البيت «هي قصة هذه المرَّة»

 إبراهيم محمود
هذه ليست هي المرة الأولى التي يرتفع فيها ضغط دمي فحسب، حيث تتوتر أعصابي دورياً، وحيث لا أعود أبصر الأشياء على حقيقتها جرّاء ذلك أيضاً كما يجب. أتساءل كثيراً:ماذا جرى، وإلامَ يجري ذلك، وكيف ألام على ذلك، وقد حاولت وما زلت أحاول ضبطَ الوضع ما أمكن ؟
كل ما في الأمر، وهو ليس سهلاً، أنني أعاني الكثير من المشاكل، ولكَم بذلت من جهود لئلا يلاحظ أحد، ما أنا فيه وعليه، لكم أحاول النظر في مخرج مما أنا فيه، إنما دون جدوى.
لعل أول سؤال يمكن سماعه، هو: من مسبّب كل ذلك ؟
أقولها مباشرة: إنه أخي، من أبي وأمي، والغريب الغريب في ذلك أننا متشابهات كثيراً، إلى درجة أن هناك من يتلبس عليه الوضع في التمييز فيما بيننا، وهذا يشجعه على التمادي في بث المزيد من التوترات، والإقلاق أكثر فأكثر.
أقول هو أخي. نعم، هو أخي! ترى هل هناك من هو أقرب من الأخ؟ لا أظن ذلك. سوى أن أخي ليس كأي أخ! ربما هناك أخوَّة على شاكلة أخوَّتنا، سوى أن الذي أكون على بيّنة منه، وفي حدود معلوماتي، ومتابعاتي لحالات كهذه، هو أنني أكاد أجزم بأن أخوّتنا حالة فريدة من نوعها.
أتراني أبالغ في الموضوع؟ يقال أن المتوتر في حالة كهذه، يصبح نهْباً للأوهام. أأتوهم حقاً ؟
بيتنا واحد، لكنه مقسّم إلى عدة غرف. إنه بيت قديم، هكذا وجدنا أنفسنا فيه، ليس لدي فكرة دقيقة عن تاريخ بنائه. إن معلوماي الآثارية قليلة بهذا الشأن، لكن ما أعلمه علم اليقين أنه أقدم، من خلال طريقة البناء، شكل البناء، مواد البناء، وحتى موقعه…كل هذه الصفات تدل على أنه قديم، وهناك أفكار كثيرة تدور حوله، وهي لم تنقطع إلى يومنا هذا، عن المخاطر التي تهددتْه.
إنه يقع على مرتفع أرضي، وفي الجوار منا تنتشر بيوت أخرى، ذات أشكال مختلفة، بمواد مختلفة، والذين يقيمون فيها يتحدثون لغات أخرى غير لغتنا، وهذا يضفي طابعاً من الغرابة على المكان، ولطالما حصلتْ خلافات وحالات شجار فيما بيننا، لطالما تعرَّضنا لمضايقات منهم بمناسبة ودون مناسبة، ولطالما كنت أفكر في تلك النوازع الشريرة التي لديهم، كما لو أن ليس لديهم همٌّ آخر، إلا أن يضايقونا، ولا يكفّون عن الصياح، وإثارة الضوضاء، لا يكفّون عن إقلاق راحتنا، يضاف إلى ذلك، أنهم يرمون أوساخهم بالقرب منّا، وهذا يسبب في بث روائح منفّرة في المكان، وإثارة شهية الحشرات وجذْب حيوانات أخرى نسمع أصواتها، ونحس بها وهي تحك أجسامها ببيتنا، وفي بعض الأحيان وهي تتقافز على سطحه، ولكم حاولنا شرح الأمر لهم، بأن في الأمر تعدّياً، حيث يمكن رمي الأوساخ في مكان بعيد، دون أن نصل إلى اتفاق .
ليس لدي أدنى فكرة عن أنني أمضيت يوماً، في هذا البيت وأنا مرتاح، وقد لا أبالغ حين أقول أنه ليس من ليلة تمر دون أن أتعرض لغزو كوابيس، إلى درجة أنني أدمنت عليها لهذا السبب.
ربما سيُسأَل هنا، وما صلة أخي بكل ذلك ؟ نعم، هذا صحيح، وهنا بالمقابل أقول أن لأخي صلة قوية بما يحصل، وخاصة في الفترة الأخيرة، حيث بات يشغل تفكيري بسبب تصرفاته.
علي أن أوضح بعض الأمور أولاً:
أولاً، إن هذا البيت الذي وجدنا نفسنا فيه لم يكن مقسّماً، إنما تم تقسيمه جرّاء خلافات، والحديث يطول عنها، لنجد أنفسنا ضمن غرف عديدة، كل غرفة تطل على جهة، وثمة حائط واطىء جداً يفصل بيني وبين أخي هذا الذي أتكلم عنه، حائط بالكاد يرتفع عن سطح الأرض، بالنسبة إلى رجل مثلي، إذ بقفزة واحدة يمكن الانتقال إلى الطرف الآخر. يعني ذلك، أن كلاً منّا يرى الآخر، في خروجه ودخوله، في تحركاته وهيئاته. على سبيل أيضاً، أننا كثيراً ما تقاسمنا الرغيف الواحد، وفي بعض الحالات من فوق الحائط. ألم أقل إنه حائط واطىء جداً.
ثانياً، إن هذا البيت الذي أتحدث عنه، وإن عاش فيه أجدادي الأوائل، وحسب المعلومات التي توارثناها، لم يمنحنا الراحة أبداً، وحتى إن وجِدتْ، فهي نسبية. في بعض الأحيان نسمع أقوالاً تتردد هنا وهناك أنه مسكون، وتروى قصص وحكايات مخيفة على تماس مباشر به.
ثالثاً، إن هذا البيت، وإن كان يعرَف بمثل هذه الصفات، هو بيتنا، وهو بموقعه المطل على مرتفع أرضي، يسمح لنا برؤية الجهات الأربع من حولنا، يغرينا بالتمسك فيه. وهناك ما هو أكثر من ذلك، وهذا يبعث على الغرابة أحياناً، إيحاؤه بوجود سر فيه، ليكون مزيجاً من القلق والراحة، من الخوف والطمأنينة، من النفور والانجذاب إليه. إن أبسط دليل على ذلك، أن مساحته كانت أكبر مما هي عليه الآن. لقد تم اجتياحنا ممن أصبحوا جيراناً لنا على الرغم منا. أقول ” جيراننا ” وهم لا يتصرفون معنا كجيران، إنما لا يتركون فرصة إلا وينتهزونها لكي يثيرونا، لندخل معهم في شجار، فنتجنبهم، ونلوذ ببيتنا هذا. إنهم يريدون هذا البيت نفسه.
في الفترة الأخيرة ازدادت المخاوف، ولأخي هذا الذي أشير إليه دور كبير في ذلك. فهو مثلاً، لا يتردد في مخالطة هؤلاء الجيران، وهذا يضعفنا معاً. وأشك في نواياه في الحالة هذه، أي في كونه يطلعهم على أسرارنا البيتية التي تثير فضولهم كثيراً، ليبنوا عليها ترّهاتهم .
إنه هو نفسه من يسبب التوتر، وقد اعتاد الفوضى، فهو عاطل عن العمل، فوضوي، رغم أنه لا يشكو شيئاً جهة الصحة الجسمية، وإذا باشر عملاً، فسرعان ما يعافه، ويلازم البيت، وليته لازم البيت وهو هادىء. تارة أشعر بخبطة قدميه على الأرض. ماذا يفعل؟ أهو يرقص؟ ماالذي يفرحه ليرقص؟ وتارة أسمع صوته، كما لو أنه يغنّي، ولكم حاولت أن ألتقط منه بعض الإشارات، لأفهم شيئاً مما يقول، فأعجز عن ذلك، تارة أخرى، أشعر بدبيب رجليه على سطح البيت، في أنصاف الليالي، أو في الفجر، وفي أوقات مختلفة، فيجافيني النوم، وأحتار في أمره .
ليس لدي أي رغبة في إثارته، كأن أزعجه، بالعكس، سريعاً أنسى توتيره لي، سريعاً أراضيه، أحاول تهدئته، لعله يترك مثل هذه العادة المقيتة التي أدمنها منذ سنوات، فأحبَط .
إنه مدمن شراب أيضاً، وليس من حاجة لكي اثبت ذلك، ففي حركاته، وصوته، وقناني المشروبات التي أراها في محيط الدار، ما يؤكد هذا، ووضعه يزداد سوءاً مع الأيام.
المشكلة الكبيرة هي في أن بيتنا واحد، والأنكى من ذلك أيضاً، أن غرفته لصْق غرفتي، وبيننا جدار رقيق، ينقل أي صوت، من أي جهة إلى الجهة الأخرى سريعاً، ولكم سمعت أصواتاً غريبة تأتي من جهته، أصوات تشبه الهمس، وحين أفاتح أخي بذلك مستفسراً عنها، ينكر ذلك، بالعكس، إنه يتهمني بأنني مصاب بوسوسة معينة، بعاهة، وعلي أن أعرض نفسي على طبيب.
ازداد الأمر سوءاً في الأيام الأخيرة، إذ إنه جرّاء إدمانه ومخالطته للآخرين، تسبَّب، لأكثر من مرة في اشتعال النار في غرفته، لأهرع في الحال إلى إطفائها، ليزيد هذا المستجد في إيقاظي أكثر فأكثر، وتزداد أعبائي ومشاغلي وطأةً.
سايرتُه كثيراً، محاولاً دفعَه للكف عن مثل هذه التصرفات التي ستضرُّ بنا جميعاً، نبّهته إلى أن مسألة اندلاع الحريق في غرفته المجاورة لغرفتي، وقد تكرَّرت في الفترة الأخيرة، لا ينبغي التقليل من خطورتها، بسبب نتائجها التي قد تكون مدمّرة، لا بل ومميتة لنا جميعاً، أعيتني الحيل في إقناعه، حيث لم أشأ أن أثير خلافاً بيني وبينه، حتى لا يكون ذلك سبباً إضافياً لمن هم في الجوار، فيتدخلون بيننا، أو يأتون إلينا، وربما يقيمون بيننا بمزاعم شتى، من ذلك أننا نقلق راحتهم، وهذا ما لا يجب أن يحصل .
لم أيأس أبداً في محاولاتي هذه، لأنني أفكر في الأخطر من ذلك، كوني أفكر في النتائج الوخيمة لهذا اليأس، فيما يمكن أن يعقب اليأس، أو خيبة الأمل، فأتمالك نفسي، وكلّي مخاوف ناحيته.
عرضت عليه مراراً وتكراراً بإصلاح البيت، بترميمه، ليصبح أفضل من ذي قبل، على الأقل، ليقاوم النيران، وليكون لكل منا غرفته التي يرتاح فيها أكثر، فأجابَه بالرفض القطعي .
أستطيع القول أنني لم أترك محاولة لإقناعه، أو لتهدئته، أو ليصبح أكثر توازناً، ويقبل على العمل مثلي، فهناك الكثير ليقوم به، ويؤمّن على حياته، ويبعد الخصوم عنا.
كل ذلك، لأنني حريص على البيت، ولأن مخاوفي تزداد، من أن تأتي النيران ذات يوم على البيت كله، وأنا غارق في النوم، أو في غفلة منا، أو حين أكون خارج البيت أعمل في محيطه.
أشعر مع الأيام بنفاد الصبر، وأعبائي تزداد وطأة على تفكيري ونفسي، إلى جانب الأعمال التي أقوم بها، فلا أريد لهؤلاء المحيطين بنا، أن يقولوا عنا يا لهم من متقاعسين ، لا أريد لأحد أن ينال منا بسوء، أن يدخل بيني وبين أخي هذا، دون ذلك ماالذي يدفع بي لأتحمله هكذا؟
غير أن الرياح التي تجري حتى الآن وهي تشتد أكثر فأكثر، ليس كما تشتهيها سفني، أثارتني كثيراً في الآونة الأخيرة، وعرَّضتني لفكرة أخاف من مجرد تسميتها، فكيف بالحديث عنها. كيف لي أن أسمّيها وهي إن سمّيتها ستثير شهية من في الجوار، وهزئهم بنا؟!
إنها فكرة باتت تعرض نفسها علي، فلا أجد مفراً منها في الكثير من الأحيان، أقولها وأنا أشعرني ريشة في مهب الريح، أرجف من الداخل، حيث أخي في الواجهة.
إنه لم يعد خطراً على نفسه، إنما علي، وعلى البيت كله، الخطر في أن يسبب ذات مرة في اندلاع النار في البيت لنصبح جمعينا هشيماً، وهذا ما يتمناه جيراننا غرماؤنا.
سأبوح بهذه الفكرة، لقد لقّمت البندقية، والهدف هو أخي، أخي الذي لم يعد أخي، كما هي صلة الأخ بأخيه. البندقية معلَّقة على الحائط، والحائط ماثل أمامي، سأحاول تجنبها ما أمكن، أقصى ما أستطيع. ليت أخي يبقى أخي. ليت…!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…