القابل للقراءة لتظهر بشكلٍ لا معنى له. بحيث يتعذّر من لا يملك معرفةً سريةً محددةً معرفة فحواها”([1]) ، وغالباً ما يتكىءُ عِلمُ التَّشفير/ التَّعمية على الاستبدال؛ فعلى سبيل المثال يمُكن تَشْفِيْرُ عبارة (طيش الياقوت) بصيغةٍ تسكنُ التعميةَ(طوت الاقيوش) أو (الجمهرات: في شؤون الدم المهرج) بـ(الشدوم يج الجهرفي تادم)، وتزداد ضراوة التَّعمية في المجالات السِّرية بأنواع من التَّشْفيرات أو المعمّيات المختلفة ولاسيما في علم التَّشفير المعاصر لكن لا أهميةَ لذكرها هنا. 
بيد أنَّ هذه التعمية لا مكان لها البتّةَ في الحقلين الشّعري والأدبي، نظراً لأنَّ سُنَنَ التواصل وأداة الاتصال المشتركة (اللغة بقواعدها ومعجمها وعلاقاتها وبلاغتها) والجنس الأدبي بقواعده واشتراطاته ذات طابع فاشيٍّ في الهيمنة والحضور، تمنع الناصَّ من الوقوع في فخاخ هذه العتمة المعمّاة المحضة التي لا يمكنُ أن يلجأ إليها شاعرٌ في إطار فعل التواصل المائز للقول الشعري. ولذلك تسلكُ التَّعْمية في الحقل الشِّعري ممراتٍ أخرى لتدشين الأَسْرار في الكتابةِ الشِّعريةِ باستخدامٍ كثيفٍ لتقنياتِ البلاغة والسَّرد والإزاحة واختراق قواعد الجنس، 
وهي تعميةٌ لا تغادر السُّنن/ النواميس المتعارف عليها بين المرسل(الشاعر) والمرسل إليه(المتلقي) في ثقافة ما تخضع لاستعمال لغةٍ مثل الكردية أو العربية أو الإنكليزية…إلخ. من هنا لا يستقيم التعريف الذي حَدَّدَهُ الناقد خالد محمد في أطروحته حول التعمية الشِّعرية بالقول: (يُقْصَدُ بتعمية الدَّلالات في سياق العنوان والدراسة، إخفاؤها وإضفاءُ صيغةٍ غامضةٍ غيرِ مفهومةٍ عليها، في صوغٍ يجعل الرسالةَ اللغويةَ عَصِيّةً على الفهم، مُبهَمَةَ الفحوى، غيرَ واضحةِ المعاني، بحيث يتعذرُ على المتلقي إدراكُ كُنهِها واستيعابُ مقاصدِها ومراميها، واستخراجُ مُعَمَّياتِها التي تلتبس عليه فيقف حائراً عاجزاً عن فكّ رموزها الخارجةِ عن إطار إمكان الفهم.)[2]، فهذا التعريف لايتواءَم مع التَّعْمِيةِ الشِّعرية التي تبقى رهن إمكانية القراءة وتحليلها وأدواتها، فالنَّص الشِّعري لدى بركات يخضع على نحو راسخ للسان العربي تركيباً ومعجماً وصوتاً وتصريفاً ولقوانين البلاغة العربية وإرثها الأدبي، فضلاً عن خضوعه لسُنن الجنس الشّعري. ومن ثمَّ فالقول بتعميةٍ مزعومةٍ في شعر الشَّاعر ضربٌ من التهويم أو الهروب من أداءِ مهام الناقد في الإحَاطةِ بالنَّصِّ الشّعري وإنتاجه برؤية مفارقة لنصٍّ تقليديٍّ

ومما تقدَّم يُشِيرُ إلى أنَّ نُصُوصَ بركات تبقى في إطار التَّفَاعُل والتلَّقي ولا أدلّ على ذلك من الاحتفاء العارم بنصوصه لدى الشُّعراء الكبار والمتلقين كرداً وعرباً(ولاسيما في الجامعات المغربية )، أي أنَّ هذه النُّصوص لا تبرح مواقع التَّعمية الشَّعرية المحفّزة والمنتجة للدلالة  والمعنى عكسما يستنتج الناقد من مفهوم التَّعمية الذي يطرحه: (ويَنتج عن تلك التعميةِ انقطاعُ عمليةِ التفاعلِ الإبداعيِّ المنتِجِ للنص بعملية القراءة التي تأتي في مرحلةٍ تاليةٍ لعمليةِ الإنتاج الأوّلي للنص الذي يتحول بهذه السِّمة المحيِّرةِ والتعجيزيّة إلى مُنتَجٍ لُغَوي غريقٍ في الإبهام المتعمَّد الـمُتَستِّر تحت اسم الغموض، الإبهام، الرمز، الانزياح اللغوي، هَدْمِ اللغةِ أو نحو ذلك مما يدخل في مجال هذا الحقل الدَّلالي الذي يَعني خروج لغة النصِّ الشعري عن طابَعِ اللغةِ المألوفةِ لتتميّزَ عنها وتسموَ عليها بشعريَّتها وجمالياتها.). يقودنا الاقتباسُ السَّابقُ إلى منطقةٍ ترتبط بماهيةِ النَّصِّ الشِّعري ذاتهِ من حيثُ إنه يتأسَّسُ على الفتك بالقوانين التداولية للكلام ومن حيثُ إنَّ النّسجَ الشِّعريَّ عنفٌ يُمارس بحق اللغة نحواً وصرفاً وصوتاً ودلالةً وإزاحةً مما يمضي بالنّصّ الشّعري إلى التنائي عن المتعارف عليه من صيغ الكلام التداولي، ليسكن أرض الغرابة؛ الأمر الذي يصنع الدّهشة والمفارقة والتَّعجُّب لدى المتلقي. وإذا أضفتا إلى ذلك حذاقة الشَّاعر ومهارته في النسج (الشعراء أمراء الكلام كما يُقال) على غرار شاعر مثل بركات أو درويش، فإنّ التعمية تتضاعف وتهيمن على الكلمة الشِّعرية لكنها تبقى رهين التلقي للأسباب المذكورة آنفاً. 
وفي واقع الحال؛ لا يميّز النَّاقدُ في أُطروحتهِ بين الدِّلالة في المسار التداولي للغة والدِّلالة في السّياق الشّعريّ؛ إذ يستمد أطروحته من الفكرة التقليدية القائمة على التلازم بين الدَّال والمدلول في إنتاج الدلالة، يكتب: (أما الدَّلالات فيُقصَد بها في السِّياقِ نفسِه، ما تَـــنْــتُج عن العلاقة المتلازمةِ ما بين الدالِّ (الصورة الصوتية الخطية للكلمات، وعلى صعيد النص، للجُمل والعبارات) والمدلولِ (الصورة الذهنية لها)، وحين لا تَنتجُ العلاقةُ ما بين الدالِّ والمدلولِ في النصِّ تلك الدَّلالات، فإنه يَفْقِدُ مقاصدَه التي من أجلها أُنجِزَ على شكل بنيةٍ أُطلق عليها اسم (الشعر)، دون أن تُحَرِّزَها السلامةُ اللغويةُ التي يمكن أن تتوافرَ فيها، من سِمة التعمية التي تنقطع فيها العلاقةُ بين الدالّ والمدلولِ، فتنتفي الدلالةُ ويفقِد النص قُدرتَه على إيصال رسالته تلميحاً أو تصريحاً.). إلى ذلك وقبل الخوض في ماهية الدِّلالة الشَّعرية وكيفية إنتاجها لابدَّ من الإشارة إلى أن (المعنى) لايَنتج عن تلازم (الدَّال والمدلول) كما يمضي الناقد وإنما تضافر الزوج دالاً ومدلولاً يُنتج علامةً لغويةً، هي التي تصنعُ (الدِّلالة) في علاقتها بالمرجع أو العَالم، هذه المعادلة هي التي تسودُ الاستعمالَ اليوميَّ للغة. لكن الشّعرَ يستهدف هذه المعادلة ــ لخلق الدّلالة الشِّعرية ــ بعنفٍ وضراوةٍ تبعاً لمنطقِ الشَّاعر ورؤيته الفلسفيةِ للغةِ والحياةِ؛ ليحدثَ من ثمَّ صَدْعَاً، هوةً، تباعداً بين (العلامة والمرجع)، فتنبثقُ دلالةً تتسمُ بالاختلاف والغموض واللاتحديد والانزياح أو العدول حسب عبد القاهر الجرجاني، وهو ما يُوهم بأنَّ ثمة تعميةً تترامي على مَسَاحَة النَّصّ الشِّعري نتيجة خروقات وارتكابات كثيفة للاستبدلات والاستعارات والمجازات والتَّنَاصّ. وهكذا نجد أنفسنا إزاء نصيّةٍ مغايرةٍ تنطوي على دلالةٍ معمّاةٍ تتّسم باللاحسم على الصَّعيد الدّلاليّ، فالعلامة اللغوية في هذه النَّصيَّة، لم تَعُدْ وفق جاك دريدا تضافراً بين الدال والمدلول وإنما التحاماً بين خاصتي: (الاختلاف والإرجاء)، فالعلامة الشِّعرية حتى تكون علامةً، عليها أنَّ تختلفَ عن علامات أخرى وترجىء معناها من قراءةٍ إلى أخرى وهذا ما يُطلق عليه اللاحسم دلالةً تحت وطأة “النصية” التي تعمل على إخفاء قواعد النّصِّ وأسراره.
ويترتّبُ على التَّعْمِيَةِ التي ينحازها إليها النَّاقد خالد جميل محمد نصٌّ فقيرٌ، مستغلقٌ: (النص المستغلِقُ، لا تتوافر فيه مفاتيحُ تُعِينُ القارئَ على فكِّ شيفرتِه الـمُـمْعِنةِ في الترميزِ المتعمَّد والتلغيز الــمُــتَقَصَّدِ، لذا فإنه يكون ضرباً من كلامٍ مُعمّىً يَحُولُ بين القارئ وبين تلك القيمِ، حتى يبقى ذلك المنتَجُ اللغويُّ عديمَ الفائدةِ من الناحية الشعرية والجمالية، رغم احتمالِ حفاظِه على سويَّتِه وسلامتِه اللغويةِ من النواحي الإملائية، الصرفيّة، النحْويّة والمعجميّة، إلا أن ذلك لا يُسعفُه من هَدْر الدَّلالات المنتظَرة منه وانتهاكها). لاشكَّ بأنّ نصَّ بركات وأي نصٍّ على منواله  هو المستهدف بهذا الكلام ولكنه ــ وعكسما يذهب الناقد ـ نَصٌّ زاخرٌ بالمفاتيح يحتفل بالانتهاكات التي ارتكبها خيالٌ جامحٌ إلى إيجاد ما لايوجد انطلاقاً من الموجود،  نصٌّ بصريٌّ، مرفقٌ بكثير من العَلامات النَّصيَّة التي تؤدي دور مفاتيح استراتيجية للقراءات؛ كالعتبات النَّصيَّة التي تحفُّ بمتون النُّصوص ولاسيما العناوين والعناوين الداخلية، شروحات تأتي في نهايات النَّصوص، أسماء أعلام، تصديرات في واجهة المجاميع الشَّعرية، تناصَّات يمكنها التخفيف من وطأة الاستعارات وتراكم الصور( يمكنني أن أستدعي هنا أطروحة الباحثة ولاء أبازيد: التركيب اللغوي للصورة الشِّعرية في شعر سليم بركات ــ الجامعة الهاشمية). وفي رؤية معاكسة، مصدرها التّجربة الشّخصية([3]) في تحليل بعض أعماله، يمكنني القول: إن نصوص بركات التي أنجزتُ تحليلها على الأقل تتسم بالغنى والثراء والاختلاف الشّكلاني والدلالة المدهشة التي تتضادّ مع كلِّ ما قدَّمه النَّاقد من توصيفاتٍ تنبو عن خصائص العمل الشعري، حيث انصبّ الاهتمام على مواقع العنونة ممراً إلى قراءة النصوص ومحاولة الكشف عن أسرارها.
 ثانياً: القراءة وإهدار السّياق النَّصيِّ:
في مستهلِ الاقتراب التَّطْبيقي يطرح النِّاقدُ مفهوماً للشعر أقلُّ مايقال فيه أنه ذو طابع سلفيِّ ولا يحيط بالمنجز الشِّعري المعاصر فما بالك بشعر سليم بركات المتّسم بالاختلاف والتباين والفرادة البنيوية والثيمياتية والأسلوبية وسحر الصُّورة وغوايتها، يكتب الناقد: (الشعر بنيةٌ لغويةٌ ذاتُ أبعادٍ دَلالية ومعرفيّة، تشتمل على قيم فنية وجمالية تتحدَّد بموجبها شعريةُ النصّ)، فهذا التَّحديد يفتقدُ إلى أية خصائص مائزة، فالكثير من الخطابات الفلسفية والتاريخية والنِّقدية ينزع مؤلفوها إلى ضخّها بطاقات جمالية ومعرفية ملموسة ويمكن استدعاء كتابات(دريدا، دولوز، فوكو، بارت، هايدن وايت، عبد الفتاح كيليطو، محمد لطفي اليوسفي …إلخ)، ورغم هذه الطاقة الجمالية فهذه الخطابات تحافظ على انتمائها الأجناسي؛ ولذلك فهذا التَّحديد قاصرٌ على الإحاطة بالمنجز الشّعري المعاصر ولاسيما (منجز بركات) ذاته الذي ينماز بخصائص مائزة تفسد الأعرافَ الشِّعرية المتوارثة وتفكّك الأصولَ التراثية للكتابةِ الشِّعريةِ وتعلنُ النَّفيرَ على الشَّكل وتنحاز إلى (اللا ــ شكل) أي العمل ضد شكل القصيدة المتضام والمغلق ثم السَّعي الدؤوب نحو الشكل المتقطّع والمفتوح والنُّزوع الهادر نحو اللعب باللغة وإحداث الفوضى واللواذ بالصَّمت والغياب والتبعثر دلالةً(التشتُّا). إنها شعرية التنافر والإرجاء والطبيعة الخرائطية للكتابة. بمعنى آخر؛ شعرية بركات تعملُ بالتنايئ عن التَّحديد الذي طرحه الناقد. إزاء هذه الشِّعرية القائمة على التنافر والتَّشعُّب من المنطقي أن تغدوَ المساحات الشّعرية التي استشهد بها الناقد رهينة (التَّعمية المحضة)، لكونه انتزعها من مواقعها النّصية، ليهدر بذلك السِّياق النَّصي الذي وردت فيه، هذا السّياق الذي من الممكن أن يمنح القارىء مفتاحاً(مفاتيح) لبدء مغامرة القراءة. لنستحضر هنا مثال الناقد: (وعلى سبيل المثال عن هذا النوع من الكتابة، نصٌّ لـ(سليم بركات)، جاء فيه:
“غماليجُ الأثر الفَخْمِ يدحرجون النساءَ الغماليجَ على حافَّة السُّكَّريِّ. بِهم حِرْصُ اللامرئيِّ على إنائه، ووساوسُ النحلِ في بستان المعلوم. يقبِّلون بشفاهٍ صوَرٍ فمَ السَّديمِ؛ بشفاهٍ مراوحَ فمَ اللهب. عُدولٌ في القيامِ بالرَّعاعِ إلى اليقين العصيانِ، وبالدَّهماء إلى المراثي…”).
والغريب أن النَّاقد على إدراك عميقٍ بالخصائص المائزة لشِّعرية بركات وهي لا تختلف كثيراً عن تلك ذكرتها، وهي الخصائص التي تتميز بها الشَّعرياتُ العالية للشّعراء الكبار ولكونها لا تخضع للقوانين السائدة للغة؛ فإنَّ القرّاء ينفرون منها، يكتب الناقد حرفياً: ( اعتمد الشاعر لغة تختلف عن لغة الكلام اليومي المألوف، وسعى إلى تكوين علاقات مغايرة لعلاقاتها، مستخدماً أسلوباً متميزاً زُجت فيه اللغة في بنى جديدة وتراكيبَ غريبةٍ سعياً إلى خلق ما يمكن أن يسمى باللامعنى للوصول إلى المعنى، أو عدم اكتراث للمعنى ما دامت الغاية هدماً وانزياحاً فحسب)، وفي الحقيقة هذا هو شـأن الشّعر وعلاقته باللغة، ومتى كان الشّعر على توافق مع الكلام اليومي أو الرسمي حتى في القصيدة الشفوية البسيطة فثمة انزياح عنه، فلا همَّ للشّعريِّ سوى تقويض النَّظام الدِّلالي للغة وتحرير الدَوال من التبعية للمعنى لبناء جماليات أو مشاهد (أثر) مغايرة. لكنَّ الرُّؤية التقليدية/ السَّلفية التي وقع في إسارها الناقد هي التي تدفعه إلى رفض هذه الشِّعرية المغايرة واتهامها بالتلغيز والتعمية المزعومة! فهل هذه الشّذرة من الاستعتمام والتغليز بمكانٍ ما يجعلها (عديمة الفائدة) ومجرّد متتالية لغوية كما يزعم الناقد؟
في البدء يمكنني القولُ إنَّ شعرية بركات ليست بتلك التي ترتهن للسُّهولة ومن ثمَّ تستلم لطوع بنان القارىء بضربةٍ من قراءةٍ واحدةٍ، هذا من جهةٍ. ومن جهةٍ أُخرى لابدَّ من بناء السِّياق النَّصيِّ ــ الذي أُهدر لغاية في نفس يعقوب ــ لهذه الشَّذرة! فالدائرة الهرمنوطيقية (الفهم، التفسير، التأويل) لا تستيقظ للعمل التأويلي بدون عمل بنيوي/علائقي متكامل. وبناء على ذلك يمكن التأسيس بالقول: الشَّذرة (26) تنتمي إلى مجموعة (شعب الثالثة فجراً من الخميس الثالث…)([4])، التي تنقسمُ بدورِهَا إلى ثلاثةِ فصول، يوحّدها ساردٌ كليُّ المعرفة عبر استخدام صيغة فعلية يتوزُّعها المضارع والماضي حيث يعكفُ السَّاردُ على سرد أحداثٍ أسطورية في البر والبحر تخصُّ جماعةً، شعباً(ما)، قلما يقدّم السَّارد معارفَ واقعية عنها/عنه للقارىء، وهي معارف/ علامات لاتخرج عن الطابع الأسطوريّ وكلُّ ذلك في ولعٍ غريب  بإيقاظٍ معجم العربية العتيق والغارق في السُّبات في حركةٍ سرديةٍ وبإيقاع سريع لايمنع من تضافر عناقيد الصُّور الشعرية المتّسمة بالغرابة والدَّهشة؛ ليتشكّلَ هذا النَّصُّ الملحميُّ من مسار أفقي يصطاد فيه الشَّاعرُ كينونة الجماعة وأحداثها وتواريخها وحروبها وانتقالاتها ثم التحرُّك وفق مسار عموديٍّ لشعرنةِ السَّرد بإشعال المجاز في التراكيب اللغوية، لنجد أنفسنا إزاء نَصٍّ يستدعي إلى الذاكرة نصوص الشَّاعر الفرنسي سان جون برس بل حتى قصيدة درويش الملحمية (مأساة النرجس وملهاة الفضة) على الصعيد التناصي.
 إلى ذلك يؤدّي عنوانُ المجموعة (شعبُ الثالثة فجراً من الخميس الثالث…) دور المفتاح الذَّهبيِّ للإحاطة بهذا العَالم الأُسطوريّ/ السِّحريِّ الذي نسجه بركات بأناةٍ للقارىء. ينقسمُ العِنْوانُ وفق كائناته اللغوية إلى حقلين دلاليين: الكائن(شعب) والزمن (الثالثة فجراً من الخميس الثالث)، ليغدو النَّصُّ بكلِّ بساطةٍ سجلاً لكينونة هذا (الكائن/الشّعب) وتواريخه في العَالم. لكن أيّ شعبٍ هذا؟ السِّماتُ التي يطرحها النَّصُّ تدور حول جماعةٍ أسطوريةٍ، جماعة تأبى الاستقرار تخوض الحدثَ براً وبحراً، لتتعدَّدَ الظنونُ بخصوص هوية هذه الجماعة في بدئها: ميديين، إغريق، غجر أو على الأرجح الفايكنغ([5])  (سكنة البلدان الإسكندنافية الذين اشتهروا بالسِّمعة السَّيئة والطبيعة الوثنية الوحشية)، ومن ثمَّ فليس (الغماليج) سوى هذه الجماعة في حقبتها الأُسطورية حيث يوضّح المعجم ماهية الكلمة بالقول: (غَمْلَجُ وغَمَلَّجُ وغِمْلِيجُ وغُمْلُوجُ وغِمْلَاجُ وغُمَالِجُالذي لا يَثْبُتُ على حالَةٍ، يكونُ مرَّةً قارِتاً ومَرَّةً شاطِراً،  ومَرَّةً سَخِيَّاً ومرَّةً بَخيلاً، ومَرَّةً شُجاعاً ومَرَّةً جَباناً، وهيغَمْلَجٌ وغَمَلَّجٌ وغِمْليجَةٌ وغُمْلوجَة)ٌ، فهذه السِّمات تعكس طبيعةَ الكائنِ في حالته الأسطورية البدائية وتقلباتها وتغيراتها، لتأتي شذرةَ سليم بركات المشفّرة بحنكةِ التَّشفير الشِّعريّ لتوصيفِ طقسِ النِّكاح لدى هؤلاء الغماليج في صور تُذهل القارىء: (غماليجُ الأثر الفَخْمِ يدحرجون النِّساءَ الغماليجَ على حافَّة السُّكَّريِّ)؛ حيث “حافة السكريّ” تعكس لنا استعارةً قائمةً على الاستبدال(على حافة اللذة)، وما الفعل المضارع (يدحرجون) إلا كناية عن المجامعة التي تجمعُ الرِّجال الضِّخَام(الأثر الفخم) إلى النِّساء الغماليج. فيما تأتي الصُّور الأُخرى؛ لتعكسَ شؤون الغماليج مع إناثهم: (بِهم حِرْصُ اللامرئيِّ على إنائه، ووساوسُ النحلِ في بستان المعلوم) حيث لاتخرج الصُّورتان عن التَّشبيه: (حساسية الرِّجال = حرص اللامرئي/ وساوس”اهتمام” النحل) و(النِّساء الغماليج= إناء اللامرئي/ بستان المعلوم “الورد”)؛ فليس الأمر أكثر من اهتمام الرّجال بنسائهم ومحظياتهم وصونهم لهن، ليعودَ الشّاعرُ في صورةٍ  أخرى ويصوّر النِّساء استعارياً:(فم السّديم/ فم اللهب) في هيئة أسطورية ممتزجة بقوى الكون(يقبِّلون بشفاهٍ صوَرٍ فمَ السَّديمِ؛ بشفاهٍ مراوحَ فمَ اللهب)، وهي صورة تضرب بعمق في المخيلة البشرية  من حيث التقابل بين الأنثى والنار(العنفوان الجنسي) والسَّديم (الغمام) كعلامةٍ على الماء والخصب. ويمضي الشَّاعر في السطر الأخير: (عُدولٌ في القيامِ بالرَّعاعِ إلى اليقين العصيانِ، وبالدَّهماء إلى المراثي…) إلى توصيف قوة هؤلاء الغماليج وهيمنتهم وتوزيعها عدالةً بين الرَّعاع (السّفلة من الناس وغوغائهم) والدهماء، ليغدو الرّعاع حرّاس اليقين/ أي حراس سلطة الغماليج السائدة حتى الموت(العصيان). أما الدّهماء فشأنهم أن ينشدوا الأناشيد في سادتهم الغماليج فحسب سرّاء ضَرّاء.. هكذا يتبين الدور الاستراتيجي للسّياق في التحليل بإعادة النّصِّ من حيّز الغرابة والحوشية والسّحر والتَّشفير إلى عالم الألفة والأنس بعد إزالة وطأة التعمية الشِّعرية التي فرضت بحضورها إحداث النشوة والمعرفة بالنَّصِّ.    
وفي فقرة أخرى، مرتبطة بما سبق يقتطع الناقد شذرةً أخرى من النِّص ذاته دون أدنى محاولة لموضعة النَّصّ في سياقه الأكبر لاستنباط مفاتيح محددة لفكّ تشفيراتِ النَّصَّ وغوامضه، فينتهي به الأمر إلى أنَّ الشَّاعراستخدمَ (تعابيرَ غيرَ مترابطةٍ ومفرداتٍ انتقاها انتقاءً من بطون مُعجَمات فريدةٍ، بهدف إظهار ضَرْبٍ من الغرابة التي جاءت على حساب الأسلوب، حيث خلا هذا الخطاب من أيِّ مؤشر يعكِس موقفاً أو يوحي به، ولم يترجم رؤيا واضحةً، كما لم يحقق وظيفتَه التواصليةَ، ومن ثَمَّ عجزَ عن تحقيق وظيفتِه الجماليةِ في إطار اللغة التعجيزية التي أفقدت النصَّ طاقاتِه الإحاليةَ والدَّلاليةَ، كما أفقدت التعابيرَ طاقاتِها الإيحائيةَ والتأويليةَ، واستسلمت لتشتت كلاميٍّ وعبثٍ عديمِ الجدوى دلالياً ومعرفياً)، ولاشك أنَّ التعابير المجترحة لاتخرج عن شعرية بركات وأسلوبيته المعروفة بإحداث مباعدة بين العلامة ومرجعها وأحداث هوة دلالية مع الخضوع التام للنظام النَّحوي للعربية(جرّوا ظلالَ التنّوب، والمُرّان، والقِيقب، بكلابيبَ ظِلالٍ إلى المنحَدَرِ، وراءَ المغيبِ المترنِّح في الحَلَبة من نفاقِ الشمس)، والصورة، هنـا، لاتخرج عن ألعاب الاستعارة في العبث بالدِّلالة التداولية لتدشين (غرابةٍ) هي الأصلُ في اللعبة الشّعرية؛ فما الشّعر إن لم يصنع الغرابة والقلق لدى المتلقي، إذا إنه سيتحول إلى معنى تداولي لا أهميةَ له إن تخلّى عن صناعة الغرابة التي وحدها تقلق  الرُّسوخ واليقين السَّلفي في تلقي الشّعر.  ومن هنا؛ فاللغة الشِّعرية (في اشتغالها على اللغة وبناء النَّصِّ تتجه نحو تقويض القوانين التي يشتغلُ بموجبها الكلام المنطقي. وفي تفكيكها لبنية الكلام واللغة السائدة تُمظهر قوانينها الجديدة وتؤسّس منطقها الخاص بها، وبذلك تنتقل اللغة من وظيفتها التواصلية القائمة على الوضوح إلى الوظيفة الجمالية القائمة على الالتباس والتعتيم الدلالي)([6]). في السياق نفسه يتابع الناقد رؤاه السَّلفية في الإحاطة بالمقطع السابق استناداً إلى فكرة القياس المنتشرة في المصّنفات النحوية فما لايخضع للقياس وتجارب الشعراء في الانزياح فهو شاذٌّ: (إن ممارسة خرقٍ لغويٍّ من هذا النوع لَـهِيَ ممارسة شاذة في الشّعر (…) فهذا النوع من الخرق يَعْتَوره غموضٌ شديد وتعقيد لم يحافظ على القيم الفنية والجمالية للانزياح الذي يلجأ إليه الشّعراءُ عادةً بهدف خلق صورٍ وأساليبَ تحمل معانيَ جديدةً ورؤيا الشاعرِ وموقفَه)، لكن التمعُّن في شذرة سليم بركات يشي أنَّها طوعُ التأويل ولاتخرج عن قوانينه وما فعله الشَّاعر أنه مارسَ حقوق (الشَّاعر) في رؤية العَالم وأحداثه بلغةٍ ديدنها الاختلاف والإرجاء والتَّغريب، لغة استعارية يمكن باعتماد القرائن والعناصر الحاضرة والغائبة إرجاعها إلى البعد التداولي: (جرّوا ظلالَ التنّوب، والمُرّان، والقِيقب، بكلابيبَ ظِلالٍ إلى المنحَدَرِ، وراءَ المغيبِ المترنِّح في الحَلَبة من نفاقِ الشمس = آثار النبات والشجر المرسوم على الأرض  حيث كائنات تجرُّها إلى سفح جبل آن غياب الشّمس)! وهكذا بإدخال (الظّلال، المغيب، الشّمس) إلى لعبة الاستعارة يتضافر لدينا مشهد في غاية الجمال والدهشة والدينامية وإثراء البعد الدلالي للغةِ بما هو غير موجود، وهذا هو ديدن الشَّعر في خلق ما هو غير كائن أو أسطرة الكائن ليتناسبَ وماهية الشِّعر ذاته!  
في انعطافةٍ أُخرى؛ يكتب الناقد: (في التَّجربة الشِّعرية يُنتهَك النِّظام اللغوي المألوف، وتُهدَر قوانينُه المعياريةُ شريطة أن يُعاد بناءُ ذلك النظام وَفْقَ قانونٍ يصون الدّلالاتِ التي هي نهاية المطاف في رحلة الرسالة الشعرية اللغوية). ما لاينتبه إليه الناقد أنَّ الانتهاكَ يصيبُ النَّظام الدّلاليّ في التّجربة الشّعرية من خلال تقنيات الإزاحة والتنافر والمجاز، الأمر الذي يقوّض الدلالات المترسبة في اللغة ويتيح استيقاظ دلالات جديدة، طازجة، فالتَّجارب الشِّعرية ذات الانعطافات الحادة تجدّد اللغةَ وتهبها حياة أخرى بحساسيات مغايرة تزجُّ اللغة في سياقات من شأنها أن تعبّر عن مساحاتٍ غير موطأة في تجربة المخيّلة الشِّعرية في علاقتها بالعالم. ولذلك لا حيّزَ كبير للدلالات التداولية (الإحالة على/إلى العالم) في التّجرية الشِّعرية إلا بما يبُقي اللغة على تواصل مع القارىء؛ نظراً لهيمنةِ الوظيفة الجمالية وتسيُّدها الوظائف الأخرى ومن بينها الوظيفة الإخبارية التي تتراجع إلى الخلف.
يُقدِّم الناقدُ برهاناً على كلامه آنف الذِّكر مقطعاً طويلاً من نصِّ بعنوان :”الأقْفَال (مقالة في خواصِّ الظّاهر)” متهماً الشَّاعر بالإغراق في التعمية على عادته، يكتب: (عنوانٌ لا يقدم أيَّ إيحاء أو مؤشر يُــعِين القارئ على اختراق الانغلاق الـمُحكم لهذا النصّ/الكائن اللغوي، كما أن القارئ لا يستطيع أن يتوصل إلى فكرة عامة أو خاصة أو دَلالاتٍ ما، من وراء هذا الخطاب الـمُـعَمّى الذي لا يُفهَم المراد منه وقد أغرقَ في الانزياحات لدرجةٍ تُظهِرُ انقطاع العلاقات بين التراكيب في نصٍّ افتقرَ إلى قرائنَ أو مفاتيحَ تُعين القارئ على فكّ تعابيره المبعثرة وانسيابه وراء صيغٍ أسلوبية لا رابطَ يجمعها ولا محتوىً ينبثقُ عن الوحدات الداخلة في بنيته المخلخلةِ دَلالياً). هنا؛ سأضطر إلى الاستشهاد بالتِّجرية الشخصية في الاشتغال على العناوين من حيث إن العنوان كعلامة (مهما كان) فهو بمنزلة الثريا التي تضيءُ عتمةَ النَّصِّ فما بلك بعنوانٍ طويلٍ يسمُ تجربةَ سليم بركات في وسم نصوصهِ، فإنُّه يغدو بمثابةِ حبلِ نجاةٍ أو ممرٍ، دليلٍ في السّير نحو التَّضَاريس الوَعِرة التي ينقشُها شاعرٌ صَعْبٌ مثل بركات.  ومن جهةٍ أخرى لا أحد ينفي أن ديدن الشّاعر هو خلخلة النَّظام الدِّلالي للغة دون رحمةٍ وهي أصلٌ في تجربة الشاعر منذ الديوان الأول وحتى اللحظة الراهنة. ولا يمكن تفسير هذا الصدّ من الناقد ـــ والامتناع عن الاشتباك مع النص ومن ثمَّ تكرار الاتهامات ذاتها ـــ سوى بسلفية نقدية مريعة تسكن خطابه. لكن، لننظر في عنوان النَّصّ المستشهد به هنا: هذا العنوان: الأقْفَال (مقالة في خواصِّ الظّاهر) وسمٌ لقصيدةٍ طويلةٍ (1994) ضمن مجموعة (طيش الياقوت)([7])/ 1996حيث يتحكم بسردية النَّصِّ ساردٌّ وحيدٌ ينقش مشهدَ العَالم المرئي(الظاهر) للقارىء في لغةٍ رشيقةٍ مفخّخةٍ بالغرابةِ وصُور سريالية مفتوحة على اللاحسم الدلالي وهي سمةٌ تخترقُ شعرية بركات من بدئها إلى منتهاها. وعكسما يذهبُ النَّاقدُ في توصيف هذا العنوان من حيث مجانيتُهُ وفقدانُهُ لوظائف الإنارة؛ فإنه يشكلّ الممرَّ إلى النّصِّ والعلامة التي نهتدي بها في ليل النَّصِّ وعتمته الباذخة. ومن جهةِ التركيبِ يتمفصلُ العنوانُ إلى عنوان رئيسٍ(الأقفال) وثانويٍّ (مقالة في خواص الظاهر)، ومن المفترض في عنوان مزدوج البنية أن يتولّى الفرعيُّ تفسير الرئيسيِّ المنغمر بالعتمة. وبناءً على ذلك فليس العنوان في كليّته سوى ثنائية تقوم على التَّضاد بين (الأقفال= الباطن(المجهول)/(مقالة في خواصّ الظاهر= الظاهر(المعلوم)، وبهذا التأويل البسيط يتوفّر العنوان على جملةِ وظائف([8]) تمنح القارىء المقدرة على الإحاطة بتعمية النَّصِّ وبنيته المشفَّرة. وبالمضي قُدُمَاً في تحليل العنوان يمكن تأويل الحدُّ الأولُّ (الأقفال = الباطن/المجهول) بالعالم في أسراره والحدُّ الثانيّ بالمفتاح الذي من شأنه تصيير الباطن والسرِّ في عداد الظاهر. أو أنّ الظاهر ليس إلا خواصّ الباطن وقد تجلت في المقالة (القصيدة).  بل يمكنُ الِّذهابُ في منحىً آخر؛ إذ الأقفال تومىء إلى (المحتوى)  و(مقالةٌ في خواصّ الظّاهر) إلى (الشَّكل)  كثنائية تضربُ بقوةٍ في الإرث النقديّ ــ الفلسفيّ للجنس الشّعري! والسؤال، هنا، هل أدّى العنوان وظائفه الإغوائية والتعينية بله الوظيفة التفكيكية أم ظلَّ طيَّ المنزوع من سماته؟ لنتقدم أكثر: لو تمعّنا النَّصَّ برويةٍ؛ لوجدنا أن النصَّ يتمحور حول (فاعل ــ شاعر) يترصَّدُ العالم باطناً(الأقفال) وظاهراً(خواصّ الظاهر)، متحرِّكاً بينهما لينسجَ منهما المقالة (أو القصيدة) المبتاغة:
1ـــ هَبْ شققْتَ المعاني من تلابيبها، ودفعتَ الغدَ خلسةً، بيديكَ ليتهاوى على الأدراج المنحدرةِ إلى كمائنها.
2ـــ مُلْهَمٌ أنتَ، أيُّها الطليقُ كرحيلٍ،
ويُؤتى غدُكَ من الهاوية؛
مُلْهمٌ، يُرمى ظلُّكَ بقبعاتِ المرح، 
وتُولَّى أقفالَ الحظوظِ كلَّها والمفاتيح التي من خواتيم مقفلةٍ.
3ــ فأعدّ الوليمةَ من أخلاط الزئبق ونفاس الرمل كي تحضر الدهشة مترفةً في أصفاد الجوهر.
في هذه الشذرات الثلاث تتبلور موضوعة القصيدة بوصفها نسجاً عالياً لعلاقةِ الشَّاعر بالعَالم، وليست الشذرة رقم (3) إلا الشَّاعر وهو يُعيدُ كتابة القصيدةَ(الوليمة) بإحداث الصُّدوع تلو الصدوع في النَّظام الدِّلاليِّ للغةِ وكسر التواؤم بين الكلمات(أخلاط الزئبق ونفاس الرمل)  حتى تنبثق االغرابة(الدهشة) في جسد اللغة(أصفاد الجوهر). بناءً على ذلك يمكن تفسير كلام الناقد على أنه ضربٌ من الهروب في مواجهة العلامة الشِّعرية بإهدار السياق العام للنص أولاً وإسناد ما هو فاسدٌ لعتبة النَّصِّ من سمات وخصائص تبطل عملها النشط في تحريك الدائرة الهرمنوطيقية ومن ثمّ الإطاحة بالعنوان كممرٍّ لتأويل القصيدة برمتها وإعادة الإلفة إلى اللغة.  
يستحضرُ النَّاقد ُإلى فضاءِ المناقشة ِنصاً آخر بعنوان (استطرادٌ في سياقٍ مُخْتَزَل) ثم يصبُّ عليه الاتهام تلو الآخر كما لو أنَّ (اتهام بركات بالتعمية العصية على القراءة) هو المتوخَّى من فعل القراءة وليس الخوض في أسرار النَّصّ كفعل مغامرة تفرضه الرَّغبة بمعرفة النص والإحاطة بخصائص شِعرية بركات التي باتت تفرض ذاتها على القراءات والدّراسات النقدية والثقافية، يكتب: (ليس في النص السابق عناصر تعتمد عليها القراءة لتسبر أغوارَه وتتمكنَ من استكشاف فكرة أو فِكَرٍ جامعة لتلك السلسلة المتتالية من الجمل والعبارات غير المترابطة، بخرقٍ لغويٍّ لم يُنتجْ دَلالاتٍ مفيدةً تقوم على العلاقة الوثيقة بين الدالِّ والمدلول. وعندما يحيل الدالُّ إلى مدلولٍ لا علاقة له بالسياق الذي وردَ فيه ذلك الدالُّ، أو عندما يتواتر الأمر فإنه يؤدي إلى خَلْقِ فَجْوةٍ بين صورتي العلامة اللغوية (الدالّ والمدلول) في تلك العملية). ما يكبح هذا الكلام؛ ليرتدَّ على صاحبه بقوة ويبطل اتهامه المرميَّ على عواهنه هو أنّ النصَّ منشورٌ في مجموعة (طيش الياقوت)، ولا يحتاج من القارىء سوى بناء سياق للقراءة للدُّخول في عمليةِ استنطاقٍ للنّصّ الذي يتوفّر بدوره على عنوانٍ وخاتمةٍ واضحةٍ: (الكرد هناك/ في دوّيّ الطلقة التي ترديكَ لتتعافى) يمكنها أن تكون أرضاً للتموضع لتفكيك القصيدة، هذا عدا عن عديد العلامات والإشارات من أسماء الأعلام والأمكنة التي يمكن اتخاذها مفاتيحَ للاقتراب من النَّصّ، بل إنني سأجازف وأوّسع من مجال السّياق ليشمل أحداث سياسية وقعت في تلك الفترة (1990 ــ 1992)، حرب الخليح(احتلال الكويت، الهجرة المليونية للكرد باتجاه الحدود الإيرانية ــ التركية)، فالنصُّ وفق قراءتي يشتمل على إحالات قوية للعالم على الرّغم من أنَّ السّبك والصور الغريبة التي تتسيّد المشهد الشّعري تحاول إخفاء التاريخ. لكن يبدو أنَّ الناقد لا يتوخى القراءة!
 من جهة أخرى لايزال الناقد في هذا المقبوس أيضاً حبيس تلك الرّؤية التقليدية المشدودة إلى ذلك المعنى الناتج عن مواءمة الدال للمدلول. وقد أشرت أنَّ هذه العلاقة تتفتَّت بعنفٍ في شعرية بركات وغيره من الشُّعراء الباحثين عن شعرية مختلفة. 
سأتجاوز النصَّين اللاحقين ـــ في منافشة النَّاقد وأعني بهما نصيْ: ( لَدائِن/(الأكيدُ ذاهلاً) و(المعجم) لاسيما أن كليهما يحضر بعنوانه مما يمنح القراءة سبيلاً إلى قراءة النَّصِّ بسهولةٍ، فضلاً عن أنّ الاستراتيجية التي تتحرّكُ وفقها قراءتي باتت واضحة لدى القارىء في قراءة النُّصوص الشِّعرية لبركات وغيره ــــ إلى القول إنَّ شعرية سليم بركات تمتاز بالثراء والغنى  وتمثّل انعطافاً حادّاً في مسار الشّعرية العربية المعاصرة بأسلوبيتها وغرابتها، الأمر الذي نوّه به شعراء كبار في العربية( درويش، أدونيس، سعدي يوسف) لهم ذائقتهم وخبرتهم في المجال الشّعري علاوة أنَّ هذه الشّعرية باتت تستقطب الاهتمام الأكاديمي في كثير من الجامعات ولاسيما في شمال أفريقيا. ولذلك أتمنّى من صديقي الناقد خالد جميل محمد أن يعيد النَّظر في استراتيجته في القراءة والاستنطاق بدلاً من هذه الرؤى التي أراها لا تواكب القراءة النقدية الراهنة البتة بل إنها تعكس “سلفية” ليس لشعر بركات فحسب وإنما للشعر المعاصر برمته!.  هوامش القراءة

([1]) ـــ نقلاً عن موقع ويكيبيديا/ شبكة الانترنيت.
[2]  ـــ خالد جميل محمد: تعمية الدَّلالات في الشعر العربيّ الحديث (سليم بركات نموذجاً)، موقع ولاتى مى الألكتروني.
([3]) ـــ  ينظر إلى كتابييَّ (في نظرية العنوان/ شؤون العلامات)، دمشق: دار التكوين. ط1، 2007/ 2008.  
([4]) ـــ سليم بركات: شعب الثالثة فجراً من الخميس الثالث، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 2008.
([5]) ــ الفايكنغ أو الوِيكنجار (بالنوردية القديمة: víkingr) مصطلح يطلق على شعوب جرمانية نوردية وغالباً على ملاحي السفن وتجار ومحاربي المناطق الإسكندنافية الذين هاجموا السواحل البريطانية و‌الفرنسية وأجزاء أخرى من أوروبا في أواخر القرن الثامن إلى القرن الحادي عشر (793-1066)، وتسمى بحقبة الفايكنغ، كما يستعمل على نحو أقل للإشارة إلى سكان المناطق الإسكندنافية عموماً. تشمل الدول الإسكندنافية كلاً من السويد والدنمارك والنرويج وآيسلندا. على الرغم مِنْ سمعة الفايكنغ السّيئة وطبيعتهم الوثنيّة الوحشية، تحول الفايكنغ خلال قرن أَو إثنين من الزمان إلى المسيحية واستقرّوا في الأراضي التي هاجموها مسبقاً، وفي نفس الوقت بنى الفايكنغ مستوطنات جديدة في آيسلندا، و‌جرينلاند، وأمريكا الشمالية، والأطلسي الشمالي، إضافة إلى تَأسيسِ ممالك في شبه الجزيرة الإسكندنافية على طول الحدود مع الممالكِ الأوروبيةِ في الجنوبِ. ونتيجة لاندماجهم في أراضيهم الجديدةِ أصبح منهم المزارعون والتُجّار إضافة إلى الحُكَّامِ والمحاربين. اشتهر الفايكنغ ببراعة ملاحتهم وسفنهم الطويلة، واستطاعوا في بضع مئات من السنين السيطرة و‌استعمار سواحل أوروبا وأنهارها وجزرها، حيث أحرقوا وقتلوا ونهبوا مستحقين بذلك اسمهم الفايكنغ الذي يعني القرصان في اللغات الإسكندنافية القديمة.(ويكيبيديا)
([6]) ـــ خالد حسين: اقترافات التأويل، العين: دار جميرا للنشر والتوزيع، ط1، 2015، ص 98.
([7])  ـــ سليم بركات، طيش الياقوت، بيروت: دار النهار للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 996 .
([8])  ــ ينظر بالتفصيل: خالد حسين: في نظرية العنوان، مرجع مذكور.    

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…