أحمد عزيـز الحسين
ستبقى المفاهيمُ والمصطلحاتُ النّقديّةُ الحديثةُ كـ(البنيويّة، والتّفكيكيّة، والسّيميائيّة، والحداثيّة..) تنصبُّ كالسّيلِ الهادرِ في بحرِ حياتنا الثقافيّة الهاجعِ والسّاكنِ مادمْنا نلهثُ خلف الآخر، ونقبل بأن نكون تابعين له، وسيبقى هناك نوعٌ من البلبلةِ والقلقِ والاضطّرابِ في تلقّي هذهِ المصطلحاتِ واستخدامها، وسيصعُبُ علينا تبنّيها وضبْطُها في سياقنا الثّقافيّ العربيّ إلى أنْ ترتقي سويّةُ القارئ العربيّ، وترتقيَ معه آليّةُ التّلقّي إلى المستوى الّذي يؤهِّلها لتقبُّل هذهِ المصطلحاتِ وفهمها. والمسألةُ، في رأيي، لا تُحَلُّ بدعوةٍ كريمة يقومُ بها ناقدٌ معيّنٌ لتبنّي مصطلحٍ دونَ آخر؛ ذلكَ أنّ هذهِ الدّعوةَ لن تُؤتِيَ ثمارها، في رأيي، إلّا بعدَ ممارسةٍ طويلةِ الأمدِ لكي يُتاحَ لهذه المصطلحات أن تتناسجَ في بنيةِ ثقافتنا، وتلبّي حاجةً معرفيّةً تتطلّبها هذه الثقافةُ.
ولعلّ ما نواجهه الآن، في مجالِ تلقّي المصطلحِ النقديّ الغربيّ عموماً يشبهُ إلى حدٍّ كبيرٍ ما واجهناهُ في الأمسِ القريبِ من قلقٍ وتعثُّرٍ في تبنّي مصطلحاتٍ تقنيّةٍ وعلميّةٍ وفدتْ إلى حياتنا الثّقافيّة العربيّةِ من اللُّغتين الإنجليزيّة والفرنسيّة تحديداً، ولم تصبحْ هذهِ المصطلحاتِ جزءاً منها إلا بعد مُضِيِّ نصفِ قرنٍ على الأقلّ، أتيحَ فيها لثقافتنا أن تتقبّلَ بعضَها، أوتُقصِي بعضَها الآخرَ بعد أنْ لقيتْ تجاوُباً من المتلقّي العربيّ، وأمستْ جزءاً من شبكةِ مصطلحاتهِ ومفاهيمهِ وحياته الثّقافيّة، ومنها، على سبيل المثالِ لا الحصر: مصطلحُ (السّينما) الذي اقترحتِ المجامعُ اللُّغويّةُ العربيّةُ ترجمَتَه بـ( الخيّالة)، واستخدمَهُ الإخوةُ اللّيبيُّونَ في أبحاثهم التي كانت تُنشَرُ في مجلّتي (الثّقافةِ العربيّةِ) و(الفصولِ الأربعةِ) في السّبعينيّاتِ من القرنِ المنصرم، إلا أنّه لم يُقيَّض لهذا المصطلح النّجاح، وظلّ استعمالُهُ مقصوراً على النّخبةِ منهم، ومحصوراً في الوسطِ الثقافيّ الليبيّ فقط، وهذا يدلّ على أنّ كثرةَ شيوع المصطلحِ في أفواهِ الناسِ، وكثرةَ استعمالِهِ في نسيجِ لغتهم هما اللذانِ يؤكِّدانِ تبنّي هذه الثّقافةِ له، وتناسُجَه في لغتها، ومثله مصطلحُ (كومبيوتر) الذي ترجمه بعضُهم بمصطلح (حاسوب)، ولكنّ استعماله بقيَ محصوراً في الأوساط الأكاديميّة فقط، أو في وسط النّخبةِ من المتعلّمين لا غير، أمّا المصطلحاتُ التّقنيةُ الأخرى كـ(موبايل، ولابتوب، وآيباد) وغيرها، فلم تفلحْ معاجمنا وثقافتنا في اقتراحِ مقابلاتٍ عربيّةٍ لها حتّى الآن، ولا نزال نستعملها كما وفدتْ إلينا بلغتها الأصليّة مع تحويرٍ بسيطٍ في بنيتها اللغويّة كي يسهُل نطقُها، وتغدو قادرةً على الدّخول في النّسيج اللّغويّ العربيّ، وسيبقى الوضعُ على ما هو عليه إلى أن نغادر حالة التّبعيّة التي نرزح تحتها، ونُصبحُ قادرين على المشاركة في الحياة العلميّة والتّقنية العالميّة من موقع المنتِج لا المستهلِك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب سوريّ