هيفي الملا
الغربة ليست تلك المتاهة التي تلفنا في دروب بلاد غريبة،ثم تحاول عبثاً أن تلم شتاتنا، التي تناثرت بسبب عوامل قسرية،
أو اختيارية، سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو علمية، بل الغربة الحقيقية هي التي تقبع في أرواحنا و نفوسنا وهي التي لايقتضي الشعور بها ترك الديار، فقد نشعر بها ونحن على أرضنا وبين أهلنا، متمثلة في غربتنا عن ذواتنا، وعدم فهمنا لمكنونات أنفسنا، وحمل أراء و قناعات لاتستند إلى مرجعية منطقية، أو لاتتناسب وروح الظرف والمكان، فيكون اغترابنا في عدم التواؤم ومقتضيات الفترة أولاً، وعندما تصطدم هذه الأفكار التي لاتنتمي إلى نسق فكري منتظم، مع روح الجماعة وسلوكيات المجتمع، تلف الوحدة صاحبها، وتعتريه العزلة والاغتراب، ومشاعر قد تقسو عليه من الداخل، والتوهم بأنه ليس بإمكان أحد فهمه أو احتواء مشاعره التي تتحول شيئاً فشيء لاغتراب حقيقي، وهذه الحالة قد تعتري أكثر من تعتري المثقف، الذي يشعر بهوة بينه وبين القيم والمثل الإنسانية التي امتثلها وبين السلوكيات الممارسة في مجتمعه، فالثقافة التي من شأنها أن تزيد من قدرة المثقف على الاحتواء ، قد تزرع فجوة بينه وبين الآخر والفهم الجمعي ، لأن سقف توقعاته تعلو، ونظرته لأناه تتضخم، ويتوقع المثالية والمنطق دوماً، لتكون بحجم النظريات التي امتثلها .
وبلاشك هذا النوع من الغربة عن الذات وعن المجتمع، أثارها تكون أقل وطأة ونحنا على أرضنا، ولكنها تستفحل وتتعظم، في بلاد الغربة والمهجر، حيث تزدوج المسببات والشرخ النفسي يتضاعف ، في جغرافية جديدة، وفي ظل سلوكيات جديدة، وثقافة ولغة وأنماط تفكير جديدة، ليتوه المغترب ويبتعد أكثر عن نفسه وكينونته، وهو يبحث في الوجوه الجديدة عن ملامح قد تشبه صمت أعماقه القلقة، تشبه تشتت أفكاره، تلامس ذاته التي افتقدها في بلاده ولن يتعثر بها هنا بشكل أو بأخر، وعندما تفشل مساعيه ولايجد الصدى المناسب لنداء روحه، تشتد وطأة الاغتراب ، وتلعب الغربة دورها الكارثي المزدوج، بغربة جغرافية ونفسية أيضاً، فيفقد حينها القدرة على الإلمام بذاته وتبدأ رحلة الضياع، و التعثر وندب الحظ، وعم إبصار حتى بعض السبل والدروب التي من شأنها أن تمنح بصيص أمل ونور، بل وتطفو على السطح أزمات جديدة، أكثر تعمقا وتوغلا في الضياع، تلك التي يجرها الاغتراب، كأزمة الهوية واضطرابها ، حيث تتصارع المغترب هويتان، هوية يريدها المجتمع وأخرى يرفضها، هوية يحاول المغترب الاحتفاظ بعراقتها ومعالمها، وهوية تفرض نفسها مع الظروف الراهنة، وهنا يتبادر للذهن التهجير السوري والتشتت وصعوبة الاندماج بالمجتمعات الأخرى، فكم من إنسان وجد نفسه ملتبسا بما يخص هويته وانتماءه!!! ونفكر إلى أي درجة يستطيع المغترب الحفاظ عليها، في ظل ازدواجية الأنا والشخصية والهوية .
الغربة إذن ليست الغربة الجسدية، وليست في هجر ديارا عشنا فيها، و وجوها ألفناها، ولغة تعلمناها على صدور أمهاتنا، طبعاً مع عدم إغفال قسوة هذا البعد، وخاصة إن كان قسريا، وفي ظل ظروف خارجة عن إرادتنا، فالنوستالجيا دوما تحرض ذاكرتنا وأفئدتنا وتلامس أعمق مافينا، ولايبارحنا شعور الأمل بأن تزول عوائق العودة يوماً .
لكن ما ركزت عليه هو تصور الفرد الداخلي الذي ينبع من انعزال الفكر عندما لا يلتقي مع الأخرين أينما كانوا، لتفرز خللا نفسياً وعزلة ووجعا في الروح، وصعوبة في التأقلم،
فالغربة النفسية أصعب من الجسدية، لأنها انعكاس لألم دفين لايمكن تصور عمقه وتحمل قسوته، لأنها تدفع الفرد ليتقوقع داخل أفكاره التي ترفض الاحتكاك، ، وتتعمق الفجوة إذا لم يتم تداركها بالتفكير العميق، ومحاولة اقتحام ذلك التفرد، ومعرفة مواطن الخلل النفسي،ومصالحة الذات مع الذات أولاً، ثم مع الظروف والمجتمع، وبلاشك أن ثقافة الإنسان ومرونته، ووعيه وقدرته على الاستيعاب والفرز، هي عوامل مساعدة تمكنه من التقبل والتأقلم وفهم التناقضات الموجودة، والتفريق بين مثاليات الكتب، وعنجهية الواقع وقسوته بكل ظروفه المفروضة، للاستمرار بمسيرة الحياة بنفسية سوية، وقادرة على التعامل مع الواقع، ووحده الحوار مع الذات،
يمنح النفس بعض القبول الفكري، ويرسم لغربة النفس والوطن صورة أقل قسوة، وأكثر اندماجا وتحملا ، لأن الأنسان هو الواعي والمحرك دوما و مهندس الشعور، والعاقل والقادر على توظيف كل نظرية تعلمها لخدمته في التأقلم والمحاكاة والاستمرار مع الحفاظ على مقومات التقدم والإبداع، فالإنسان الذي يولد وتتشكل قناعاته في ظل مؤثرات عديدة ، كالإرث العائلي، وطبيعة المزاج والميول، وسلوكيات المحيط الصغير، ثم المجتمع ثم البلد ككل، والظرف الراهن العام، يجب أن لايكون إزاء هذا كله، مكبلا بالصمت والعجز والإصابة بمرض فقد لذة الحياة، لأنها محفزات على شعور الاغتراب في داخل الوطن وخارجه أيضاً ، وربما الحوار مع الذات يعطي النفس بعض القبول الفكري ، والقدرة على احتواء الظرف مهما كان عظيماً، والتعامل مع أمراض العصر مهما كانت مستفحلة .