مكانة المرأة في المجتمع الكوردي.. أمثلة من التاريخ الحديث والمعاصر.

سعيد يوسف
مدخل : مر على البشرية، زمن كانت السيادة فيه للمرأة، فكانت هي الآلهة، والأم الكبرى. وقد أطلق الأنثربولجيون والأركيولوجيون، وعلماء الإجتماع على هذا العصرإسم العصر الأمومي (المتريركي). ويؤكدون بأن الزراعة كشف نسوي، لكن الرجل تمكن من تدجين الحيوانات واستئناسها، فمارس الفلاحة، وعمل بالزراعة، فآل الإقتصاد إليه، وكذلك السلطة، فخسرت المرأة بذلك سلطتها السياسية والإقتصادية، وشيئا فشيئا فقدت حريتها ومكانتها، في عصر يطلق عليه إسم العصر الأبوبي (البطريركي).
في المجتمع الكوردي، فرضت الظروف الإقتصادية والإجتماعية والسياسية، على المرأة الإنخراط في معترك الحياة بكل أوجهها سعيا وراء تأمين مستلزماتها وتلبية ضروراتها الحياتية. 
لن نغوص بعيدا في عمق التاريخ، وطبقاته، كون ذلك يتطلب بحوثا مستفيضة، وترسانة معرفية غزيرة. من أجل ذلك سوف أكتفي بذكر أمثلة عن المرأة الكوردية المتألقة، في العصرين الحديث والمعاصر، متوخيا الإيجاز والبساطة، ذلك مما يسمح به المقام، ولكن قبل ذلك نبدأ بآراء وشهادات كردلوجيين في الحقل المعني.
 
أولا_آراء وشهادات أجنبية :
يؤكد مينورسكي( 1966_1877) المستشرق الروسي، والمتخصص في الدراسات الفارسية والكوردية، أن الكورد هم أكثر تسامحا من بين جميع الشعوب الإسلامية الأخرى المجاورة لهم( العرب والفرس والترك). تجاه المرأة، ويعني بالتسامح هنا حرية التعبير، والرأي، وإعطاء المرأة المكانة التي تستحق. ما من شك أن شهادة مينورسكي، ذوو أهمية مميزة،ولها وقع خاص، كون صاحبهاعلاوة على مكانته العلمية، وفكره الموسوعي، يتميز أيضا بموضوعيته وحصافته وذلك إستنادا وتأسيسا على شهادات ممن عرفوه وكتبوا عنه.
_وكتب باسيلي نيكيتين :وهو القنصل الروسي في إيران “أن النساء الكورديات أيا كان طبقتهن، ومهما بلغن من العمر، يجدن الفروسية، ويتحدين الرجال في ذلك، ولايخشين تسلق الجبال الوعرة.
 
_أما ميجر سون الحاكم الإنكليزي لمدينة السليمانية، في عشرينيات القرن الماضي، فقد ذكر في كتابه “رحلة متنكر إلى بلاد النهرين وكوردستان”. أن نساء الكورد أشجع النساء في إستخدام البنادق…. وقد عرفن ببسالتهن في القتال على مر التاريخ.
 
_إلا أن مارتن فان برونسين، لايتردد في القول : بأن المجتمع الكوردي ذكوري بإمتياز، ولطالما كان كذلك على مر التاريخ، لكنه يضيف : أن التاريخ الكوردي عرف نماذج من النساء، وصلن إلى أعلى المراتب السياسية، والعسكرية أحيانا. وهذا قلما نحد نظيرا له بين جيرانهم من( العرب والفرس والترك).
 
_من جهته يذكر المؤرخ والرحالة التركي الشهير أوليا جلبي.( 1684_1611)أن حكم النساء كان شائعا في مناطق كوردستان، فقد وجد في السجلات العثمانية المعروفة باسم( قانون نامه). ما يشير إلى تلك الحقيقة.و أبدى  إستغرابه ودهشته عندما وجد أن( قانون نامه). شهرزور يتضمن بنودا تجيز للإبنة  أن تتولى الخلافة بعد أبيها. في السناجق الكوردية ذات الحكم الذاتي.
مما يثبت ويؤكد، أن حكم النساء إجراء مقبول لدى الكورد، والرجل يتقبل زعامتها دون عقد، ولا يعتبرذلك انتقاصا من مكانته ونيلا من شخصيته.
 
 ثانيا _نماذج من مشاهير النساء في التاريخ الكوردي : 
١_ أول رحالة أوروبي ذكر إمرأة كوردية، هو الإيطالي بيترو دي لا فيل. ففي حوالي العام( 1620). اضطر دي لافيل، وزوجته إلى الهرب من بغداد إلى فارس، وعبر منطقة قصر شيرين في شرق كوردستان. حيث استقبلته حاكمة كوردية بحفاوة بالغة، لكنه لا يذكر عنها سوى لقبها خانم سلطان.
٢_الأميرة خانزاد :
وهي ابنة حسن بك، وزوجة سليمان شكلي بك أمير سوران. عاشت في القرن السابع عشر الميلادي، زمن السلطان سليم الرابع. تميزت بذكائها وحكمتها. استدعى الحاكم العثماني في بغداد زوجها…. لكنه أسر ولم يعد حيا إلى سوران.
فتسلمت خانزاد حكم الإمارة بعده، وأدارت شؤونها بامتياز، ومنعت العثمانيين من السيطرة على إمارتها، وقد كانت تتنكر بزي الرجال لاستطلاع شؤون الناس. كما كانت تقود الجيوش وهي ملثمة وفي المقدمة، وبلباس أسود تتماثل مع البطل الإيراني الأسطوري “سام بن ناريمان”.
بنت المدارس والجسور، وشيدت القلاع ومن أشهرها قلعتها خان زاد. في مدينة حرير على طريق أربيل، شقلاوة، حيث لا زالت القلعة محتفظة بمظهرها القديم.
 
٣_عادلة خانم :
وهي زوجة رئيس عشيرة الجاف، عثمان بك قائم مقام شهرزور. حكمت العشيرة لمدة( ١٥) عاما. بعد وفاة زوجها من العام (1924_1909).
وقد كتب عنها اثنان من الكتاب الكبار.( ميجر سون ،وإدموندس). تعود جذورها لأمراء أردلان. نقلت عاصمتها من سنندج إلى حلبجة، حيث قامت ببناء قصرين جميلين وحدائق على الطراز الفارسي. وسوقا تجارية، وغير ذلك.
زارها ميجر سون في رحلة محفوفة بالمخاطر. بدأها برا من القسطنطينية، وقاصدا حلبجة. جذبته إليها شهرة عادلة خان التي طافت الآفاق.
تعرف عليها إدموندس بعد عقد من الزمن، ولم يشأ إلا أن يصفها بملكة شهرزور الغير متوجة.
 
٤_حبسة خان :
    وهي من العائلة البرزنجية المعروفة بوطنيتها.
عرفت بثقافتها العالية، ومساندتها لنساء كوردستان..
تحول منزلها إلى مركز اجتماعي، ومدرسة لتعليم النساء وتوعيتهن. أسست أول جمعية نسوية عام( 1930).باسم جمعية نساء الكورد. فكانت أول جمعية نسوية في الشرق الأوسط.
 
٥_روشن بدرخان :
    وهي من العائلة البدرخانية الغنية عن التعريف. كانت صاحبة دور ثقافي هام ومميز. على المستوى الكوردستاني.
كانت تجيد خمس لغات، وتقرأ، وتكتب باللغة الكوردية باستخدام الأحرف اللاتينية. كما أنها من مؤسسي جمعية إحياء الثقافة الكوردية في دمشق عام.( 1954). وجمعية “العلم والدعم الكوردي “
في حلب عام( 1956).
 
٦_ليلى زانا :
زوجة السياسي المعروف مهدي زانا. لكن شهرتها تجاوزت شهرة زوجها. انتخبت نائبة في برلمان النظام التركي المتطرف، وحكم عليها بالسجن( 15)
عاما لمجرد أدائها القسم بلغتها الأم . إكتسبت شهرة عالمية، كما منحت جائزة زخاروف لحقوق الإنسان.
 
علاوة على ما ذكرنا ثمة العديد من الأسماء اللامعة والشهيرة في مختلف المجالات… السياسية، والأدبية والفنون لا يتسع المجال لذكرهن. ومنهن ليلى قاسم شهيدة النضال السياسي، التي أعدمت عام (1974).
وهي تنشد النشيد الوطني الكوردي.
ونذكر أيضا ياشار خانم زوجة إحسان نوري باشا، ومينا خانم زوجة الشهيد قاضي محمد، وبسة خانم زوجة الشهيد سيد رضا التي أبت أن تسلم نفسها لجلاوزة الترك، لابل وقاتلتهم في جبال آكري حتى نالت شرف الشهادة والخلود.
 
خاتمة ونقد :
من الملفت والملاحظ، أن جل الشخصيات اللواتي ذكرنا أسماءهن، ينتمين إلى الوسط الأرستقراطي، وقلما نجد أسماء لامعة من الوسط الإجتماعي العامي، وهذه القاعدة لم تعد تنطبق على الوضعية المعاصرة، بعد انتشار التعليم، وتكافؤ الفرص أمام كل فئات المجتمع وشرائحه.
مما يعني أنه لولا تلك المكانة الإجتماعية ، وذلك الوسط النبيل، لما اشتهرن وبلغن ما بلغنه.
لكن ثمة حقيقة جلية، وهي أن جميع النسوة الحاكمات، عرفن بأسمائهن، لا بأسماء أزواجهن، لا بل والعكس كان دارجا أحيانا، فيشار الى الزوج بأنه زوج فلانة، وهناك عائلات تعرف إلى الآن بأسماء النساء. ولا يسبب هذا حرجا، ولا يترك حساسية لدى الرجال الكورد.
بعض الكتاب الكورد، يستنتجون من وجود زعيمات كورد قبلية تاريخية مؤشرا على مساواتها بالرجل… ويذهب آخرون من القوميين، إلى أن المرأة الكوردية  فقدت مكانتها، بسبب سيطرة الإسلام، وكذلك الإمبراطورتين الفارسية والعثمانية على المجتمع الكوردستاني، ومخلفاتهم من الآثار المدمرة والمقيتة.
وردا على أولئك الذين يبالغون في علو مكانة المرأة الكوردية، ومساواتها بالرجل تقول الكاتبة الكوردية فاطمة كايهان :بأن المرأة الكوردية، تحترم كأم، وزوجة، لا كشخص له مكانته من حيث أنه شخص يستمد تلك المكانة من كينونته الخاصة المتفردة.
في كل الأحوال، ثمة إجماع، أو شبه ذلك على أن المرأة الكوردية تتمتع بمكانة أكبر،وحظوة أعمق مما تتمتع به مثيلاتها، من الشعوب الإسلامية المجاورة. من حيث حرية التنقل والحركة، فلا وجود للحجاب والبرقع في المجتمع الكوردي.
وبالرغم من قناعتي بأن المرأة الكوردية، تحظى بمقام جيد في مجتمعها. لكن يجب أن نكون حذرين في أحكامنا، وألا نقفز بعيدا في رؤانا.
وأرى أن التعليم والعمل كفيلان بإرتقاء الوعي الإجتماعي والتحرري والفكري لدى كل من المرأة والرجل على السواء، وتحرر المجتمع الكوردي من الركام البالي الذي يعيق مساواتها الإنسانية بالرجل،
أن سمو مكانة المرأة وتحررها يتطلب رجلا واعيا وامرأة واعية. 
ما من شك أن التاريخ يشهد على عراقة وأصالة الأمة الكوردية، وعمق وجوده التاريخي، لآلاف السنين قبل الميلاد في منطقة ميزوبوتاميا، وجبال زاغروس.
إن عراقة الوجود الكوردي، يشهد عليه قيام امبراطوريات عظمى، تركت بصماتها الأبدية، على صفحات التاريخ، والتي لا يمكن لأي جاحد ومتنكر طمسها أو محاولة تغييرها وتزويرها.
هذه العراقة، منحت الأمة الكردية، ثراء ثقافيا، وغنى فلسفيا دينيا، انعكست تجلياتها في شخصية المرأة الكوردية، الى جانب معاناتها المريرة، جراء ما تعرضت له المناطق الكوردية من حروب مدمرة، على امتداد التاريخ، حيث كانت كوردستان ميدان حروب الغزاة الطامعين.
كل ذلك ترك آثارا سيكولوجية، وسوسيولوجية، لاتمحى آثارها وتطلب ذلك منها، مواجهة كل الظروف العصيبة وتحمل نتائجها، مما جعل منها رقما صعبا في معادلة الشرق الأوسط. 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…