هيفي الملا
استوقفني اسم الرواية بداية، لأنني لم أجد لكلمة – آموك – معنى في القاموس العربي، ولكن عندما بحثت عن ماهية هذا الاسم، ورجعت لمقالات في منظمة الصحة العالمية، اقترن هذا الاسم بالسعار المفاجئ، وأدركت أن هناك حمى تكتنف هذا الاسم ودلالة نفسية ترسم ملامحه، لأن الكاتب النمساوي ستيفان وفي كل كتاباته يهتم بتشريح النفس البشرية، وإبراز غموضها وخفاياها، والتعمق في رسم الملامح النفسية لشخصياته، وبعد قراءة الرواية أدركت مدى خصوصية هذا المرض النفسي، الذي نستطيع أن نطلق عليه- متلازمة آموك- كنوع عدواني عنيف من السعار، يركض المصاب به بشكل مجنون ومسعور يستملكه الغضب العنيف، فيقتل كل من يصادف في طريقه، وهدوء عاصفة الجنون هذه، تكون إما بمزيد من الكوارث والقتلى، أو قتل المصاب من قبل آخرين، أو انتحار المصاب نفسه، بذهنية مريضة ومحمومة٠
فكرت بهذه المتلازمة هل هي حالة روحية طارئة وعنيفة؟ أم سكر وشغف قاتل ؟ أم جنون بشري مطلق وعنيف؟ و هل المرض عضوي علمي؟ ام صناعة أدبية بحتة؟
ولكن علماء النفس والمهتمين بهذه الظاهرة درسوها واهتموا بها، محاولين التوصل لأسبابها، والظواهر المرضية المرافقة لها والأهم طرق علاجها، فاجتمعت الأراء إن هذا السلوك الإجرامي، لاحظه الدارسون في مناطق مختلفة من العالم، ولكن أصل الكلمة ماليزية، وتعني مرحلة متقدمة من الجنون، القاتل، فهذا المرض مرتبط بالمثيولوجيات الماليزية كنوع من العقاب الذي تسلطه أرواح شريرة على الأشخاص تسحرهم،
تاركة اضطرابات غريبة وهلوسات وإثارة مفرطة سببتها هذه الروح الشريرة، التي تحول الإنسان لشخص أخر ذي هلوسات غريبة، مدفوع بشهوة القتل والانتقام لارتكاب أفظع الجرائم وحسب الميثولوجيات الماليزية أيضاً، أن هذه الروح دخلت أجساد المحاربين، وأجبرتهم على التصرف دون أن يدركوا مايفعلونه، وحدها شهية القتل تدفعهم بجسارة لاترتوي إلا بالمزيد من القتل٠
واستخلص علم النفس من خلال أبحاثه، أن هذا المرض ليس من الاضطرابات النفسية الشائعة، بل هي كحال الكثير من المتلازمات التي تظهر في ثقافات معينة مرتبطة بعقيدتهم وأنماط حياتهم، لذلك استطيع القول بأنها متلازمة ذات طبيعة ثقافية منتشرة في ماليزيا والفلبين، اي أنها شاعت أكثر ماشاعت في المناطق الإندونيسية، وهكذا ربما تكون الثقافة أكثر تفسير مقبول لأصل هذه المتلازمة٠
لكن هنا يجدر بي القول: آموك الأمس أليست مرتبطة بثقافة اليوم، بنهج أكثر حداثةوانتشار أعمى، متمثلة بشكل عنيف ومتطرف من السلوك العنيف، وحمى القتل التي تسود العالم، برأيي قد تم تصدير هذه المتلازمة وتصعيدها إلى مستوى أكثر عالمية حيث تم ربطها بعمليات القتل الجماعي، والمذابح، والروح العدوانية الشهوانية، وجرائم الإرهاب والانتحار، والعنف الجنساني والنفسي، وظواهر التخريب التي تفتك وتقتل دون رحمة وهوادة ٠
أو ليس في الأمر سعار مجنون؟
يؤدي إلى مسلسل الإرهاب الذي لاينتهي والدم الذي يقطر من الأيادي التي من المفترض أنها تصنع المستقبل وتبني العالم وتوطد للبشرية وسائل التواصل والعيش ٠
وحسب نظريات علماء النفس وأبحاثهم، إن هذا المرض لايستملك صاحبه بنزعة مفاجئة، بل من تظهر لديه هذه
الحالة لن يكون بالأساس إنسانا متوازنا وعقلانيا فهو مسبقاً بمتلك تلك الأرضية الممهدة لحالة هذا المرض وأعراضه، حيث الاكتئاب والعزلة والإرهاق الشديد، فيأتي هذا السعار المفاجئ، استجابة للإحباط والإذلال ٠
إذن وإن افترضنا أن الظاهرة نادرة ومفاجئة وتستند على تقلبات نفسية معينة ، إلا أنها موجودة ومنتشرة وأن تعددت تسمياتها، واختلفت وسائل التعبير عن الشكل المرضى لها،
وبالعودة إلى ستيفان زفايغ الذي استهوته هذه الظاهرة وهو المتعمق في تشريح النفس البشرية وإبراز غموضها وخفاياها، فقد تمكن وببراعة من إسقاط هذه المتلازمة أدبيا، على روايته آموك – سعار الحب – التي تتحدث عن طبيب هجر بلاده ليعمل في إحدى المعسكرات الاستعمارية في الهند، منعزلا عن الجميع، وعندما تأتي إليه امرأة، تحتاجه في أمر طبي سري، يمتلكه السعار نحو جمالها، رافضا مساعدتها مبالغا في إذلالها ومساومتها لينال منها مايريد، والذي لم يتوقعه الطبيب أن تغادر المرأة دون اكتراث به، وتسلم نفسها لامرأة مشعوذة وتؤدي بها الحالة إلى الوفاة، هذا الطبيب تتصارع القيم الإنسانية في داخله، ويصاب بالسعار لأنه رغب بالجميلة التي رفضته وكان سببا في وفاتها، وفي الرواية ما يشير إلى تجربة الكاتب نفسه الذي عانى الكثير، ثم انتهت حياته بطريقة درامية بالانتحار الجماعي، الذي ربما تصالح به ستيفان مع ذاته المحمومة الرافضة ٠
ولكن ستيفان وبإسقاطه هذا المفهوم النفسي على الكتابة، استخدم هذا المصطلح الإجرامي، من أجل المرأة لا من أجل شهوانية القتل، ولكن القاسم المشترك هنا هو تلك الروح العدوانية، وتلك الرغبة المشحونة الغاضبة المستعدة للانتقام وللتخريب، يدفعها يأس مخبوء وإحباط كبير وانتقام أعمى ٠
الكاتب ستيفان يعتبر من أهم من تناولوا هذه الظاهرة وهو الذي كان دوما مثالاً للذكاءوالإبداع، ولكن ليس قويا بما فيه الكفاية لمواجهة الذات والظروف وشبح الحرب التي غيرت الكثير من المفاهيم ٠
آموك :هذا الغضب الوحشي والفم الفاغر المتعطش للانتقام، وارتباطه بالسلوكيات المجنونة والمدمرة،، له خلفية ثقافية ممتدة إلى الأن، فالعالم كله في سعار دائم للقتل، للاستغلال، للاضطهاد، للقتل بكل أريحية،
وإلى ان يشفى الضمير الإنساني من هذه المتلازمة، ستفقد البشرية والإنسانية الكثير من جمالها بعد، وستتشوه معالم الصورة أكثر وأكثر ٠