أحمد عزيـز الحسيـن
شكّل صدورُ كتاب (بصرياثا) في عام ( 1993) نوعاً من الاختراقِ لمفهومِ ( الجنسِ الأدبيّ)؛ ومفهومِ (النّمط النّصيّ القارّ)؛ إذْ حارَ النُّقادُ الذين قاربوه في تجنيسه، ورأى بعضُهم أنّهُ يوازي، في انتهاكه للأعراف الأدبيّة المهيمنة، كتابَ (داغستان بلدي) لرسول حمزاتوف، وقد حفزهم على هذا طبيعةُ الكتابِ الأدبيةُ المرنةُ، وخصوصيّتُهُ التّجنيسيةُ، وإمكانيةُ انضوائهِ تحتَ حقولٍ نصيّةٍ متعددةٍ، وتقصُّدُ كاتبِهِ الواعي في أن يجعلَ منه (خلطةً واعيةً) من عدّةِ أجناسٍ في الوقت نفسه، إذ إنّ الكتابَ هو نصٌّ سرديٌّ متخيَّلٌ عن المكانِ، وهو سيرةٌ ذاتيةٌ لصاحبه في الوقت نفسه، كما أنّهُ سيرةٌ لمجموعةٍ معينةٍ شاء كاتبه (محمد خضير) أن يتحدّث باسمها، وأن يجعلَ من كتابه صوتاً معبِّراً عن رغباتهاِ وإحباطاتها وأحلامها، وأنْ يعكسَ حضورَها المعنويَّ في مدينته المتخيَّلة، وفِي وجدانهِ ومسارِ حياتهِ، ولهذا قال :” إني أروي عن نفسي، ولكنّي لستُ وحدي في رواية مشاعري، إذ أحسّ بوجوهٍ تتلصّصُ على دفتري، وتتناوشُ سطوري”؛
ولهذا فكتابُه يمكن أنْ يُعَدَّ رحلةً في المكان، وبحثاً عن الذّاتِ في علاقتها بالمكان، كما أنّهُ بحثٌ عن مدينةٍ مرجعيّةٍ ارتقتْ إلى مستوى المتخيَّل، وهو بحثٌ لم يُفضِ إلى الطُّمأنينةِ، والاستقرارِ النفسيِّ، والإشباعِ العاطفيِّ لصاحبه؛ إذ ظلّتِ المدينةُ التي تبحث عنها ذاتُ الكاتبِ تتغيّرُ باستمرار، وتُجبِرُهُ على اللُّهاثِ خلفها، والغوصِ إلى أعماقها بغيةَ نبْشِ ما اختزنتْهُ من تحوُّلٍ وغليانٍ هما اللّذانِ ساعدَانا كقرّاء على فهمِ ما طفا على سطحها من تغيُّراتٍ بدا بعضُها برّاقاً ولامِعاً ولكنّه ما لبثَ أن انطفأ؛ لأنه لامسَ القشرَ، ولم ينفذْ إلى الجوهرِ؛ وهذا ما جعل كاتبه ينبّه إلى هذا في مقدّمة كتابه قائلا:” إنّ الارتحالَ المعنويَّ عن الأمكنةِ الأصليّةِ هو الوسيلةُ الوحيدةُ لاكتشافِ حقيقتها الجوهرية”.
ولم يحظَ هذا الكتابُ بالاهتمام الذي يستحقه من قبل القارئِ أو الكاتبِ العربيِّ إلى أن تلقّفه مترجمٌ إنجليزيٌّ، ووجد فيه تشكيلا أدبيّاً وفنيّاً يُناهِضُ السائدَ؛ فقررَ الاحتفاءَ به، وترجمَهُ إلى الإنجليزيّةِ، وهكذا غادر الكتابُ سياقَهُ العربيَّ، وهاجر إلى لغةٍ أخرى، ولقي فيها تجاوباً يماثل التجاوبَ الذي لقيه نظيرُهُ (داغستان بلدي) في أوساط القراء والمثقفين العرب، والمأمول أن يعود المتلقون العربُ إلى هذا الكتاب من جديد بوصفهِ لقيةً أدبيةً وفنيةً، وأن يعطوه حقَّهُ من المكانة التي يستحقُّها، ويحتفوا بموهبة صاحبهِ الكاتبِ الكبيرِ (محمد خضير) الذي لايزال يُثري حياتَنا الثقافيةَ بدُرَرِهِ النّاضحةِ بالتّميُّز.