إسماعيل رسول
الذي يتجرأ السباحة في بحرٍ صعب وعذب عليه السباحة في روايات وكتابات سليم بركات، ذاك الحطاب الكردي الحاذق الذي ينحت في غابة عربية كثيفة، رغم إنني لم اقرأ كل كتبه ورواياته إلا إنني فضلت البحث عن مكنونات ذاته المشتملة على روح كلها أمواج، قوية في تركيبتها، مزهوة في أصالتها..
كل يريد القراءة على طريقته الخاصة، أما طريقتي في السباحة : هي إنني اجمع رغوة أفكاره الحاضرة واختزل جمله المولودة لأجففها على أوراقي ..
انغمست في محيط بركات بلا استعداد قوي، فشعرت بأن تلاطم أمواجه ستغرقني بلا رحمة حاولت جاهداً أن استعيد قواي لأقرأ أفكاره على مهلٍ، قرأت أكثر الجمل والأفكار لأكثر من مرة، حاولت أن أجسَّ نبض الأفكار قبل أن ألمس نوع التيار الذي قد يجرفني..
بزغت الفكرة في مخيلتي لأكتب بهذه الطريقة عندما كنت أقرأ له رواية(عبور البشروش) لم أستطع ترجمة هذه الأحاسيس عن الرواية إلا بعد قطع أمواجها عدة مرات جيئة وذهاباً، تلك الأحاسيس التي قد تبدو بدائية في بساطتها إذا ما قرنت بلغة بركات، رغم إنني قرأت له الكثير..
قد ألجأ عنوة إلى ذكر بعض أحداثها بطريقة الخطف من الخلف، ليس تحبباً وشطارة مني للبحث عن جرائم التي ترتكب بحق الكلمة، إنما لصعوبة قراءة أفكاره وحتى لا يشملني فقدان الذاكرة في وديان اليقين ..
عندما أقرأ له أشعر بأنه اختصر جميع جهوده في هذه الرواية أو تلك..لأنه وعلى خطأ حدسنا أكبر بكثير مما نستطيع الإلمام بلغته الذي قام ويقوم كعادته بتفخيخها، ولكن ليس على الطريقة الإرهابية التي تفخخ الآليات وتفجرها عن بعد أو من يريد سلك طريق الجنة بسهولة العاشق للقاء حبيبته بعد فراق طويل، تلك الانفجارات التي تدمر الأخضر واليابس والحي والجامد في كل لحظة من لحظات الأثير, مخلفة الضحايا والجرحى وتدمير بنية الفكر و المال…ألخ
إلا أن تفجير بركات للغة قد فتح مجالاً رحباً في اللغة العربية رغم إنها ليست لغته الأم، فتح كوة خضراء في سماء العربية عكس فتحة الأوزون الضارة..أحيا في هذه اللغة مفردات وكلمات ومعاني جديدة، فعدم التجديد في بنية أي لغة تعرضها للخطر، وذلك دون اللجوء إلى استخدام المفردات السابيرية في الجمل، أو حتى (الشقشماهية) القديمة الاسم الأعجمي الذي يطلق على المؤلفات المكتوبة باللغات اليونانية والسريانية والفارسية والعربية… اجتاز مجازات الكون الأربعة ” الفراغ، السكون، السديم، الثقل” ويبقى لديه معجزة الكون الغامض..
رواية الفلكيون في ثلاثاء الموت “عبور البشروش ” رواية يأخذك شخوصها إلى حيث الفضاء الفضفاض في المعاني والتفاصيل يجعلك تتوقف باندهاش من عبقرية إبطالها ولغتهم العالية المتقمصة في شخوص الحياة حتى يبدو لي الكاتب نفسه بأنه بطل الرواية بامتياز..
يصف لك الأحاسيس “إذا احتجب الألم بدأ الذهول، وأن اليأس هداية إلى جلال كبير أهمله الوصف الذي أوقفه الإنسان ووحيه على ترهات الأمل والعبودية”
منتقلاً بين تلافيف المخ وتعرجاته المخيفة حيث نراه يقيس العقل” بقياسات الأحابيل التي تعزز البقاء رغم أن الدماغ مغسول ضد اليأس”والموت والحياة ثنائية مجيدة لا تترك أفكار شخوصها رغم التناسي الواضح في بعض أوقات يقينهم ” الموت مؤتمن على تدابير الحياة والحياة مؤتمن على ما يتدبره الموت نفسه” و”للموت ضربة واحدة وللحياة ضربات لا تحصى أما الزمن فهو حساب أعمى وأسباب اختزال الحياة إلى زوايا معلومة يدرب الكائن قياساتها على الموت”
ونراه يصل إلى زبدة الموت بوصفه الغير المعلوم وبتشبيه بليغ “الموت سمسار لبق بدماثته واطراءاته التي لا توصف نستأجر منه غرفة اسمها الحياة، فعلينا أن نسعى إلى صداقة هذا السمسار ليخفف علينا دفع الآجار “
وعندما نقرأ له (لبركات) يجعلنا ندفع أجرة الانتباه باهظاً وإلا خسرنا أفكاره وأفكارنا التي نحاول تجسيدها قدر المستطاع في محاكاة الحياة ..
أحياناً يعجز العين والتفكير عن متابعة الحدث الذي يصنعه، فصيرورة المتابعة والتحديد للأفكار جعلتا لدى القارئ لغزاً محيراً. “فالتأسيس الكبير” للمارديني كتاب محفوظ يأتي ذكره في متن الرواية بإسهاب ولكن ليس ككل المحفوظات.. أبطالها، أبراجها، أقسامها، هندستها، نباتاتها، أسماء الحيوانات والحشرات.. أسماء النباتات المذكورة تجعلنا نسمع تركيبة جديدة مبتكرة لبعض أنواعها وكأنها أسماء مريخية: شعر الجن، لحية الحمار، البقلة الحمقاء، ورق الماميران الصيني، حشيشة العقرب، مسواك القرد، نسيان الرعد، خصر الثعلب، بقلة عائشة ..الخ
هذا التأسيس الكبير يجعل القارئ متحفظاً وراء الغياب في مجرة درب التبان، فعن الهندسة وأخواتها يعبر بأن “الملوك اتخذوا من الدائرة فلسفة للإفتاء بالتوريث، واتخذتها بطانة الملوك صناعة في السياسة، والصناعة هي ضجر للحقيقة.” ولكن يبقى أبداً القوس في مفهوم الرواية محنة الهندسة على الإطلاق .. فاعتبره قائلا عن القوس بأنه: ” قوس ضال لا عدت ولا عاد القوس ” وأيضاً شبه البعث بالقوس المجتزأ من دائرة الحيرة .
نراه أحياناً يرش سخرية خفيفة على إناء كلماته في مكنون عظيم، فيصف الكرد مخاطباً: أنتم أيها الأكراد عباقرة بجهلكم، فلماذا تهينون هذه الهبة الإلهية، ويقارن الطائر الكردي (الحجل) الذي يصفه بأنه له صفات الكردي، حذر جداً لكنه سهل الاستدراج” ..
للشعور الإنساني نكهة خاصة حيث لا يكتمل هذا الشعور إلا عند وضعه على المحك “فالسجن بيعة حسب رأيه يكتمل بها إعلان الثأر الإنساني، ولا ينضج قط من لم يدخل السجن” ..
المرأة..تلك الأنثى النورانية لها حضور مميز من خلال بعض شخصياتها أبرزها “جين” المرأة البريطانية المهتمة بخرائط الكون، يصفها بدقة جسدها، شعرها، لباسها، أنفاسها، لهاثها يصف لهاثها بأنه يكفي لإنضاج حقل من البرتقال، ويذهب إلى أبعد من ذلك ليغرق في تفاصيل أنثوية بالغة في الدقة، يكره الرجل “العانات المرخية على عواهنها فتضيع معالم الكون ” ..
تفاصيل إضافية في التأسيس الكبير للمارديني تبين كيفية بناء أعمدة تحت نهر الدجلة في بلدة عين ديوار، لبناء أقواس والقوس هو محنة الهندسة، والجسر الروماني أو المارديني “والخمس غير المحسوب في قوس القنطرة الرابعة يهدد الجسر ” يشرحها المهندس الكردي بطل الرواية في علم الزوايا القوسية..
ليعيدنا بالذاكرة في كل مرة الطلقتين اللتين أطلقهما هو من بارودة جانو على الضيف في قبو دار المهندسين ليكتشف أخيرا أو يقدم له الرجل البشوش غلاف طلقة واحدة على كف وكتاب “التأسيس الكبير” على الأخرى..
يعرفك على مقهى ابوستولي وأنت جالس في أقصى التلاشي، يعرفك على الغبار، الإسفلت، شجرة الخروب الكبيرة، يعرفك على الرياح وهي همس في السهل وجدال في الهضاب وثرثرة في الجبل، وبما انه أي بطل الرواية شكاك كثيراً يحاول أن يخفف عن نفسه ذلك الألم الكبير بالكلام المرفه ليلتمس الأبعد في انتظاره على هيئة اليقين، واليقين أبدا معجزة الغامض…
يحاول أن يقبض على قبضة القلب في الوقت الضائع، لكن هيهات فالزمن سارق لا يقبض عليه أبداً، و”القلب تدوين مضطرب يصححه السر” …
يختزل بركات معانييه ويجسدها في روابي الحياة، ويخبئ الحياة في زوايا معلومة في هندسته الفراغية، حيث يدرب الكائن قياساتها على الموت..
وهذه هي إحدى صور القيامة حاولت التقاطها من أحدى زواياها المعلومة، فجدة جانو إينيين الذي هو مهندس المتاهات، ماتت وهي تخبئ القيامة في كيس من القنب حتى لا يهتدي جده إلى سبيل للاستيقاظ من الموت”
لبركات ثمرات عذراء، وريحه عانسة، لكنه يحسن الانتظار حتى يتبلغ الورد المحموم رسالته من النحل لتكتمل دورة الحياة من جديد ..والأمكنة فهي كالنساء ذاكرتها الأبدية هي الأثير وحده، فالألق الصامت والأرق الواعد يشبهان تاريخ الكرد الأبدي الذي يكتب بأقلام يتفجر فيه الصدى إلى دوائر تعتقل الصوت وتنفيه…
هكذا يثير سليم بركات الغبار علينا لنجد أنفسنا ضائعين بين الألق والأرق ولا نستطيع كشفه وكشف أنفسنا حتى ننفض عن ذواتنا المحمومة عدة مرات، فالنهايات العظيمة لا تتوج إلا بأفكار حبلى تنشر على حبل الآهات ….
ويبقى أن أذكر أو أتذكر معلومات عن الرواية كي تكمل نضجها في بال القارئ أو من لم يحلفه الحظ في قراءتها.. كتاب يقع في مئتين وخمسين صفحة وبكتابة كثيفة كغابات الأمازون، مقطعة إلى أربعة فصول غير معلومة في تدوين التاريخ، قمت بفصلها حسب قراءتي وهي: ا- تصاميم المتاهة اا- الإيقونات ااا-رمال مكدونيتسا Vا – توثيق الأهوال…الرواية صادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 1994..
*****
ديرك- 1-8-2014