خالد جميل مــحمد
مَدْخَل:
(الأذن المقطوعة) نَصٌّ قصصيّ، يصور فيه الكاتب (حليم يوسف) جانباً من الحياة الواقعيةِ، من خلال رصدِ جملةٍ من العلاقات التي يمثلها كلٌّ من الإنسانِ والزمان والمكان، بصفتها عناصرَ يُلتمَسُ لصورها تشكُّلٌ على أرضية النصّ؛ حيث تسعى هذه القراءة إلى الكشف عنها من خلال شخصية (رمو) صاحبِ الأذنِ المقطوعة / المصلومة، التي أخذ الكاتبُ نموذجَها من واقعِ الحياةِ، ثم أدخلها في فضاءٍ قصصي، ووجودٍ لغويٍّ يمتازُ بالتفرد، هو الوجودُ النصِّيُّ الذي تدورُ فيه تلك الشخصيةُ، حيث تَنَحَّتْ عن أن تكونَ مُهيمِنةً على حسابِ العناصرِ القصصية الأُخرى لأنها لا يمكنُ لها أن تتمثَّل بمعزلٍ عن حركةِ الشخصيةِ التي شكَّلت مركزاً “بؤرياً” وغدتْ مخلوقاً لغوياً له سماته النصيةُ الخاصّةُ، تلك السماتُ التي تسعى هذه القراءة إلى البحثِ عنها في النص، دون أن تنشغل بالبحث عنها أو عن “معادلٍ موضوعيّ” دقيق لها خارجَه، وإنْ كان ثمةَ احتمالُ أن يتوافرَ مثل ذلك المعادل، لكنها (شخصية رمو) تشكَّلت من لغة القصة ورَحِمِها، إن جاز التعبير مجازاً.
رمو بصفته شخصيةً:
إن الموضوع المُدرَكَ، مقابلَ الذات، أي الجانب المدرَك في الشخصية، بالنسبة إلى هذا العنصر، هو الحيّز الذي يَشغلُه في القصة بمجموعِ عناصره التي تغايِرُه وتتمايز عنه، أما العالَم الخارجيّ الواقعي فهو يمثل الموضوع ليس بالنسبة إلى الشخصية، ولا بالنسبة إلى السارِد، بل يمثّل الموضوعَ بالنسبة إلى الكاتبِ، وإلى القصةِ بوصفها نصّاً لغوياً أدبياً له ماهيتُه وتميُّزه، لهذا سعى الكاتب الى الارتقاء بنصه من مستوى السرد المألوف والتسلسل المنطقي المتدرج للأحداث، إلى إحداث قطيعة مع النمط التقليدي للسّردِ ولغة القَصّ، حيث تقوم عملية السرد على لغة مشحونة بطابع شعريّ اشتمل على انزياحاتٍ وعناصرِ تشويقٍ، دهشةٍ، مفاجأةٍ وتكثيف، كما تقوم على الحركةِ الإيقاعيةِ التي تلازم الأحداثَ، حيث تبدأ بدهشةِ الأمِّ من رؤية ابنها وقد صُلِمت أذنُه اليسرى: “عندما حلّ بالبابِ فُغِرَ فمُ أمه ذِراعاً”، وقد أثارَ المشهدُ كثيراً من التساؤلات لديها، فالموقفُ يستدعي حالة من التوتر والاضطراب وما يصحبُهما من دهشة وذهول ينعكسان في فعلي التلقّي لدى القارئ وهو يمضي باحثاً عن السبب وراء ذلك الحدث وكثير من متعلّقاته ضمن سيرورة عملية القَصّ بلغةٍ بعيدة عن التكلّف والتصنّع: “- ياولدي، أين أذنك، يارمو… أيها المكنوب؟! مع صوت أمه امتدت يده إلى صُدغه، جالت أصابعُه في المكان الخالي من أذنه اليسرى، فوجيء رمو، غارت عيناه إلى وسط رأسه، وأمسكتْ أمه كلتا كتفيه، وبعينين غريقتين بالأسئلة، نظرت إلى أثر الأذن المفقودة. أدارت رأسه، كانت الأذنُ اليمنى في مكانها، لكنها بدتْ مُحمَرّةً، فانهالت كلماتُ أمِّه عليه قطراتِ خوفٍ ورهبة”.
يرتبط عنوان القصة بحدث الأذنِ المقطوعةِ، وهذا العنوان بحد ذاته تمهيد تنطلق منه القراءة في عملية استكشافٍ تضيء جوانب مما تناثر على امتداد النصّ، حيث يتبيَّن أن الكاتب قد وَزَنَ الشخصية واختبرها طويلاً، وامتحنَها في مختلِف أبعادها وامتداداتها النفسية والجسدية، بحثاً عن نموذجٍ متكاملِ الحياةِ والمقوماتِ والعناصر، وتوافقاً مع الحركة الإيقاعية التي تلازم تسلسل الأحداث وتناميها بدءاً حدَث قطع الأذن ودهشة الأم متزامنة مع حركات (رمو) التي يشهدها القارئ متداخلة مع أحداث متداخلة على امتداد عملية السرد، وتنامي الأحداث، انتهاءً بتصاعد تلك الحركة الإيقاعية التي تزداد شدة في النهاية، حيث يشهد (رمو) المصيرَ المؤلِمَ الذي آذنت بداية القصّ بها من خلال مؤشرات تمثلت في ما سَبقَتِ الإحالةُ إليها، ثُمَّتَ راح (رمو) يبحث عن تحقيق انتصار بستغيض به ما لقي من خسارات وعذابات عاشها بكيفيات مختلفة دفعت أحداثَ القصة في محور حركي تصاعدي، ونمو داخلي حتى النهاية التي منها يُستأنَفُ الاشتعال الجديدُ لعملية القصّ، اشتعالاً سردياً، لغوياً، دلالياً متميزاً: “ماكان رمو قادراً على قبول هذا الوضع، ولذلك كان يقول بخشوع: لا يستبعد أن أخسر أذني الثانية على ذلك”، في إشارة إلى التأكيد على استمرار حالة التوتر المنبثقة من العنوان حتى آخر كلمة في تلك العملية السردية التصاعدية، بصورة فنية تبتعد عن المباشرة والتسطيح، مع الحفاظ على بساطة الطرح والتعبير.
في رحلة الباص، الباص الذي ينقل الرُّكّاب “صار رمو جمرة، فار صبرُه، تلظّى، كاد أن يعضَّ نفسَه، لم يأت باصُ، سيارةٌ، شاحنةٌ، حمارٌ، أو أي شيء آخر. انبعجت الدواليبُ، بَدَّلوا بها غيرَها، حدثتْ جَلَبة بينه وبين سائق الباص، تشاجرا، فَصَل الرُّكّابُ بينهما، ظهرتْ مجموعةٌ من العسكر، هدَّدَهُ رئيسُهم: سأقطع أذنك الأخرى إن أطلتَ لسانك” في إشارةِ إلى رحلةِ العذابِ والتحدي التي يخوضها (رمو) ساعياً إلى إثبات قوةِ شخصيتِه وتمرّدِه، ثُمَّتَ سَرَيانِ الرعبِ في كيانِه وقد مثُلتْ أمام عينيه مشاهدُ الترهيبِ والخساراتِ المتعاقبةِ التي قد تكون لها امتدادت موضوعيةٌ خارجَ الخطاب القصصي الراهن، لكنها تغور عميقاً في أثناء جدلية عمليتي السرد والتلقي، حيث “جَسَد أمه التي لفَّ الحبلُ حول رقبتها، كان يترنح في فضاء الغرفة، وقطة بيضاء، كبيرة وناصعة، وجائعة، كانت في انتظار سقوط جسد أمه، تغلغل الرعب في دمه… وجسده أيضاً، كجسد أمه، كان يترنح في قلب العتمة وهو معّلقٌ. وكان يحَدّجُ بشدة إلى لسانه الممدود، ثم انهارَ كجدار مشعور”، في تنقل مستمرٍّ ما بين انكسار وانكسار أشدّ تأثيراً، وبَرزَخٍ بينهما تتجسد فيه مصائرُ شخصيةٍ تكاد تكون محورراً رئيساً لأحداثٍ تُتَرجِم موضوعةَ (ضريبة الاختلاف والتمرّد وتجاوز الخطوط الحمر) في مجتمع تكون عقوبة الخارج عمّا هو مرسومٌ ومفروضٌ، قَطعاً للأذن، (بمثابة درسٍ لمن ينبغي أن يعتبرَ ومن يريد أن يكون مختلفاً).
تجليات التشويه:
امتداداً لتلك الانكسارات المتعاقبة والممتدة زمانياً ومكانياً، يبدو أن اسم العلم (رمو) أيضاً مشحون بدلالة فيها من التصغير والاستهانة بصاحبه بما يوافق المقام الاجتماعي والتاريخي لهذه الشخصية التي تم إحداث تحريفٍ في التسمية الحقيقية لصاحبها الذي شهد تشويها في رأسه إثر صَلم أذنه، حيث انتقل الاسم من (رمضان) إلى (رمو) بواو تدل في اللغة الكردية، في سياق كهذا، إلى التصغير والتحقير، بفعل اجتماعي، تاريخي، سياسي وأخلاقي، ليكون الاسم (رمو) أيضاً علامةً من علامات المعاناة الأبدية التي تلازم صاحب الأذن (الواحدة)، بعد قطع أذنه اليسرى، في دلالة على موقف التمرد الصاخب لصاحبها (رمو) وسلوكاته ومصيره المفجع: “اكتظَّ الباص بالعسكر الأشرار، الذين أمسكوا (رمو) دون أن يقول أحد: لماذا؟. ثم علا صخب العسكر:- من منكم رَجَلٌ، فليرفع رأسه مثل رمو؟… مُدّيَة ألقت بأذن رمو عند أقدامهم، وسال الدم على رقبته وانهارَ جَسَدُه، مرتمياً على الأرض كالجِيفَة، ورفع عنصرٌ من العسكر الأذنَ المقطوعةَ. وقال بتراخٍ:- إياكم أن تَـنسوا هذه الأذن! هذا هو جزاء من يغضب سائقنا”، في إشارة إلى عاقبةِ الرفضِ في واقعٍ لا يُجيز للإنسان أن يَسمع سوى ما يؤمَر به ولا يُسمَح له أن يُسمِعَ الآخرينَ صوتَه.
قَطْعُ الأذن بحد ذاته، تجسيدٌ لعملية تشويهٍ ملحوظٍ يشهده الكاتب في مجتمعه، وطنِه وشخصيتِه، إذ لا شيءَ من ذلك كله يأتي من فراغ، ولا يمضي إلى فراغٍ أيضاً، فقد اكتسب هذا التشويه بُعداً فنياً، ومَنَحَ شخصية (رمو) وجوداً نَمَطياً لا يرتبط بزمان محدَّد أو مكانٍ بعينِه، رغم أنها قد تُحيلُنا إلى نماذج واقعية هنا وهناك، أو قد تستدعي نماذج من نصوصٍ سابقة على هذا النصِّ ومتداخلة أو متقاطعة معه في بعص الخصائص والسِّماتِ والموضوعات والدَّلالات، لكن وجود هذه الشخصية بهذه الكيفيةِ، جعلها عنصراً فاعلاً قصيصاً، في عملية (نَـــمذجةٍ) لم تجعلها أسيرة غيرها من نماذجَ خارجية/ موضوعية قد تشترك معها في قواسم تعكس واقعية هذه الشخصية، مع الحفاظ على أبعادها الفنية، الجَمالية، الأدبية والقصصية، دون أن يكون الحضورُ الفاعلُ لهذه الشخصية طاغياً على حضورِ سِواها من الشخصياتِ أو العناصرِ الداخلة معها في تفاعُلٍ يعكِسُ جوانبَ من واقعٍ أُريدَ لهذا الخطاب القصصي أن يضيء جوانبَ منه بعيداً عن النزول إلى مستوى التقريرية المباشرة التي عرفتها كثيرٌ من الكتابات التي نَحَتْ منحىً واقعياً في تناول موضوعاتها أو نقل أطاريحها: “قوافل الغرباء شكلت حلقة حول القرية، ومركز القيادة وزّع عليهم أراضيَ القرويين كلها، وجعلتهم جميعاً اصحاب عقارات وبيوت إسمنتية، ومنحتهم الزراعة والجرارات والسيارات والمسدسات والأسلحة…”. وبمقابل “قوافل الغرباء” ثَمَّةَ أمٌّ / أمّةٌ / وطنٌ في حالة من العلاقة الرَّحِمِيّةِ بينهما “ناحت أمه وأعطته منديلاً يخفي به مكان كلتا الأذنين المقطوعتين”.
شخصية (رمو) صاحبِ الأذن المقطوعةِ تدور في أجواء يسودها القمع، الظلم، الجهل، الترهب والوعيد، لكنها بلغت من النضج والوعي العفويين درجةً جعلته يتمرد ويرنو إلى تغيير واقعٍ فاسد يعيشُ وَيلاتِه ومعاناتِه، لكن اندفاعَه كان مصحوباً بكثير من المخاوف والخسارات التي لا بدَّ أن يدفع ضريبتَها كلُّ من يسير في هذا الاتجاه المختلف والمخالِف، حيث تدخل الشخصية في مواجهات متعددة الجوانب مع العسكر، مع الغرباء، مع القرويين، ومع حبيبته التي تخلَّت عنه بعد أن شُوِّهت صورتُه واختلَّ توازنُه بفَقْدِ أذنِه، فتركتْه لمصيره وأظهرت له اشمئزازَها وتقزُّزَها منه بعد ما جرى له: “تذكر (همرين) بنة (جمشيد)، حبيبتُه ذاتَ زمانٍ، عندما كانت له أذنانِ، وكان إنساناً، لكنْ بعدَ أن صار اسمُه (رمو) صاحبَ الأذنِ الواحدةِ، تغيرت (همرين)، وصارت تخشى منه وتبتعد عنه”، ترسيخاً لتتالي الخسارات التي تعاقبت في ما بقي من حياته من زمنٍ لا بدّ أن يقضيَه في ظلِّ حالة من التوتر والانكسار.
بلغت علاقات (رمو) بمَنْ حولَه، درجةً من التوتر الذي وصل الذروة في اللحظة التي يرفع فيها أحدهم أذنه المقطوعة، ليُرهبَ بها الآخرين: “إياكم أن تنسوا هذه الأذن!”. وفي غيرها من اللحظات التي تتسم بإيقاعات عالية من التوتر والانفعال، من مثل حدَثِ خنقِه القِطَّـةَ التي تمثلت فيها صورة حبيبته التي تركته، تلك القطة التي أفرغ فيها كلَّ ما لديه من غضب وقدرة على الانتقام ليحقق لنفسِه انتصاراً ما، بعد كل هذه الهزائم والخسارات: “في مقبرة القرية، عند قبر أبيه، حفرَ حُفرةً، حَمَلَ القطةَ البيضاءَ، ولَفَّ يديهِ على رقبتها، قَطَعَ أنفاسَها وخَنَقَها، أنَّت القِطَّةُ وارتمَتْ جُثَّتُها عند حذائِه. ثَمَّة، وبهدوء، هَمَسَ في أذن القطة: – أنت همرين ن ن ن هــ هــ هــ … لا؟! .. اسمك همرين ن … وضحك… مدد جسدَ القِطَّةِ في الحفرةِ، طمرَها تحت التراب، ووضع كومةً من الحجارة على التراب…”، في سعي إلى طَمْأنةِ نفسِه باستحالة عودة القطة إلى الحياة من جديد، تجسيداً لِمَا بلغَ من رغبةٍ في الانتقامِ من كلِّ ما يقدِر عليه، بعد أن عجز من الانتقام ممَّن تسبَّبوا له بهذا المصير المليء بالخسارات.
بهذا التنامي للأحداث يمكن استشفافُ تشكّلٍ جديدٍ ومتميِّز للُّغة، يمكن استشفافُ لغةٍ لصيقة بالشعر أكثرَ من كونِها لصيقةً بالنثر، لغةٍ تقوم بخلق نوع من التوتر ثم إفراغِه في محور حركة الزمان وتفاعل الشخصيات مع الأحداث في إطار كثير من الثنائيات المتضادة كالليل والنهار، (رمو) والسائق، القرويين والغرباء، القرية والمدينة، حركة الباص وتوقف تطور الحياة الاجتماعية والسياسية والوعي، في ذروةٍ من تداخل تلك الثنائيات المتضادَّة بصورة يصعب عليه الفصل بينها، وهو يبحث عمّن ينقذه / تنقذه من حالة التيه التي غرق فيها، مستنجداً بأمه من خلال حالة الشوق التي اعتصرت قلبَه بعد ما جرى له: “انصب دماغه بين وحل الطريق، وقال:- سامحني يارمو، أنا كنت السبب في أوجاعك، ولكن اعلم أن قلبك قد أعانني حتى أنهينا عمرك… اشتاق إلى أمه…”.
بالعودة إلى بعض العناصر التي تدخل مع شخصية (رمو) في علاقاتها النَّصِّيَّة، فإنها عناصر تشترك معها في الحضور والفاعلية والأهمية، كما أنها ترتبط مع الوجود المرجعي / الموضوعي الذي يقابلها في الواقع، على النحو التالي:
(الأمّ) عنصر نصي، هو عنصر الانتماء، والكائنُ الذي ترتبط به حياة (رمو) ومراحل طفولته، شبابه ورجولته، وهي رمز الحماية، الأمان، الاستمرار، الخلاص، الحنان والغوث الذي يرى فيه / فيها خلاصَه، فيلجأ إليها كلما شَعَرَ بعبء الأحزان عليه، وكلما دهمت الانكساراتُ حياتَه، ويقابله في الوجود المرجعي عنصر (الأمة) وهي ما يرتمي في أحضانها الإنسان/ الشعبُ بحثاً عن قيمةٍ حقيقيةٍ للوجود، الحياة والحرية، وبحثاً عن الخلاص والأمان المفقودين دونها.
(الأذن) عنصر نصّيٌّ، وعضوٌ جسَديٌّ فعّال، بصفته مركزَ التوازن في الإنسان، ومركزَ استقبالِ الإشارات الصوتية من العالم الخارجي وتلقّيها وإيصالها إلى مركزها في الدماغ، وهو أيضاً عنصر جمالي في هيئة الإنسان وشَكْلِه، بل إنه شَكْلٌ تحملُه أرضيةُ الرأسِ، حيث إن أيّ تغيُّر أو تغييرٍ في هذا الشكل (الأذن) ينجمُ عنه تغيُّر أو تغيير في اللوحة الجمالية لرأس الإنسان، وقد يُحدِث ذلك التغييرُ خللاً في توازن تلك اللوحة الجمالية. ويقابل هذا العنصرَ النصيَّ، عنصر (الأرض / الوطن) في الوجود المرجعيّ الواقعيِّ الذي يمثل تلك السماتِ من التوازن والجَمالية، على المستوى الجغرافيِّ الطبيعي. وبالربط بين أطروحة القصة والواقع الموضوعي، فإن هناك علاقةً نَصّيَّةً بين قطع الأذن وما ينجم عنه من تشويه وتقبيحِ وإيذاء، وبين ما يحيل إليه ذلك القطع من اقتطاع الأرض وتقسيمها، في متن القصة نفسِها وكذلك في الواقع الموضوعي، بامتداداته التاريخية والسياسية والعسكرية، ليدل ذلك على أن أيّ قَرَوِيٍّ هو (رمو) وهو في حقيقته صاحب الأذن المقطوعة أيضاً، تمرَّد أم لم يتمرَّد، وخالَفَ أم لم يخالفْ، حيث اختلالُ التوازنِ قائمٌ على صعيدِ الجَسَدِ الإنسانيِّ وأيضاً على صعيد الأرض /الوطن.
(الباص) وهو عنصر نصّي أيضاً، لكنه يمثل الحركةَ والسيرورة التي يتجسد بها الزمان، ويقابله في الوجود المرجعي الواقعيِّ، الزمان الفيزيائي، التاريخي، الاجتماعي والزمان الفكري، حيث يدل بطء حركة الباص على تأخر حركة الزمن وتراخيه في الواقع الذي يحيل إليه الخطابُ ويوحي بانعكاساته السلبية.
وبهذا التقسيم يتوافر النص على ثلاثة عناصر هي: وبهذا التقسيم يتوافر النص على ثلاثة عناصر هي:
– الإنسان / الأم- الأمة.
– الغرباء والعسكر- الغاصبون.
– الزمان / الباص- الحركة.
– المكان/الأذن- الأرض.
العناصر الفنية: الإنسان، الزمان، المكان.
العناصر السردية: شخصيات القصة، الباص، الأذن، الأرض.
العناصر المرجعية / الموضوعية: الأمة، الغرباء، حركة التطور ، الأرض.
إن بطءَ حركةِ الباص، وقطعَ الأذنِ تشويه على مستويين، مستوى الزمان ومستوى المكان. وهذا التشويه ينعكس على العنصرالثالث / الإنسان، لكن عملية التشويه في الواقع لا تُنتِج إلا القبح والبشاعة، أما على مستوى القَصّ فقد ولَّدت انزياحاتٍ تمثَّلت في ما تُمكِن تسميتُه (جمالية التشويه)، على غرار (جمالية القبح) التي تحدّث عنها بودلير. حيث زادت هذه العمليةُ من غِنى القيم الفنية للقصة التي تجنب فيها الكاتبُ إحالةً مباشرة إلى مرجِع واقعيٍّ، لكنه رَسَمَ للشخصية امتداداتٍ وأبعاداً زمانية، مكانية، نفسية وجسدية جعلت لها وجوداً نَمطياً، تجاوز به الكاتب أسلوب القصّ التقليدي، لتكون (الأذنُ المقطوعة) مُنجَزاً فنياً نجح الكاتب من خلاله في استنطاق جملة من المكونات الداخلة فيه، كان لتوافرها وتقنيات استخدامها أثر في ترجمة ما استقاه من واقع موضوعي بعد عملية رصد دقيقة، تلتها ترجمة فنية لنتائج تلك العملية إلى لغة سردية سعى من خلالها إلى إحداثِ خلخلة في السرد التراتبيِّ المألوف للأحداث، كما سعى إلى كسر نمطية التسلسل المنطقي للزمان والأحداث وتماسك جغرافية المكان، حيث طرأت تغييرات انعكست فيها عملية التشويه التي تمتد جذورها في عمقين، عمقٍ نَصّيٍّ، قصصيٍّ، أدبيٍّ، يحيل إلى عمقٍ مرجعي، موضوعيٍّ، واقعي، بحيث صار أحدهما يستدعي الآخَر، لكنْ مع الحفاظ على أن يبقي كلٌّ منهما كائناً قائماً بذاته، متسماً بخصوصياته.
هامش:
(الأذن المقطوعة) القصة الأولى من المجموعة القصصية (الموتى لا ينامون). لــ حليم يوسف. (MIRخ RANAZIN) إستانبول ط1، 1996. منشورات أفيستا، (باللغة الكوردية). أما المقاطع المقتبسة فهي من ترجمة خالد جميل مـحـمد. وكانت هذه القراءة قد نشرت سابقاً بصورة مقتضبة في مجلة (گوڵان العربي)، هولير، العدد (32) كانون الثاني، 1998.