ردّاً على هذه العلاقة الاختزالية بين النَّصِّ والعالم تأسست «القراءة النَّصية»، وأخذت تنمو وتتورّم لائذةً بالنص وحده، النَّص المكتفي ببنيته، المبتهج باستقلاله في عراء العزلة عن السياقات السوسيو الثقافية والسياسية، العشيق المدلل للقراءة المحايثة التي ما فتئت ترفع العوائق والسواتر الحديدية بين النص والعالم ـ الثقافة؛ لتستحوذ عليه، وتلتذ ببريق البنى المجرَّدة ولمعانها في الخطابات المقروءة؛ ليغدو النصُّ ـ الخطابُ هيكلاً عظمياً في متحف «التصحُّر البنيوي» يتيماً، منغلقاً ومنقطعاً عن حاضنه العالم ــــ الثقافة.
2ـ القراءة الثقافية وانفتاح الحَدِّ النَّصيِّ:
هكذا إزاء قراءة اختزالية تستعبد النصَّ لصالح انعكاس كاذبٍ وساذجٍ، وأخرى «نصية» تبتهج بجمال النَّص، النَّص في نقائه، في ذاته ولذاته؛ شرعت قراءة مختلفة ومغايرة بالحضور في المشهد الثقافي العالمي والعربي، قراءة تعيد النَّصَّ إلى العالم والعالمَ إلى النِّصِّ؛ لتُعرَفَ بالقراءة الثقافية. ولا شكَّ أن القراءة الثقافية تمثِّل منعطفاً جديداً في سيرورة القراءة النقدية وصيرورتها، إذ يتحدَّد هذا التحوّل في التعامل مع الممارسات الخطابية الدالة من منطلق تجذُّر النّصِّ في العالم، فالنَّصُّ ليس إلا تحويلاً مشفّراً للعالم بظواهره وحيثياته، ومن هنا يبطل القول بانقطاعه عن جذوره الثقافية؛ لكونه واقعة سوسيو ـ ثقافية، يرتبط في حضوره بحضور متجذّر في التاريخ للمنتج والمتلق والثقافة، مخترَقاً بالعالم ظروفاً ومجتمعاً ومكاناً وثقافةً، يكتب إدوارد سعيد بهذا الصدد:« إنَّ النصَّ دائماً موجود في العالم وبالتالي عالمي الوجود. أكان النصُّ محفوظاً أو مهملاً لفترة، موضوعاً على أحد رفوف مكتبة أم لا، معتبراً خطراً أم لا: كل هذه الأمور تمسُّ وجود النَّصِّ في العالم، الأمر الذي يفوق تعقيده مجرد عملية القراءة الفردية. كل هذه الاعتبارات تنسحب بدون شكٍّ على النقاد، من حيث قدرتهم كقراء وككتّاب موجودين في العالم»([3])، وبناءً على ذلك من الصعوبة بمكان الإطاحة بجملة الوشائج التي بموجبها يحتضنُ كلٌّ من النَّص والعالم أحدهما الآخر، وهذا الاحتضان هو الذي يقودنا إلى القول: إن الحدث النَّصي هو تنصيص للعالم، تحويلٌ له في علاماتٍ، وفي نصيةٍ textual تخترق ظروف إنتاجه الزمكانية والثقافية، كما أن هذه النصية التي يتمتع بها النَّصُّ هي التي تتيح قراءته وتأويله وفق صور مختلفة للعالم والثقافة.
وهكذا لا يني النُّصُّ ـ الخطاب يسكن العالم، فهو ليس باستنساخ له ولامبتور الصلة به، بل هو متورّط فيه يتشكّل به ويسهم في تشكيله، ومن هنا القول بعدم حيادية هذا الخطاب أو بالأحرى عدم براءته المزعومة، ومن ثم فالخطاب يتجاوز كونه واقعةً جماليةً إلى كونه حدثاً ثقافياً يُخترَق بمسكوت هذه الثقافة أو تلك أو أنه رهين رؤى القوى الفاعلة فيها، الحاضرة والمضمرة، وبالتالي فإنَّ الاقتصار على كشف البعد الجمالي فحسب يشكِّل خديعةً فاضحةً تستغفل البعد التاريخي للممارسات الخطابية، أي استغفال مضمرات الثقافة ومسكوتاتها أو اللاوعي الجمعي في إنتاج الحطاب، ومن هنا خطورة الانعطافة التي أحدثتها القراءة الثقافية في مدار مقاربات الخطاب، وذلك باستعادة التواصل بين الممارسات الدالة(النصوص) والثقافة.
إن «القراءة الثقافية» بمختلف ممارساتها واستراتيجياتها في المقاربة والاستنطاق تمكنت من تحطيم الانغلاق النصي (الممارسات النقدية لعبد الله الغذامي ونادر كاظم، نور الدين أفاية وعبدالله إبراهيم، محمد بو عزة …إلخ خير شاهد على ذلك)؛ ليصبح النَّص ـ الخطاب مشرَّع الأبواب على العالم، العالم بصفته جملة الأبعاد الفيزيائية والقيمية والمؤسساتية والخطابية أي الفضاء السوسيو ـ الثقافي الذي يحتض انبثاق الخطاب، وبالتالي من البداهة بمكان أن تعمل الممارسات الخطابية (النُّصوص) على امتصاص تأثيرات القوى الفاعلة في هذا الفضاء إظهاراً وإضماراً؛ ولهذا تغدو هذه الممارسات الخطابية مراوغة ومخاتلة ومفخخة بالتوترات والصراعات والتناقضات، وعليه تتحدّد وظيفة القراءة الثقافية بكونها نقداً مشاكساً، كما يكتب نادر كاظم، « لمفاهيم براءة الأشياء وبداهة الحس المشترك، بل هو محاولة للكشف عن الأصل غير البريء في النُّصوص والخطابات والممارسات والأشياء، وإدراك أن ما هو مألوف وطبيعي ليس أكثر من تشييد تاريخي وثقافي وتطبيع تقوم به الأجهزة المادية والأيديولوجية في المجتمع»([4])؛ ولذلك فإن القراءة الثقافة مدعاة إلى الإعلان عن جثة «القراءة النصية» الحريصة على تجفيف التواصل الرطب بين النص والعالم وطرح استراتيجية بديلة في المقاربة من حيث هي «القراءة التي تفسر النص في ضوء الثقافة التي أنتجته، وهي قراءة تكشف عن منطق الفكر داخل النَّص، بدلاً من ادعاءات المؤلِّف»([5])، بل إنها تسعى إلى الكشف عن المنطق الخفي للفكر الجمعي في تجاويف الخطاب المقروء، وكيف أن الأنساق المفاهيمية لهذا الوعي الجمعي تفتك بالممارسات الدالة للمنتج من حيث يدرك هو ذلك أم لا. وومن هنا؛ فإن «الثقافة» تمثِّل العلبة السوداء في ممارسات القراءة الثقافية نظراً للتفاعل الحاد بين الممارسات الخطابية على مختلف أنواعها والمكونات المشكِّلة للثقافة التي تلتئم في كلٍّ «يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والعادات وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع»([6])، وهذاما يحوِّل الثقافة إلى متاهةٍ عويصةٍ من المدلولات والرموز التي تفترس الكائن الإنساني؛ فتبرز طرقها المتشعبة في ممارساته الدَّالة؛ ولأن «الثقافة» إرث وميراث؛ فإنها تغدو النظام السيميائي والدلالي والرمزي الذي يصوغ البشر بموجبه رؤيتهم الكونية وتوجيه أفعالهم([7])، ولهذا يُثْخِنُ هذا النظام المركَّبُّ الممارساتِ الدالة (الُّنصوص والطقوس والشعائر والسلوك) بمواقف محددة من الذات والآخر حيث تنطوي هذه المواقف/ الرؤى على آثار الثقافة؛ ولذلك تتجه القراءة الثقافية في مقاربتها للممارسات الخطابية إلى فحص هذه «الآثار» فيها وتفككها «حيث تُوضَعُ مضمرات النسق الثقافي، والمسلمات الأيديولوجية والمعتقدات، موضع المساءلة، والمراجعة النقدية»([8])، ومن هنا يتبدّى البون الشاسع بين القراءة الثقافية ونظيرتها القراءة النصية، وذلك حينما تحاول الأولى الكشف عن فعل المكوِّن الثقافي في بنية الخطاب المُنتَج، إنها تلامس إلى مسكوت الخطاب؛ لتمظهر كيفية تحكُّم المقولات الثقافية في الخطاب نسجاً وترسيخ رؤية محددة وإقصاء الرؤى الأخرى، وبمعنى آخر؛ فإن المقولات الثقافية تحدِّد للخطاب سياسةً/سياساتٍ معينةً تتجه إليها القراءة الثقافية تفكيكاً وتأويلاً، لاسيما إن إنتاج الخطاب يتمُّ وفق تفاعلٍ حادٍّ تماثلاً أو اختلافاً مع المكونات القارّة في أذهان أعضاء المجتمع.
إنَّ القراءة الثقافية مفهوم عامُّ يشتمل على استراتيجيات متنوعة ومتعددة في مقاربة الممارسات الدالة تعمل في الحقل الخاصّ بها من منظور العلاقة غير البريئة بالعالم / الثقافة؛ فثمة النقد ما بعد الكولونيالي، والنقد النسوي والأيكولوجي والتاريخانية الجديدة والدراسات الثقافية ونقد ثقافة الصورة…إلخ. ولكن ماذا بشأن المقاربة التفكيكية؛ فهل يمكن إدراجها ضمن إطار المقاربة الثقافية؟ غالباً ما تُتُّهم التفكيكية في نشاطاتها بوصفها قراءة نصانية، محايثة أي أنها تمارس ألعابها التأويلية في إطار «القراءة النصية»، ومن ثمّ يتساوى التفكيك مع القراءة البنيوية، وعليه تُخْرَجُ المقاربة الثرية للتفكيك من مجال القراءات الثقافية، الأمر الذي يحرم القراءة الثقافية ذاتها من الاستفادة من ترسانة المفهومات والمصطلحات التي سكَّها جاك دريدا في الحقل التفكيكي التي من شأنها أن تغني هذه القراءة وتمنحها المزيد من القدرة والشكيمة النظرية والتطبيقية في مواجهة الممارسات النصوصية وغير النصوصية. إن بؤرة الاتهام تستند إلى قولة جاك دريدا الشهيرة: « لا شيء خارج النص»، ولا شكَّ أنّ ميشال فوكو هو الذي أسس أرضية هذا الاتهام الخطير في ردِّه العنيف على قراءة دريدا لكتابه «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي» متهماً إياه بالنصانية، ولا شك أيضاً أن قولة دريدا في ظاهرها تمتدح النصَّ في انغلاقه فـ«لاشيء خارج النص» تستبعد علاقة النص بالعالم وتفتك بالوظيفة الإحالية للنص. ويبدو أن هذه القراءة المستعجلة هي التي قادت بعض النقاد الثقافيين إلى تعديل قولة دريدا بنقيضها الظاهري «لا شيء داخل النص»، وهنا ينبغي التدقيق في مفهوم «النص» لدى جاك دريدا الذي يختلف عن مفهوم «النص» المتداول في الأعمال البنيوية والسيميائية بل يقترب إلى حدٍّ كبير مع التحديدات الثقافية للنص، فدريدا في ردِّه على أسئلة هاشم صالح الذي يذكّره بالمواجهة الشهيرة بينه وفوكو، يقول: «هنا يسهل جداً أن أردَّ عليه(فوكو). لقد اتهمني «بالنصانية»؛ لأته يفهم كلمة نص بشكل مغاير لمفهومي. فأنا عندما أقول بأنه لا يوجد شيء خارج النص، فإن كلمة النص هنا تكون تكون قد تغيرت وتعدّلت فب مقصدي ومفهومي. فالنص لا يعني بالنسبة لي جزءاً من كتابٍ، أو نصاً في مكتبةٍ عامة مثلاً … إنه يعني كلية ما هو موجود. في كلِّ مكانٍ فيه أثر (trace) ونظام إحالة ومرجعية (systéme de renvois) يوجد نصٌّ. إذن فالتاريخ نصٌّ، وحركة يدي هذه نصٌّ، …إلخ. أما هو (فوكو) فيأخذ كلمة نص بالمعنى الكلاسيكي التقليدي ويندهش لأني قلتُ بأنه لا يوجد شيء خارج النص! كما لو أني أقول بأن كل شيء موجود في المكتبة. بالطبع هذا هذر ومحال/ مجلة الفكر العربي المعاصر»([9]). وهكذا نجد أن ديريدا يُمعنُ في «ثقافية» مفهوم النَّص حينما يؤكد لهاشم صالح أن النَّص يتجاوز بُعده اللغوي ليشمل السياق المادي والفيزيائي المحيط به كلياً، يقول دريدا: «بالطبع. هذا هو النَّصُّ. النص والسياق والمحيط شيء واحد»([10])، وعليه فالنص لدى جاك دريدا يكاد يختنق بالتاريخ وفي التاريخ؛ فهو يتضمن اللغة، والثقافة والعالم، ولهذا فلا شيء بمنأى عن التموضع داخل النص، فداخل النص هو خارج النص ذاته؛ لأنَّ النص تمثيل للعالم ومن ثَمّ فلا حدود بين داخل النص وخارجه؛ فالنصُّ هو داخلٌ وخارجٌ في الوقت ذاته، لا بل إن إستراتيجية التفكيك قائمة على تقويض مثل هذه الثنائيات. ومن هنا؛ فمن غير المنطقي أن تُوقعَ التفكيكية نفسها في مستنقع التناقض المنطقي، وتكتفي بالقراءة النصية تاركة علاقة النص بالثقافة والعالم بمنأى عن التقويض والتحطيم، وبالتالي لا فرق عندئذٍ بين التفكيك والبنيوية في معالجة الممارسات النصية.
إن التفكيك في الأساس بحثٌ عن التناقضات والفجوات والمسكوتات التي تخترق بنيات النصوص، وهذه الأخيرة ليست إلا نتاج اللاوعي الجمعي المنبثق من تجاويف النظام السوسيو ــ الثقافي الذي يقف وراء النصوص ويحرسها من القراءة، ومن ثم يشكِّل جانباً من جوانب سياساته؛ فالممارسات الدالة من خطابات فلسفية وأدبية وتشكيلية وسياسية …إلخ التي خرجت من عاصفة التقكيك النقدية كشفت وتكشف «أنَّ أي خطابٍ ـ discourse لا ينفصل عن إرادة القوة وأنه مشبع بالصراعات السياسية واللغوية والنفسية. وكل محاولة لإزالة هذه الصراعات عن طريق البلاغة اللفظية وصياغة مفهوم عام أو مصطلح متجانس يعلو فوق هذه الصراعات إنما يفضي إلى فشل ذريع وقمع شمولي.»([11]). ولذلك؛ فالقراءة الثقافية مدعوة إلى استثمار التفكيك، وهذا ما يحصل بالتأكيد في القراءات الثقافية ـ في مواجهة النصوص/ الخطابات التي ليس من السهولة أن ترفع راية الاستسلام للقراءة بمجرد القول إنها تمثيل للعالم والثقافة، فالتفكيك ضرورة من ضرورات «القراءة الثقافية» بل إنه العتبة التي مهدت للانتقال من القراءة النصية إلى القراءة الثقافية.
الهوامش والمراجع: