أجرى الحوار: نصر محمد
تبدو مفرادتها الشعرية المنبثقة من روحها. والمشتعلة والملتصقة بشخصيتها التي رسمتها في حركة لولبية. هي الأقرب الى البناء او المتاهة التي ارادتها. في أغلب قصائدها والتي تغزلت وحلمت بهذه القصائد الذي ارادتها كمتنفس اغترابي يحرك المياه الراكدة في روحها العاجة بالشوق إلى الوطن والطفولة والأهل لكي تبقى بصمتها عالقة في ذاكرة الاخر. انها الشاعرة السورية المغتربة فداء البعيني ضيفتنا وضيفتكم اليوم.. تخرجت من جامعة دمشق – قسم اللغة الإنجليزية، دراسات عليا في الأدب المقارن ثم عُينت معيدةً في نفس القسم ، غير أنها لَويت ذاك الطريق حين استغنت عن الدكتوراة في إنكلترا ، وبعد ذلك درّستُ الإنكليزية في المعاهد والمدارس الدولية وشَغلت منصب رئيسة قسم اللغة الإنجليزية في المدرسة السورية الحديثة في دمشق قبل مغادرتها لسورية بأربع سنوات. أحبت الإنكليزية فقد رافقتْ سنواتِ طفولتها الأخيرةَ ومراهَقَةً قضيتها في إنكلترا، لكنها لم تعرف أنها تحب العربية أكثر فوقعت في غرام سحر هذه اللغة و شعرها.
عمرها في كندا سنتان ونصف ، وحالياً عادت إلى مقاعد الدراسة في الجامعات الكندية علها تكمل ما تركته خلفها منذ سنين خَلت، و تعمل في نفس الوقت على مشروع رواية هو في بداياته الأولى. أما ديوانها الأول فهي تقوم بإعداده أيضاً ، ولم تختر له اسماً بعد ..
يا دمشقُ
يا أرضاً زَرَعتني فيها أجملَ الزهورِ
ماذا يفعلُ من كانَ
بحِيْرَةٍ المأسورِ
أيا حُلماً
هل تجدني غداً في زحامِ المرورِ
ما الذي يَدُّلك عليّ أنذاك
قد أتعمد في غيابك الإختباءَ
في رَوعِك من قلبي الإحتماءَ
الغرقَ
في عزفك لحن الحبِّ الحَصور
فأنا أُنازل خوفي بثوبِ العشق ِ
لا بدرعِ الجَسور
أنا لست الشمسَ
لا لأني نورك في الليل كما النهار
لا لأنك ستبحث عني
على مفارق الأسحار
حين تتلبد الأشواق وتكفهر الهموم
فأنا لست هي
من مُسَلَّمات طقسك و ظلال الغيوم
يا وطنٌ
لا البقاء فيكَ هو بمأمنٍ
ولا هجرك كان سلامٌ
مَدوم
يا قدرٌ لماذا ألوانك مُخَاتِلةٌ
أم أنّها….
لا تتقن خواتم الرسوم
– بداية لو تحدثينا عن فداء البعيني الشاعرة والإنسانة؟
* أنا امرأة وقعت على رأسها ورقة الخريف فنظرت الى الشجرة و ناجت: ما أكرمك رباه ، أعرني بعضا من جمالك، أعطني أجنحة الريح أغازل بها كهولة الأوراق على الشجر حتى تظن أنها ما عادت تحتمل و ماتت عشقا من لمسات الريح
أنا امرأة
تتوهج من جراحها
تطل من نافذة قلبها على الحدائق
أنا انجذاب تناغم و تناقض
في هدوءي يرقد الليل و من جنوني تستيقظ الحرائق
فداء الشاعرة تشبه كثيرا فداء الإنسانة غير أنها أكثر حرية و مقدرة على التعبير عن نفسها في شعرها
– لو تحدثينا عن تجربتك الشعرية. وعن القصيدة الأولى؟
ولماذا اخترت كتابة الشعر دون غيره من الأجناس الأدبية الأخرى؟
* تجربتي الشعرية جديدة نسبياً عمرها حوالي الثلاث سنين و قبل ذلك كنت بعيدة كل البعد عن اللغة العربية بحكم اهتمامي و تعاملي مع اللغة الإنكليزية. قد اختارني الشعر قبل أن اختاره, القصيدة الأولى جاءت نتيجة قراءة الشعر لبعض الأصدقاء على الفيس فجاءت القصيدة الأولى الشرارة التي فجرت بداخلي نبعا من الشعر و المشاعر كالنبع تتجمع فيها المياه حتى إذا امتلأت تنبحس صافية رقراقة من جوفها و للمصادفة كانت قصيدة تحتفل بالشعر و الشعراء.
أما عن الأجناس الأخرى فلي معها أيضا بعض التجارب. خلال عملي كمدرسة اللغة الإنجليزية في مدرسة دولية خاصة كنت أكتب نصوص مسرحية لطلابي طبعا بالإنكليزية و أنا نفسي كنت أشرف على كل المحاور حتى يكتمل العمل في عرض مسرحي .. الابداع بالنسبة لي خلق و حياة والآن أنا في بداياتي لكتابة رواية و التحضير لطباعة ديواني الأول
– ما القصيدة التي شرعت في كتابتها و تحجر القلم في يدك ولن تتمكني من استكمالها؟
* هي القصيدة التي لم تنل حظها من التأمل و الوقت اللازم لها. فكما تعلم أن الفكرة لها وقتها تلمع و زمن الوميض قصير و الإحساس الذي يسكبه الشاعر في كلماته ليكون حقيقيا بعيد عن التكلّف يجب أن يؤخذ طازجاً ندياً قبل أن تتراكم فوقه مشاغل الحياة و همومها. و هناك قصائد أقف في منتصفها أو قبل النهاية لأسباب تتعلق بالقصيدة نفسها و وبأدواتها. و قصائد أخرى كانت تكتمل بين الليل و الصباح فكأن أهمّ للنوم و لا أفعل لكي أكتب ما حضرني و هكذا حتى أغفو
– قصائدك فيها جمال لا متناه و ابتكارات مجازية و صورية من أين يأتي كل هذا. من صدق التجربة أم من شحنة الروح؟ وهل للتمكن اللغوي من تأثير في تشكيل الصورة بمظهرها الابهى؟
* المجاز فتنة و وميض الإفصاح يختفي و يظهر بين السطور، هو يخدم تكثيف المعنى بإضفاء سحره، إنه نشوة اكتشاف القارئ لما يراد منه، هو زهو القارئ و أنت تعطيه حق المشارك في استحضار المعنى فيذكي في فكره التأويل ويبقى السر في قلب الشاعر.
أنا شخصياً أفتتن في المجاز و الاستعارة و التشبيه ولا يشدني كثيرا مألوف الشعر مع كل الإحترام لكل الشعراء، يثير فكري و يستفزني المجاز حين أقرأ لغيري.
سألتني عن مصدر الابتكارات المجازية و الصورية فيما أكتب، هي من شحنة الروح و صدق التجربة إحداهما أو كلاهما معاً، و التمكن اللغوي يعود لمخزون روحي أولا و ثقافي ثانيا لأنني أعتقد أننا لا نخزن إلا ما يلامس أرواحنا بالعموم.
– الشعر بلا إيقاع ليس شعرا. ولا يجب أن نسميه شعرا قد يكون جميلا لكنه ليس شعرا. الشعر تزواج الكلمات باللحن. ومن المعلوم ان القصيدة لها مدلولاتها الأدبية من لغة ومعنى. فهل يجوز أن نطلق صفة القصيدة على القطعة النثرية؟
* إذا كنا نسمي مسرحية شكسبير “مكبث ” أو ” الملك ليير” مسرحاً و ننكر التسمية ذاتها كصنف أدبي على ” بانتظار غودو” ل سميول بَكِت عندها قد نناقش إمكانية إسقاط شرعية الشعر عن قصيدة النثر. الوزن باتباع بحور العروض له وقع جميل على الأذن لكنه في الوقت ذاته يقيد الشاعر إلى حدٍ ما و يكرر نفسه كلحن للكلمة على اعتبار اتباع إحدى البحور. و القيد من جهة أخرى لا يتفق بحرية مع روح الإبداع ناهيك عن حتمية مواكبة التغير عاجلا أم آجلا الذي يلامس الحياة بأطيافها. و مع هذا لا بد من حضور الموسيقى المتناغمة مع الكلمة و التراكيب و المعنى التي تحققها القافية و التقديم و التأخير وغيرها من الأدوات البلاغية ولا ننسى أن لشعر النثر قيم شعرية بتضمين صور شعرية عميقة و تكثيف للمعنى و غموض الذي برأيي بتفوق فيه على القصيدة العروضية بالإضافة إلى توظيف علامات الترقيم و هكذا تستدعي قصيدة النثر التأمل في المعنى و الإشارات و الدلالات..
أنا شخصيا لست ممن يجيدون السباحة في بحور العروض لكني أعلم تماما أنني لو خيرت بينهما لاخترت قصيدة النثر في كل مرة.
– من الملاحظ أن أغلب قصائدك تكتنز في دواخلها عمق و إيحاء و جمال و حب و عشق و فيها أيضا قوة و صراحة و وضوح. هل لك أن تحدثيني عن مصدر إلهامك الشعري و العاطفي و الروحي؟
* قصائدي هي مرآة لي يتضح انعكاسي فيها في آونة و في أخرى يكتنفه الغموض، تتكلم بلسانها لتفصح بصراحة و تسكت لتنطق بإيحاء و عمق عيون الكلمة، تأخذ من قوة شخصيتي دون أن انتبه فتخرج شفافة واثقة متصالحة مع ما تريد البوح به..
يلهبها الحزن و الحب بأشكاله و العشق و جمال الخلق في كل ما ابتدعته الطبيعة، ربما أنني صوفية الهوى نارية الروح، تلك الروحانية القابعة في أعماقي ترفعني إلى الى أعالي السماء و تتعبني حين ترتطم بقساوة وواقعية الحياة المادية..
– الإبداع هو موطن حقيقي للأديب فهل للإبداع علاقة قوية بالمكان الذي يعيش فيه الشاعر؟
* إن قلت نعم أو لا أكون قد عممت و جعلت من نفسي مقايساً و ما يخالف هذا غير صحيح، على الأقل في رأيي، هي حالة فعل و رد فعل و تفاعل الشخص بفكره و أحاسيسه و مشاعره مع داخله و خارجه فنحن نختلف بقدر ما نتشابه و التأثر بالمكان و الزمان حالة فردية فلولا وجود هيلين كيلر مثلاً في المكان الجغرافي حيث هي شلالات نياجرا لما استطاعت أن تصفها و هي التي لا ترى و لا تسمع و لولا قضاء حياته في الصحراء لكتب عنترة عن البحر أو الغابات و المطر.
بالنهاية لا بد من منهل من الداخل و من الخارج إن لم يكن مباشر فهو الآن متاحاً جدا بما جلبه لنا تطور الوسائل المختلفة التي تضعنا افتراضيا في أي مكان و يبقى الحقيقي هو الأنقى و الأكثر تأثيراً.
– هل يمكن للشاعرة فداء البعيني أن تعكس لنا صورة الانطباع الحقيقي الذي يخلقه كتاباتها الشعرية. بكوامنها أي بمعنى صدى قصائدها في أذواق و رؤى الناس كيف تكون؟
*رغم أن هذا الجواب من حق قرائي لا أنا أقول أنني كثيراً ما أقف عاجزة حين تصلني بعض الأصداء فأسأل نفسي: هل أنا من فعل هذا؟ و هناك عدد كبير من يقول بكل صدق أنهم لا يعرفون كيف يتفاعلون فيسكتون لكن الحقيقة أنني روحي تبتسم لأن كلماتي لامست فحركت زهر و عطر النفوس في قارئيها.
– الحركة الثقافية في الداخل السوري كيف تقيمينها وهل هي قادرة على استيعاب كل التجارب الإبداعية؟
* كيف لنا أن نقيمها في ظل ما تعانيه سورية منذ تسع سنوات؟ إن فعلنا لن ننصف أي من الأطراف المكونة لها. أما إذا قيمناها كيف كانت في السنوات التي سبقت عام 2011 فأقول أن في سورية طاقات إبداعية كثيرة و رائعة و مذهلة منها ما وافاها الحظ فارتوت وانتعشت و نمت و اخرى ما ذبل حتى أجلٍ . لكن بالعموم لا بد أن يكون لوزارة الثقافة و التربية والتعليم و وزارة التعليم العالي أيادي خضراء صادقة أمينة، لا بد من ترسيخ روح الإبداع بأنواعه و أن يعي المسؤول و المسؤول عنه أن التحضر و التطور و التناغم ينطلق من الروح. و لأكون أكثر خصوصية و مصداقية فأنا لا أعلم عن الحركة إلا ما ندر منذ أن غادرت سورية الحبيبة.
– المرأة كائن مبدع بالفطرة ولايفصل بينها وبين الخلق الفني سوى العثور على صوتها الموؤد. وفي بلداننا ولادة المبدعة غالبا تكون اشبه بعملية قيصرية بسبب العقبات التي تواجهها تارة من قبل العائلة وتارة من قبل المجتمع والعشيرة. لذلك نجد حضور المرأة ضئيلا في المشهد الثقافي مقارنة بحضور الرجل.. مارأيك بهذا القول؟
* أقول أن كلامك صحيح إلى حد ما مع وجود الاستثناءات. إلا أن حضور المرأة آخذ في التزايد من جهة لأنها أصبحت أكثر جرأة من ذي قبل و من جهة أخرى لأن هيمنة المجتمع بتقاليده و أعرافه أقل وطأة من قبل بشكل عام.
– ماهي معاناة المرأة الشاعرة و الأديبة في مواجهة المجتمع ونظرة الاخر لها.؟ وكيف واجهت الضغوطات الخارجية لأجل ان تكون ؟
* هي معاناة المرأة العربية بشكل عام ومعاناة المرأة الشاعرة أو الأديبة بشكل خاص التي تجرأت على رمي النقاب عن أفكارها و مشاعرها و آرائها من خلال كلماتها في مجتمع لا يزال يعجّ بالمحرمات و الممنوعات تحكمه النواميس الذكورية، يخف هذا أو يزداد تبعا للبيئة التي تعيشها الشاعرة أو الأديبة وإن نجحت في الوصول إلى تحقيق ذاتها تصطدم من جديد بمحاولات التقزيم و ثالوث المحرمات الذي يطبق عليها أكثر مما يطبق على نظيرها الشاعر أو الكاتب. و لنفترض أن كاتبة ما كانت جريئة بما يقتضيه مشهد في رواية لها أو فكرة في قصيدة عندها غالباً ما يُذهب بها في الفكر غير المنفتح و المتقبل و النظرة السلبية إلى مكان هي براء منه و تلصق بها اتهامات و صفات جلّ هدفها ثنيها عن إنجازاتها.
مواجهة تلك الضغوطات تختلف باختلاف حدتها و استعداد تلك الشاعرة أو الأديبة للعمل على أولوياتها الأدبية و تحقيق هدفها ولا ننسى الدعم المعنوي و العاطفي الذي يشد من أزرها فكأن تكون العائلة أو الزوج أو الأصدقاء سنداً في هذه المواجهات.
– فداء البعيني ك امرأة وشاعرة ماهي المعوقات التي تمنعك عن الوصول إلى أكبر عدد ممكن من القراء. وكيف عليك أن تزيلي هذه المعوقات؟
الإنتشار يضمن الوصول إلى أكبر عدد ممكن من القراء و هذا له سياسته و أساليبه المختلفة بغض النظر عن كوني امرأة و شاعرة ، غير أنه للأسف قد تكون هناك جهات معينة لها توجهات من طابع ما، مثلا سياسية أو دينية، فتروج لمن و لما يتماشى مع أفكارها و أهدافها. المشاركة في الندوات لها وزنها، طباعة و نشر القصائد في ديوان، مقابلات على المحطات المسموعة و المرئية و المقروءة و مثيلاتها كالتي تجري الآن هي كلها تساعد على الانتشار. أما من جهتي و كيف أزيل هذه العقبات هنا يقع على عاتقي عدم التقصير بحق نفسي بما يتعلق بالعمل على طباعة اول ديوان لي و غير هذا لا يجب أن أسعى له فهو يأتي رويداً إذا توافرت الظروف الصحية المهنية في تلك الجهات التي ذكرتها آنفاً
– الشاعرة فداء البعيني إلى أي مدى يمكن للشاعرة ان تصف مشاعرها وعواطفها في ابياتها الشعرية؟
* إلى المدى التي تطاله جرأتها وتُمكنها لغتها و رغبتها في مشاركة مشاعرها و عواطفها مع قرائها و يجدر بالذكر هنا ضرورة عدم شخصنة كل ما يكتبه الشعراء فالخيال يبوح بما يفوق الواقع
– الشاعرة الرائعة فداء البعيني سعدت بالحوار معك. وكل نبضة حرف مدهشة وهديل حمامة وانت بخير. واخيرا ماذا أعطاك الشعر. وماذا اخذ منك. ام ان الشعر دائما يعطي ولا يأخذ؟
* هي سعادة و شرف لي أني كنت بينكم اليوم فقد أعطاني الشعر أصدقاء الرقي مثلكم يحملون حب الكلمة في نفوسهم و يُسعدون بمن يقودون شموع القصائد في معابد الشعر ولولا كلماتي ما عرفتكم.
أعطاني الشعر روحي و معها تحمل العتاب لأنني تركتها طويلا قبل أن ألتفت إليها.
بارك لي بأبناء كُثر لأن كل قصيدة هي كالولادة و منحني نعمة أن أضيء كالنور في نفوس من يقرأ و أن أبعث في نفسه شيئاً جميل يشعر به ولا يعلم ما هو. أعطاني و لم يأخذ غير مثقال ذرة لأن ما منحه يَزِن الكثير.