لأصحاب النفس الطويل فقط

 أفين إبراهيم
 
أية وحشة هذه
ظل الورود التي زرعتها الخريف الماضي أصبح طويلا
يلقي بحزنه على مدخل البيت
يتمايل طوال الليل ولا يمسح الشجن الجالس فوق قلبي والعتبة
من سيغلق الباب على أصابع الفراغ للمرة الأخيرة
صخور عملاقة عالقة في الروح وأنا لم أعد قادرة على المشي سوى في الوحدة
أية وحشة هذه الليل ساحر
والمسافة بين جرحنا والسكاكين دوماً غامضة
تختلط فيها الأجنحة بالمصلوبين
سلفي أمام المقبرة والكل يبتسم
ترى إلى أين تذهب هذه الابتسامات بعد انتهاء الصورة
أية وحشة هذه
ها هي مجدداً تطفو فوق الماء
إن هطل المطر خفيفا تبللت
وإن اشتد امتلئ عنقها بالماء
مع ذلك لا أحد يعلم شيئا عن عذاب البحر
عن الكائنات التي تنعم بالسكينة في جوفه سواء كانت طافية
أو غريقة تحت الموج
قُفاز الثعلب
يا أيتها النبتة السحرية
من سماك بأجراس الرجل الميت؟
منحك عامين لتحبي وتكرهي كل الرجال
كيف استطاع الرب أن يطعن أنبياءه ليمنحك لونك الأرجواني؟
أن يقطع أعناق الملائكة ليصنع لك أجراساً تتدلى على حافة الطرقات الحجرية
من علمك أن ليس الكتابة فقط ما تشي بأسرارنا؟
أن الشقوق
الشقوق في الروح أيضاً تفعل
من دلك على قلبي الليلة لتسرقيه؟
ها أنت تهبطين ثانية بلا وعي من نومك العابر نحو رقادك الأبدي
أخبريني إذاَ
اذ لم يكن للحياة جدوى كيف لي أن أعثر على جدو الموت
طافية أنا في الماء
متحدة بالوسط الذي يحيط بي
مستسلمة للانسياب مع النهر دون مقاومة
ما من ألم يضاهي ألم جريان النهر يا زهرتي الجميلة
أضع يدي على جذع الشجرة
أفكر ترى هل تتذكر الأشجار وجوه من مروا صامتين
أم إنها مثلنا البشر تحتاج الى صوت ووجه لتتذكر
كنت على خطأ حين اعتقدت أنى أستطيع الاحتفاظ بهذا العمق الغامض حتى النهاية
ها أنا أعبر الليل
اُلقي بعنقي لحافة السكاكين ولا أصل المدى
آآآه يا زهرتي
أية دهشة هذه
لم تكوني أنتِ تحديداً من يريد قتلي
لم يكن هو
مع ذلك سلمته الحياة أحجارها الملونة
ليبدأ ببناء الأسوار حولي كي يحميني كما أود أنا أن أحميك من المطر
من الحماقة حقا تحمل كل هذا الألم من أجل شخص كثير النسيان
مع ذلك اُعطي فرصة للقلب كي يتذكر أن جمالنا نحن البشر مثلكم أنتم الزهور
لا يظهر سوى في الخيال
سوى في لحظة نشكر من خلالها الظلال التي تسمح لنا بالتمايل طويلا دون أن تنسى أشكالنا الحقيقية
مضطرب هذا المساء
عنقك الطويل ممتلئ بالمطر
المياه أيضا تضطرب عندما تشعر بوجودها فجأة بين أيدينا المرتجفة
تتساءل بدهشة
هل تصلح هذه الكفوف للحب
تجيبها الأيام
بل تصلح أكثر للغرق والنسيان
أكملي معي قبل إن تموتي دورتي حول البشر
لنكتشف مساحتهم الصغيرة
مدى الأحجار التي تحيط بهم
الأحزان التي ارتطمت بجدران قلوبهم
أحدثت كل هذا التعرجات
أحدثت مشاعر فرح وألم مختلطة
نجدها في بداية كل قصة حب
ولا نجد لها تفسير أو سبب
قفاز الثعلب
يا أيتها النبتة السحرية
يا كل أجراس الرجال الميتين
لا تزهر الأشجار دفعة واحدة
لكنها الحياة
تجبرني دوما على الركض عكس الاتجاه
ماذا سيحدث لو توقفت فجأة لأتأمل صوت المطر؟
هل حقا سيدهسني الوقت ويمضي العمر دون أن أشعر
هل حقا سأتساقط مثلك على سطح بحيرة بعيدة
أموت مطمئنة دون أن يشعر بي أحد
أنا لا أركض
لم أركض
أنا فقط أواصل العيش عاجزة عن الموت برقة
كالطحالب أرتعش
أنتظر لمسة حنونة
وهذا أشد
اشد إيلاما من الموت
يقولون أن الأزهار مثلك لا تفقد بتلاتها عندما تسقط على الأرض
أنها تنفصل عن الأغصان مكتملة
تموت فقط في برك الماء والأنهار
عندما تمكث لوقت طويل وتفقد لونها
أنها تعود للحياة مجدد في هيئة مختلفة عندما يسقي النهر الأرض والبشر
افكر أن أقتلع شجرة الليمون في حديقتي
شجرتي التي تبدو دوما داكنة حتى تتعرض لبقعة ضوء فتلمع
على الرغم أنه لا يشع شيء فيها سوى الأبد
هناك أشجار ترتفع نحو السماء تجبرك على نسيان نفسك والنظر إلى الأعلى لتلامس حدفها الأخير
هناك أيضاً أشجار أخرى تميل على البحيرة بحنية مفرطة
تجعلك تثني ظهرك لترى وجهها المنعكس في الماء
يا زهرتي الشقية
كل الذين سلكوا الطريق أولاً قالوا عنها قاسية
إن كنت حقاً تودين الانتحار غرقاً
لا تنسى أن تأخذ معك مرآة صغيرة
أن تخبئها في عنقك
فهناك أحجار كثيرة تسقط من قلوبنا عندما تميل جراح الحب
ليهتز النهر ويقلق سكينة الأزهار وضوء القمر
يا أيتها النبتة السحرية
يا كل أجراس الرجال الميتين
وأنت هناك في مرقدك الأخير
حاذري أن تحدقي بالأخرين
يكفي أن تري انعكاساتهم
وتدعي مثلي الشمس تتسلل للمرة الأخيرة بين الأغصان
لتضيء الأحجار العالقة في الروح
عندها سنعود
سنعود للحياة مجدد في هيئة أخرى
عندما يسقي النهر الأرض والبشر
فلا من أحد يعلم معنى أن تبقى الزهور ذابلة في اللوحة عشرين عاماً
سوى النهر
سواي أنا وأنت
والجدار الذي يتقاسم عنقي وعنقك مع
مع الليل والوحدة
يا إلهي
أية
أية وحشة هذه
يا كل أجراس الرجال الميتين
يا زهرتي
يا كل روحي في لوحة متشققة.
….
أفين إبراهيم
الولايات المتحدة الأمريكية
14/6/2020

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماهين شيخاني

ولد الكاتب والصحفي والمناضل الكوردي موسى عنتر، المعروف بلقب “آبي موسى” (Apê Musa)، عام 1918 في قرية “ستليلي” الواقعة قرب الحدود السورية، والتابعة لمدينة نصيبين في شمال كوردستان. ترعرع يتيماً بعد أن فقد والده في صغره، فحمل في قلبه وجع الفقد مبكراً، تماماً كما حمل لاحقاً وجع أمّته.

بدأ دراسته في مدارس ماردين، ثم انتقل…

أسدل يوم أمس عن مسيرتي في مجلة “شرمولا” الأدبية الثقافية كمدير ورئيس للتحرير منذ تأسيسها في أيلول 2018، لتبدأ مسيرة جديدة وسط تغييرات وأحداث كبرى في كُردستان وسوريا وعموم منطقة الشرق الأوسط.

إن التغييرات الجارية تستدعي فتح آفاق جديدة في خوض غمار العمل الفكري والأدبي والإعلامي، وهي مهمة استثنائية وشاقة بكل الأحوال.

 

دلشاد مراد

قامشلو- سوريا

19 أيلول 2025م

الشيخ نابو

في زمن تتكاثر فيه المؤتمرات وترفع فيه الشعارات البراقة، بات لزاما علينا أن ندقق في النوايا قبل أن نصفق للنتائج.

ما جرى في مؤتمر هانوفر لا يمكن اعتباره حدثاً عابراً أو مجرد تجمع للنقاش، بل هو محاولة منظمة لإعادة صياغة الهوية الإيزيدية وفق أجندات حزبية وسياسية، تُخفي تحت عباءة “الحوار” مشاريع تحريف وتفكيك.

نحن لا نرفض…

نجاح هيفو

تاريخ المرأة الكوردية زاخر بالمآثر والمواقف المشرفة. فمنذ القدم، لم تكن المرأة الكوردية مجرّد تابع، بل كانت شريكة في بناء المجتمع، وحارسة للقيم، ومضرب مثل في الشجاعة والكرم. عُرفت بقدرتها على استقبال الضيوف بوجه مبتسم ويد كريمة، وبحضورها الفعّال في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية. لقد جسّدت المرأة الكوردية معنى الحرية، فلم تتوانَ يومًا عن…