حين تصبح القراءة سلوكا

هيفي الملا
بلا شك أن المكتبة إن وجدت في المنزل، فإنها تضفي جمالية خاصة ومنظرا أنيقا، لكن كيف نبعدها عن أن تكون مجرد إكسسوار وديكور جميل للزينة فقط، و كيف نجعلها ملاذ أطفالنا الأمن من السأم والملل وضرورة ومنبع لتزويدهم بعبق الحياة وجمال الأفكار وثقافات الأمم وقصص الحزن والفرح التي تعصر في أدمغتهم ملاحم وقصص شعوب فتصقل شخصيتهم صقلا سليما، يتناغم وروح المعرفة والثقافة٠ التطورات التقنية السريعة وعالم الانترنيت الطاغي الواسع وألعاب الفيديو، والسرعة التي باتت تفوق الزمن والذكاء والتخيل، كيف نستطيع في هذه المعمعة الالكترونية أن نخلق التوازن في نفوس أطفالنا وجعلهم يتعاملون مع هذه الحداثة بشكل يستفيدون منه للتطوير والابتكار والتجديد لا الانجرار الأعمى الذي يفقدنا ويفقد أطفالنا معالم الشخصية والتوازن وقد يكمن بعض الحل في أن نجعل من القراءة نشاطا بديهيا وطبيعيا في البيت لأنها ستأنسهم وتصرفهم عن متعة اللعب وصرف الوقت بلا جدوى،
قد نجد صعوبة في البداية حتى تألف نفوسهم الكتاب والمعلومة التي تثري وتغني أذهانهم لكن سننتشي حبورا وفخرا، عندما تغدو القراءة عادة أسرية يمارسها الكبير والصغير، القراءة التي تساعدنا وبصورة إبداعية في تغيير حياتنا وفهم واقعنا والتعامل مع الأمور بذهنية ناضجة حكيمة وخلق عالم أفضل، ولاننسي أن الطفل المحب للتقليد والمتأثر بسلوك والديه لابد أن يتأثر وينتهج فعل القراءة كممارسة وسلوك،طبعاً مع عدم إغفال الأساليب التحفيزية لتحبيب القراءة للطفل ليستطيع أن يوازن بين مايبني شخصيته وتفكيره ويحفظ توازنه مقابل عناصر الترفيه المشوقة، والألعاب المسلية التي تأسر الطفل لساعات طوال، فيبتعد أكثر مايبتعد عن نفسه وتحديد رغباته وصياغة طموحاته، ويبتعد عن الأسرة وذاك الشعور الدافئ بالانتماء، وحواسه كلها أسيرة التابلت وتلك الأشعة التي تتحكم بمخه وتفكيره، محاولة تخليص الأطفال من هذه الحالة المتفشية جدا، لن تكون مستحيلة وعقيمة، إذا ما الأسرة نفسها اعتبرت إن القراءة بوابة حقيقية للوصول للحياة، و التدرج مع الطفل في عمره الزمني واختيار مايناسب عقله وعمره الزمني مع إضفاء عامل الإثارة والتشجيع والتجديد حتى تتأصل القراءة كسلوك ومنهج وممارسة، مع التحدث معهم باستمرار عن القيم المعنوية للقراءة واكتساب المهارت المتعددة وخاصة مهارة التواصل مع الآخرين، برأيي الأسرة القارئة هي الأقدر على تحقيق الرضى وتقدير الذات عدا عن التفكير السليم والحس اللغوي والجدية وتعديل المزاج بأكثر الوسائل اقتصادية و أريحية، هذا إذا أخذنا في الاعتبار أن الأبوين ليسا أيضاً أسرى للانترينت وعوالمه الافتراضية التي قد تكون سببا للتواصل والفائدة وإشغال النفس عن الضيق، وقد تكون من جهة أخرى أداة بعثرة وضياع لساعات طوال جدا فيما لايجدي وينفع، وكان الأجدر بتلك الساعات أن تكون مستثمرة في غير حقول ٠ 
ربما من الصعب في ظل هذا الغزو الإعلامي إنشاء جيل يعشق رائحة الكتاب الورقي، ويشعر بالحميمة والألفة تجاهه،أو توجيهه للتعامل مع العالم الرقمي بذهنية أكثر تفهما وإدراكا، قد يكون هذا أقرب من أن يكون حلما افلاطونيا في زمن تحكمه المعلومة السهلة السريعة، وتأسره روح التكنولوجيا، لكن عندما تبدأ كل أسرة من نفسها، وتمتلك أدوات التغيير ومكتبة صغيرة في المنزل تكبر أمام أعين الأطفال بحسب أذواق الجميع للقراءة سيختلف الأمر مؤكداً وستكون النتائج إيجابية وإن حققت مداها بعد حين ٠
 ولاأعني بذلك ذم وإلقاء اللوم على التكنولوجيا، التي جعلت كل المعلومات متوفرة وكل الكتب الإلكترونية والمسموعة والثقافات متاحة للفقير والغني، ولكن العبرة تكمن في كيفية استغلال هذه النعمة للتطوير والإبداع لا العكس٠
 فأشد مايحز في نفسي رؤوس أطفالنا المغروسة في شاشات هواتفهم لاندري ماتحصده عقولهم ولاما يترسب داخل نفوسهم، فتتغير سلوكياتهم وتتمثل أبرزها في عنادهم  بالتمسك بهذا الأسر الإرادي، مع التحجج بالفراغ والملل٠ 
 يلزم القول : الحل يبدأ من عندنا نحن الكبار لأن أطفالنا هم نسخنا المكررة، والبلدان المتقدمة التي يقرأ فيها الطفل في سن مبكرة، ليس لإن وعيه وإدراكه أحسن من أطفالنا بل لإن الكبار يقرأون حتى في الحافلات والقطارات والحدائق فكيف لا تتحول القراءة لسلوك بديهي و روتيني ٠ 
حتى لاتتحول المكتبات لمتاحف مغبرة، وحتى لا يتحول أطفالنا لأجساد وعقول محنطة أمام إشعاعات هواتفهم وهواجسهم الخامدة والبليدة شيئاً فشيء، نحتاج لوقفة مع الذات أولا مع أنفسنا وثانيا مع صغارنا، وعندما نخفف من تأثير سيولة هذا العصر وعلاقاته ونظمه، ونحدد وجهتنا فيه سنكون نماذج سليمة وسوية قادرة أن تكون قدوة يحتذي بها أطفالنا، لتتحول حينها كل أسرة إلى نواة قد تصيب بعض التغيير وإن كان في الأمد البعيد ٠

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

حاوره: إدريس سالم

تنهض جميع نصوصي الروائية دون استثناء على أرضية واقعية، أعيشها حقيقة كسيرة حياة، إلا إن أسلوب الواقعية السحرية والكوابيس والهلوسات وأحلام اليقظة، هو ما ينقلها من واقعيتها ووثائقيتها المباشرة، إلى نصوص عبثية هلامية، تبدو كأنها منفصلة عن أصولها. لم أكتب في أيّ مرّة أبداً نصّاً متخيّلاً؛ فما يمدّني به الواقع هو أكبر من…

ابراهيم البليهي

منذ أكثر من قرنين؛ جرى ويجري تجهيلٌ للأجيال في العالم الإسلامي؛ فيتكرر القول بأننا نحن العرب والمسلمين؛ قد تخلَّفنا وتراجعنا عن عَظَمَةِ أسلافنا وهذا القول خادع، ومضلل، وغير حقيقي، ولا موضوعي، ويتنافى مع حقائق التاريخ، ويتجاهل التغيرات النوعية التي طرأت على الحضارة الإنسانية فقد تغيرت مكَوِّنات، ومقومات، وعناصر الحضارة؛ فالحضارة في العصر الحديث؛ قد غيَّرت…

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

الخَيَالُ التاريخيُّ هُوَ نَوْعٌ أدبيٌّ تَجْري أحداثُه في بيئةٍ مَا تَقَعُ في المَاضِي ضِمْن ظُروفِها الاجتماعية ، وخَصائصِها الحقيقية ، مَعَ الحِرْصِ عَلى بِناء عَالَمٍ تاريخيٍّ يُمْكِن تَصديقُه ، والاهتمامِ بالسِّيَاقاتِ الثقافية ، وكَيفيةِ تَفَاعُلِ الشَّخصياتِ مَعَ عَناصرِ الزَّمَانِ والمكان ، ومُرَاعَاةِ العاداتِ والتقاليدِ والبُنى الاجتماعية والمَلابس وطبيعة…

فواز عبدي

يقال إن الأمثال خلاصة الحكمة الشعبية، لكن هناك أمثال في تراثنا وتراث المنطقة باتت اليوم تحتاج إلى إعادة تدوير عاجلة… أو رميها في أقرب سلة مهملات، مع بقايا تصريحات بعض المسؤولين. مثال على ذلك: المثل “الذهبي” الذي يخرجه البعض من جيبهم بمجرد أن يسمعوا نقداً أو ملاحظة: “القافلة تسير والكلاب تنبح” كأداة جاهزة لإسكات…