الغرانيق.. لـ رسول حمزاتوف

 د. بسام مرعي 
القصيدة من ترجمتي  من الروسية
لقد ولدت في قرية صغيرة، في داغستان البعيدة، وفي أيام الطفولة كان يحدث أن أتشاجر مع أترابي، دفاعا عن شرف العائلة ثم كبرت وتوسعت دائرة همي، لأقاتل من أجل قريتي، ثم جمهوريتي داغستان، ثم من أجل بلادي الكبيرة كلها، وها أنا اليوم أرى نفسي مسؤولاً عن كرتنا الارضية بأسرها، وعن مصير الانسان، بل ومصير البشرية جمعاء، فاليوم لا يجوز لي ولا لأحد منا أن يكمن في قوقعته الصغيرة المغلقة، إذ إن قريتي والعالم كله قد أصبحا وحدة عضوية لا تنفصم عراها  
هكذا كان رسول حمزاتوف و هكذا كانت قصائده أيضا ً عابرة للقارات وتحمل بعداً انسانيا ً تتجاوز حدود داغستان الضيقة  والوعرة، لتحلق في فضاءات أوسع، وهنا كان لابد من تسليط بعض الضوء على قصيدته ((الغرانيق)) المشهورة، والتي تحولت بدورها إلى رمز إنساني، ترمز لأولئك الذين استشهدوا في سبيل أوطانهم، وصدحت هذه القصيدة أغنية ذات بعد إنساني يتنازعه الألم والشجن ٠ 
   هذه القصيدة  كتبت بعد مرور عشرين عاماً، على نهاية الحرب العالمية الثانية .
 في 6 آب 1945 في اليابان، وبالذات في ذلك اليوم الرهيب والمرعب ، في مدينة (هيروشيما ) اليابانية حيث ألقيت القنبلة الذرية ، وكان منزل الطفلة ذات العامين مــــــن العمـــــــــر ( ساداكا ساساكي ) التي لم تصب بأذى وقتها  ،الى أن أصبح عمرها إحدى عشرة عاماً، كانت الطفلة كصديقاتها  تعيش حياة طبيعية، تمارس الرياضة وتشترك في الكثير من المسابقات ، إلى أن تغيرت معالم حياتها تماما، ففــــــي شهر ( نوفمبر ) عام 1954 ظهرت عليها الأعراض الأولى للمرض الخبيث، حسب تشخيص الأطباء في شهر ( فبراير ) مــــــن عام 1955، ألا وهـــــــــو اللوكيميا ( سرطان الدم)  والذي كان يطلق عليه في اليابان، في ذلك الوقت ( مرض القنبلة الذرية )٠ 
أدخلت الطفلة إلى المشفى، ولم يكن هناك أدنى أمل في شفائها ، وحدث إن جاءت إلى المشفى لزيارتها صديقتها الحميمة (جيزوكا ) وهي تحمل في يديها هديةً غير اعتيادية، عبارة عن طائر الغرنوق الأبيض،  مصنوعاً من الورق ، وبدأت تقص على صديقتها الأسطورة اليابانية التي تقول :
– بأن من يستطيع أن يجمع ألف طائر من طيور الغرانيق البيضاء المصنوعة من الورق، فبإمكانه أن يتمنى أية أمنية و ستتحقق على الفور . وبينما كانت ( ساداكا ) تحلم أن تتعافى من هذا المرض اللعين ، بدأت تصنع هذه الطيور الورقية ٠
ويبدو أن الطفلة ( ساداكا ) نجحت في تصنيع (644) طائراً  ورقياً، لكن المرض لم يمهلها أكثر، حتى فارقت الحياة في 25 ( اكتوبر ) 1955.
 إن قصة هذه الطفلة البريئة قد صنعت منها رمزاً لبشاعة وقسوة الحرب النووية، وقد تم إنشاء نصب تذكاري، يقع في مدينة ( هيروشيما ) في متنزه السلام،  وقد كُتب على قاعدة هذا النصب ” إنه ندائنا ، إنه صلاتنا ، ليعم السلام كل العالم . وعلى قمة قاعدة النصب يرتفع تمثال ( ساداكا ) وهي حاملة بيديها طائر الغرنوق الأبيض الورقي، وبعدها بعشرين عاماً قام الشاعر حمزاتوف بزيارة المدينة، وزيارة النصب ليعرف قصة الغرانيق الورقية البيضاء، التي تحولت رمزاً، ومن ثم ليبدعها قصيدة خالدة ٠ 
الغرانيق 
يبدو لي أحياناً، أنَّ الجنودَ
الذين استشهدوا في المعارك الدامية،
لم يُدفَنوا في التراب  يوماً ما
وإنما  تحوّلوا إلى غرانيق بيض.
و منذ تلك الأزمنة الغابرة
 ما زالوا يطيرون ويبعثون إلينا النداء 
أليس لهذا غالباً 
نحن نرنو إلى السماء بصمت وحزن ؟
واليومَ  عند المغيب 
وعبْرَ الضباب أرى كيف إنَّ الغرانيق
تطيرُ سرباً منتظماً ،
كما  الجنود  في الأرض .
تطير وتنهي  طريقَها الطويل 
وهي تنادي بأسماء أناس  ما 
أليس لهذا ومنذ الأزل تشبِه
 (الآفارية) صوتَ نداء الغرانيق ؟
يطير ، يطير في السماء سرباً تعباً
يطير في الضباب عند الغروب 
وثمّة فجوة صغيرة في رتله  –
قد يكون هذا المكان لي ! 
سيأتي يوم، وسوف أسبح مع سربِ الغرانيق 
في  هذه الظلمة الرزقاء ،
منادياً بصوت الطيور من تحت قبة السماء 
أولئك الذين تركتُهم على الأرض جميعاً .
الآفارية : هي لغة رسول حمزاتوف والتي كان يكتب بها وقد تم ترجمة  القصيدة من اللغة الروسية للعربية  

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماهين شيخاني

ولد الكاتب والصحفي والمناضل الكوردي موسى عنتر، المعروف بلقب “آبي موسى” (Apê Musa)، عام 1918 في قرية “ستليلي” الواقعة قرب الحدود السورية، والتابعة لمدينة نصيبين في شمال كوردستان. ترعرع يتيماً بعد أن فقد والده في صغره، فحمل في قلبه وجع الفقد مبكراً، تماماً كما حمل لاحقاً وجع أمّته.

بدأ دراسته في مدارس ماردين، ثم انتقل…

أسدل يوم أمس عن مسيرتي في مجلة “شرمولا” الأدبية الثقافية كمدير ورئيس للتحرير منذ تأسيسها في أيلول 2018، لتبدأ مسيرة جديدة وسط تغييرات وأحداث كبرى في كُردستان وسوريا وعموم منطقة الشرق الأوسط.

إن التغييرات الجارية تستدعي فتح آفاق جديدة في خوض غمار العمل الفكري والأدبي والإعلامي، وهي مهمة استثنائية وشاقة بكل الأحوال.

 

دلشاد مراد

قامشلو- سوريا

19 أيلول 2025م

الشيخ نابو

في زمن تتكاثر فيه المؤتمرات وترفع فيه الشعارات البراقة، بات لزاما علينا أن ندقق في النوايا قبل أن نصفق للنتائج.

ما جرى في مؤتمر هانوفر لا يمكن اعتباره حدثاً عابراً أو مجرد تجمع للنقاش، بل هو محاولة منظمة لإعادة صياغة الهوية الإيزيدية وفق أجندات حزبية وسياسية، تُخفي تحت عباءة “الحوار” مشاريع تحريف وتفكيك.

نحن لا نرفض…

نجاح هيفو

تاريخ المرأة الكوردية زاخر بالمآثر والمواقف المشرفة. فمنذ القدم، لم تكن المرأة الكوردية مجرّد تابع، بل كانت شريكة في بناء المجتمع، وحارسة للقيم، ومضرب مثل في الشجاعة والكرم. عُرفت بقدرتها على استقبال الضيوف بوجه مبتسم ويد كريمة، وبحضورها الفعّال في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية. لقد جسّدت المرأة الكوردية معنى الحرية، فلم تتوانَ يومًا عن…